أساليب معالجة الملوثات

البيئيّة

في التراث العلمي العربي

د. سائر بصمة جي-تاريخ العلوم الأساسية

لقد ترافق ظهور الملوثات البيئيّة منذ ظهور التمدن والتحضّر البشري، فقد كان لدى كل حضارة من الحضارات مخلفات وبقايا (سواء تلك الناجمة من الصناعة أو المنازل) تشكّل بمجموعها كتلةً مؤثرة في المحيط والمكان الذي يعيش فيه الناس، ومن هنا كان على النخب العلميّة المثقّفة، من مهندسين وعلماء، إيجاد حلول لهذه المشكلة.

لقد واجهت الحضارة العربيّة الإسلاميّة، والنهضة التي قامت بها خلال ألف عام بين القرنين السادس والسادس عشر الميلاديّين، مشكلة الملوثات البيئيّة وانتشارها بأشكالها الثلاثة الصلبة، والسائلة، والغازيّة، وقد كانت لدى المتعاملين مع هذه الملوّثات عدة حلول سنسلط في هذا المقال الضوء عليها، ربما تكون مفيدة أو مساعدة على معالجة الملوثات الحاليّة. 

المصادر التراثيّة البيئيّة

يمكن العثور على المادة العلميّة العربيّة التي تركز في موضوعات البيئة في مصادر موسوعيّة أو في مصادر منفردة متخصّصة. وقد وجدنا أن نلمح على عجالة إلى أهم هذه المصادر حسب تسلسلها التاريخي: 

أولاً – المصادر المنفردة

  1. رسالة (الأَبْخِرَة المـُصْلِحَة للجو من الأوباء)، ورسالة (في الأدوية المشفية من الروائح المؤذيّة) لمؤلفها يعقوب بن إسحاق الكندي (توفي256/873م).
  2. كتاب (أسباب الوباء بمصر والحيلة في دفعه)، ورسالة (في إصلاح فساد الهواء) المفقودة للمؤلف ابن الجزار القيرواني (توفي 369/ 980م).
  3. كتاب (مادة البقاء في إصلاح فساد الهواء والتحرز من ضرر الأوباء) لمؤلفه محمد بن أحمد التميمي المقدسي (توفي بعد 369/ 980م).
  4. كتاب (دفع مضار الأبدان بأرض مصر) لمؤلفه عليّ بن رضوان (توفي 460/ 1067م).
  5. (رسالة في طبع الإسكندريّة وحال هوائها ونحو ذلك من أحوالها) لمؤلفها هبة الله بن زبن بن جُميع (توفي 594/ 1198م).
  6. رسالة (في مزاج دمشق ووضعها وتفاوتها من مصر وأيهما أصح وأعدل) لمؤلفها الطبيب يعقوب بن إسحاق، الملقب بأسعد الدين المحلي (توفي نحو 605/ 1208م).
  7. كتاب (الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر، أو آثار مصر) لمؤلفه عبد اللطيف البغدادي (توفي 629/ 1231م).

ثانيًا- المصادر الموسوعيّة الشاملة

  1. كتاب (الكُنّاش) لأهرن القسّ (كان حيًّا في القرن 1/ 7م).
  2. كتاب (الحيوان) لعمرو بن بحر الجاحظ (توفي 255/ 869م).
  3. كتاب (الحاوي) لأبي بكر الرازي (توفي 313/ 925م).
  4. كتاب (القانون في الطب) لابن سينا (توفي 428/ 1037م).
  5. كتاب (مقدمة ابن خلدون) لابن خلدون (توفي 808/ 1406م).
  6. كتب الجغرافيين والبلدانيين العرب، وكذلك مؤلفات الحسبة وفقه النوازل وأحكام البنيان وفقه العمران.

معالجة تلوث الهواء

لا يمكننا –نحن البشر وبقيّة الكائنات الحيّة- العيش دون هواء صحيح سليم، ولذلك فإن أي تغيير يصيب جوهره سيلحق أذىً وضررًا عظيمًا بالجميع، وهو ما يشهد عليه عصرنا الحالي. في الواقع –ومن باب المقارنة بين معظم المصادر التراثيّة العربيّة- يعدُّ كتاب ((مادة البقاء في إصلاح فساد الهواء والتحرّز من ضرر الأوباء)) للتميمي أهم كتاب عربي متخصّص في مجال البيئة، وعلى وجه الخصوص، ما يصيب الماء والهواء من تغيّرات لها انعكاساتها السلبيّة على صحة الإنسان.

وحتى يؤسس التميمي لمنهجيّة دقيقة في عمله هذا كان منه أن وضع إطارًا علميًّا يسير على منواله في كل الكتاب، فقد اعتمد تعريف أهرن القس للهواء الملوث أو الفاسد على أنه ((الجو المفرط غلظًا أو المفرط يبسًا أو المفرط حرًّا أو المفرط رطوبًة، أو المنتن رائحًة أو المظلم الكدر الغبار، كل ذلك فاسد»، ولا يكاد هذا التعريف يختلف عن التعريف المعاصر الحديث إلا بصياغة المصطلحات.

حدّد التميمي في هذا الكتاب خمسة أسباب لتلوث الهواء، وهي: مصدر الرياح، ومجاورة المدن لشواطئ البحار والأنهار والمستنقعات، وانتشار مكبّات النفايات، ومياه الصرف الصحي السطحيّة، والانقلابات الفصليّة، وتنفس الهواء في مكان مغلق، وكلها أسباب صحيحة أثبت العلم الحديث أن لها تأثيرها في صحة الهواء والناس. وقد تبنّى التميمي أسلوبًا علاجيًّا غريبًا كان الحرنانيون (فرقة من الصابئة أو المجوس) قد اعتمدوه عندما يتلوّث الهواء عندهم، وهو إشعال النار، ونشر الروائح العطريّة في الجو، والواقع أن التميمي برر اعتماده لهذا الحلّ بدعوى سيطرة عنصر النار (حسب نظريّة أرسطو عن العناصر الأربعة) على بقيّة العناصر الأخرى (الهواء والماء والتراب)، فاعتقد أن نشر النيران قد يصلح بقيّة العناصر.

كما انتبه الجاحظ إلى تأثير تلوث الهواء في الحالة النفسيّة للإنسان أيضًا، وليس الصحيّة فحسب، إلى درجة تجعله يتخلّى عما كان عليه من الطباع، وقد قال: ((وقد رأينا العرب وكانوا أعراباً حين نزلوا خراسان، كيف انسلخوا من جميع تلك المعاني)). أما ابن سينا فقد فصّل أسباب تلوّث الهواء في عصره في كتابه ((القانون في الطب)) إلى اختلاط مادة الهواء بما تطلقه جدران خزانات المياه الأرضيّة المبنيّة حديثاً (التي كانت تسمى بالصهاريج) من روائح، وكذلك، فإن الهواء يفسد عندما يحتبس في الأراضي المنخفضة أو يمرّ بأراضٍ فيها نباتات، مثل: البقل أو الكرنب أو الجرجير أو الجوز أو التين. لكنه لم يشر إلى دور الصناعات في هذا التلوث، وما تطلقه من أبخرة وأدخنة، وقد حاول ابن سينا أن يفسّر سبب حدوث هذا التلوّث بظهور تغيّرات في طبيعة مادة الهواء تجعل الأخير ((يعفن ويستحيل جوهره إلى الرداءة))، أو أن التلوث قد يحدث بسبب تغيّر درجة حرارة الهواء. وأشار ياقوت الحموي (توفي 626/ 1229م) إلى أن الهواء قد يتلوث أيضًا بسبب السبخات الملحيّة الموجودة في المكان، كما هو الحال في مدينة الفرما التي تقع في مصر.

انتبه الحموي أيضاً إلى التلوث بالأدخنة الذي تسببه التنانير المنتشرة في مدينة الأهواز، والتي بلغ تعدادها 50 ألف تنور، فقد كان أهلها يحبون أكل خبز الأرز طازجًا ساخنًا. لمعالجة مشكلة تلوث الهواء في المدينة، كان ولاة الأمور ينقلون أهل الصناعات إلى خارجها بعد أن يؤسسوا لهم مواقع خاصة لعملهم، وهو ما فعله أبو جعفر المنصور في مدينة بغداد، وكذلك عضد الدولة البويهي في مدينة كرد فناخسره القريبة من شيراز. واقترح الطبيب أسعد الدين المحلي لعلاج فساد الهواء في البيوت استخدام مواد طبيعيّة وصديقة للبيئة، مثل: الكزبرة المنقوعة في الخلّ، أو الورد المنقوع، أو الصندل التي تبخر في مداخل الهواء إلى البيوت. أيضاً كانوا للتخفيف من آثار تلوث الهواء بالغبار يرصفون المدينة كلها بالحجارة، كما كان حال مدينة القدس، إضافةً إلى زرع الأشجار في المسطحات الترابيّة.  

معالجة تلوث الماء

الماء هو الركن الثاني من أركان أسباب وجودنا – والكائنات الحيّة الأخرى- على ظهر البسيطة، وقد لاحظ التميمي العلاقة التبادليّة في التلوث بين الماء والهواء والتراب، إذْ إن تلوّث الهواء يؤدّي إلى تلوث الماء الهاطل مع الأمطار، وهو ما يؤدّي إلى تلوث التربة، وكل ما ينتج عنها. وقد اقترح التميمي عدة طرائق لمعالجة تلوث المياه حسب درجة تلوثها والظروف المحيطة:

  1.  في حالة التلوّث الخفيف: يُغلى الماء، ثم يبرّد، ثم يرشّح في أوانٍ خزفيّة جديدة. وإما أن يضاف له مادة كحوليّة معقّمة.
  2. في حالة تلوّث الماء الشديد: فقد اقترح إضافة الشب اليماني (كبريتات الألمنيوم)، وهي مادة مرسّبة لا تزال تستخدم حتى اليوم في محطات معالجة المياه، وكذلك اقترح استخدام خشب الساج وملح الطعام ورماد قلوب اللوز أيضاً للمساعدة على عمليّة التخلّص من العوالق، ولزيادة كفاءة الترسيب اقترح أن يحرّك المزيج، بعدها يترك هذا المزيج لمدّة ساعة لترسيب الشوائب، وهي طريقة صحيحة وعلميّة.

هذه الطرائق ستظهر مرة أخرى في أعمال أسعد الدين المحلي، مضيفاً عليها استخدام الترسيب باستخدام الطين الأرمني.

معالجة النفايات الصلبة

تتنوّع أشكال النفايات الصلبة التي عرفها العرب من البقايا العضويّة إلى المواد الزجاجيّة. وقد كانوا قبل معالجة النفايات الصلبة يقومون بعمليّة جمعها أولاً، فقد كان كل منزل أو منشأة تضع أمامها حاوية، وكان عامل النظافة (الكنّاس) يمرّ في أوقات محدّدة ليجمعها ويضعها ضمن حاوية سعتها بين 2 – 4 متر مكعب، وكانت الحاوية توضع على عربة يجرّها جمل أو حمار أو بغل أو حصان. كانت معظم النفايات الصلبة التي تفرزها المنازل ذات طبيعة عضويّة (بقايا الطعام والخبز الجاف وقشور البطيخ، …إلخ)، لذلك كانت تُنقل إلى خارج المدينة، حيث تُباع لأصحاب المزارع والبساتين المجاورة للمدينة، ومن ثمّ يقوم شخص اسمه (السوادي) بتخميرها واستخدامها كسماد عضوي كون معظمها لا يحوي على مواد ملوثة سامّة. هذه العمليّة تطوّرت كثيرًا بتقنياتها، وتسمى حاليًّا محسنات التربة العضويّة (الكومبوست).

أما المواد غير العضوية فقد كانت تتم إعادة تدويرها للاستفادة منها من جديد، فقد كانت الأقمشة البالية (الخرق) مثلاً إما تقطّع على شكل سرائد طويلة لتصنع منها البسط التي تُفرش في الأراضي، أو تستخدم كحشوات في صناعة الأحذية، وكان يسمى من يقوم بهذه الأعمال (الخرقي). كما استخدم العرب الخرق في صنع الورق بدلاً من استهلاك الكتان والقنب. وقد أعادوا تدوير الزجاج المكسور من خلال صهره وتشكيله بهيئة صحون وكاسات وعبوات زجاجية. نشير أخيرًا إلى أن أحد أسباب نظافة البيئة – بأشكالها كافةً- في فترة الحضارة العربيّة والإسلاميّة، والرّقي بالمستوى الأخلاقي في تعامل الناس سواء مع بعضهم بعضًا أو مع بيئتهم، هو القاعدة النبويّة الشريفة: (لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ)، التي أسهمت في تطوير منظومة الحسبة التي كانت مسؤولةً بدورها عن مراقبة تطبيق الشروط والمواصفات والمعايير البيئيّة الكفيلة بالحفاظ على صحة البشر والشجر والحجر.

وإن دلّنا هذا على شيء، فإنه يرشدنا إلى أن حلّ أزمة البيئة العالميّة التي بدأت تداعياتها الكارثيّة تظهر حاليًّا هو النظرة العقائديّة الصحيحة، والالتزام القانوني والأخلاقي بمعايير مراعاة البيئة، وبغير ذلك، فإن النكبات البيئيّة ستتوالى تترى على كل الحياة على كوكب الأرض.

Share This