أ.د. أحمد فؤاد باشا - أستاذ الفيزياء والرياضيّات ومحقق للتراث العلميّ – 29 مارس 2021م
علوم البيئة والوبائيات في التراث الإسلاميّ
يؤرخ في المراجع الأجنبية للوبائيات Epidemics وعلم الأوبئة Epidemiology بكتاب الماء والهواء والبلدان المعروف باسم كتاب أبيذيميا لأبقراط منذ نحو 400 سنة قبل الميلاد.
وهذا الكتاب مؤلف من عدة أجزاء يصف فيها أبقراط الأمراض التي تتعرض لها جماعة كثيرة من الناس في وقت واحد ومكان واحد بسبب التلوث البيئي. ثم شرح جالينوس هذا الكتاب في مؤلفه شرح كتاب أبيديميا.
وينتقل التأريخ لهذا العلم إلى عام 1854م عندما قام طبيب تخدير انجليزي Anesthesiolgist يدعى جون سنو John Snow بسلسلة أبحاث يحاول فيها أن يفسر انتشار وباء الكوليرا في لندن، وأطلقوا عليه أبا علم الأوبئة Father of Epidemiology.
هذا ما يؤرخ له في الثقافة الغربية، فهل يا ترى نجدُ له أرومة في الحضارة العربية الإسلامية؟
البيئة وعلومها في تشريعات الإسلام
لقد سبق الدين الإسلامي الحنيف إلى وضع تشريعات محكّمة لرعاية البيئة وحمايتها من آفات التلوث والفساد، ورسم المنهج الإسلامي حدود هذه التشريعات على أساس التزام مبدأين أساسيين يحدّدان مسؤولية الإنسان حيال البيئة التي يعيش فيها.
أما المبدأ الأول: فهو درء المفاسد حتى لا تقع بالبلاد والعباد، وتسبب الأذى للفرد والمجتمع والبيئة، حيث لا ضرر ولا ضرار.
وأما الثاني: فهو جلب المصالح وبذل كل الجهود التي من شأنها أن تحقق الخير والمنفعة للجماعة البشرية.
وأهم ما يميّز المنهج الإسلامي في الحفاظ على البيئة هو الأمر بالتوسط والاعتدال في كل تصرفات الإنسان، بوصفه من أهم عوامل الخلل والاضطراب في منظومة التوازن البيئي المحكم الذي وهبه الله- سبحانه وتعالى- للحياة والأحياء في هذا الكون. قال تعالى: ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدى الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلّهم يرجعون (الروم:41).
ولقد أقام الإسلام بناءه كله على الوسطيّة، والتوازن، والاعتدال، والقصد، وحثّت التعاليم الإسلامية على حماية البيئة والاهتمام بالنظافة العامة، ورأت التلوث بكل أشكاله نجاسة كريهة يجب علي المسلمين التطهر منها، وقد ورد لفظ طهر ومشتقاته في القرآن الكريم أكثر من ثلاثين مرة لإيجاب طهارة البدن والنفس المؤمنة والبيئة الإنسانية في الظاهر والباطن، وهذا ما يعمل علي إصحاح العقل والنفس والبدن؛ لتوفير كافة المقاصد الرئيسة الخمسة للشريعة الإسلامية كما يراها الفقهاء وهي بترتيب أهميتها: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال.
البيئة والأوبئة في التراث الإسلامى
يزخر التراث العربي الإسلامي بمؤلفات كثيرة حول البيئة وسلامتها من جوانب مختلفة.
فقد قام حنين بن إسحق (ت 837م) بوضع كتاب شرح جالين لكتاب أبو قراط، ترجمةً وإضافات وتصويبًا، ثم أضاف إليه وعلق عليه ابن النفيس الدمشقي (ت 1299م)، وأسماه المرض الوافد، أي المعُدي، كما صنّف شرح كتاب الأهوية والمياه والبلدان، ونقد فيه آراء طبيّة لأبقراط وابن سينا وحنين بن إسحق، وتحدّث عن كيفيّة معالجة تلوث المياه لتصبح صالحة للاستعمال.
وللكندي (ت 873م) رسالة في إيضاح علّة السموم القاتلة السَّمائية المسمّاة بالوباء،
ورسالة في الأدوية المشفيّة من الروائح المؤذيّة، و رسالة في الأبخرة المصلحة للجو من الأوباء. ومن مؤلفات قسطا ابن لوقا (ت 912م) كتاب في الإعداء (الأمراض المعديّة)، ورسالة في تدبير سفر الحج (النظام الطبي للحجاج).
أما الرازي (ت 925م) فقد نشد سلامة البيئة عندما استشاره عضد الدولة في اختيار موضع لمستشفى ببغداد، فاختار الناحية التي لم يفسد فيها اللحم بسرعة، ومن مؤلفاته: رسالة في الوبائيات، ورسالة في المياه (أنواعها)، والسبب في قتل ريح السموم أكثر الحيوان، ورسالة في تأثير فصل الربيع وتغيُّر الهواء تبعًا لذلك. ولابن الجزار (ت 980م) مؤلف بعنوان نعت الأسباب المولّدة للوباء في مصر وطريقة حلّها وعلاج ما يتخوَّف منه، ولأبي سهل عيسي بن يحيى الجرجاني(ت 1010م) رسالة في تحقيق أمر الوباء والاحتراز منه وإصلاحه إذا وقع.
وهناك من اهتّم بالوباء في إقليم معين، مثل ابن جميع (ت 1198م) في كتابه طبْع الاسكندرية، ويعقوب بن إسحق الإسرائيلي (ت 1204م) في كتابه مزاج دمشق ووضعها وتفاوتها عن مصر وأيهما أصح وأعدل، والظفر بن عبد الرحمن (ت 1276م) في كتابه مزاج الرقة وأحوال أهويتها وما يغلب عليها.
وفى كتابه دفع مضار الأبدان بأرض مصر يتحدّث على بن رضوان المصري عن الأمراض الوافدة (أي المعدية) ويعزيها إلى أربعة أسباب هي: تغيُّر كيفيّة الهواء، والماء، والغذاء، والأحداث النفسانيّة، ثم ينصح بضرورة أن تكون المساكن فسيحة لينحل منها من البخار (أي الرطوبة) مقدار وافر، ويكون لها مخاريق (طيقان وشبابيك وأبواب) ينحل منها البخار، ويدخل منها شعاع الشمس، وينبغي أن تكون مرخمة، ومبلّطة، أو معمولة بالجصّ و الجبس، ويُتعاهد تنظيفها، وتفرش في الأوقات الحارة بالحصر الباردة.
ويحذر ابن رضوان من خطورة التلوث الهوائي والمائي على الصحة قائلًا: الهواء يتغيّر معه الأشياء التي يحيط بها، وإن الماء إذا تغيّر، وإن كان كثيراً كماء النيل، غير الهواء، وكذلك أنفاس الناس تغيّر الهواء إذا أكثر فيهم المرض… من أجل هذا ينبغي أن تصرف العناية في كل مرض وافد [جائحة أو وباء] إلى إصلاح الهواء. وقد حظي هذا الكتاب لابن رضوان باهتمام الباحثين مؤخراً بعد أن ترجمه ميشيل دولز M. W. Dols إلى الإنجليزية، ونشر في سنة 1984م.
التميمي المقدسي مؤسس علم الوبائيّات
لقد تناول علماء الحضارة الإسلامية مشكلات التلوث البيئي في أجزاء أو فصول من مؤلفاتهم، ولكن هناك من رأى ضرورة معالجة الموضوع في كتاب مستقلّ، ليؤكد أهميته في حياة الناس على مرّ العصور. فقد صنّف محمد بن أحمد التميمي المقدسي في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) كتاباً كاملاً عن التلوث البيئي وأسبابه وآثاره وطرائق مكافحته، والوقاية منه، وفصل الحديث عن ثلاثية الهواء والماء والتربة، وتبادل التلّوث بين عناصرها. وجعل عنوانه مادة البقاء في إصلاح فساد الهواء والتحرّز من ضرر الأوباء، وجعله المؤرخون أساسًا لعلم الأوبئة (أبيديميا).
أما المؤلف فهو محمد بن أحمد بن سعيد التميمي المقدسي، كان مقامه أولاً بالقدس ونواحيها، وبها قرأ علم الطب، وانتقل إلى مصر سنة 360هـ/970م وأقام بها إلى أن توفي. لم تذكر المراجع سنة ولادته ولا وفاته على وجه التحدّيد، لكن أغلب المراجع تشير إلى أنه كان موجوداً بمصر سنة 370هـ/980م، وأنه ألف كتاب مادة البقاء بعد سنة 368هـ، فهو إذن من علماء القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي).
وقد أفاد من مؤلفاته العلماء الذين جاؤوا بعده، أمثال: على بن رضوان المصرب، وموفق الدين عبداللطيف البغدادي، وابن البيطار ضياء الدين عبد الله بن احمد الأندلسي، وابن قيّم الجوزية، وغيرهم.
محتويات كتاب مادة البقاء
يتضمن كتاب مادة البقاء للتميمي مقدمة يشرح فيها المؤلف سبب تأليفه الكتاب ويعرض محتوياته التي وزعها على عشر مقالات هي:
المقالة الأولى: تتضمن أربعة أبواب:
الباب الأول: في كلام أبقراط على ما توجبه تغيّرات فصول السنة من حدوث الأمراض العامّية.
الباب الثاني: في كلام أرسطاطاليس الحكيم على مثل ذلك.
الباب الثالث: في كلام أهرن القس على مثل ذلك.
الباب الرابع: في الفرق بين الأمراض العاميّة وغيرها من الأمراض.
المقالة الثانية: تتضمن ثلاثة أبواب:
الباب الأول: في فساد الهواء الحادث في أواخر أيام الربيع وأواخر أيام الخريف، وذكر ريح السواد التي تثور كثيرًا بأرض الحجاز.
الباب الثاني: في فساد الهواء الحادث بالعراقين وفارس والموصل وديار ربيعة وبكر وأرض الحجاز واليمن وسيف البحر ومدن الشام وسواحل البحر الشامي، وهو الفساد المسمّى بالعراق الصمر وبالشام ريح السموم.
الباب الثالث: في ذكر إعداء العلل الحادثة من فساد الهواء وتخطيها من المرضي إلى من يجاورهم من الأصحاء، وذكر غير ذلك من العلل المعديّة.
المقالة الثالثة: تتضمن ثلاثة أبواب:
الباب الأول: في تدبير أبدان الأصحاء عند فساد الهواء، ممن كان بدنه متهيئّا لقبول العرض الممْرِض.
الباب الثاني: في النهى عن دخول الحمّام عند فساد الهواء، لعامة الناس ممن لا إمكان له، وكيف يجب لذوى الإمكان واليسار دخولُه في ذلك الوقت عند الضرورة.
الباب الثالث: في ذكر أخْذ الأدوية المركبة الدافعة ضرر فساد الهواء إذا شربت فى حال الصحة، وكيف يجب أن تُشرب على التدريج.
المقالة الرابعة: تتضمن بابين:
الباب الأول: في ذكر الدخن المصلحة لفساد الهواء، وهى الأقفاء التي كان القدماء من الحنفاء يتّخذونها على أسماء الكواكب، ويبخرون بها منازلهم عند حدوث الأوباء، وفساد الهواء.
الباب الثاني: في كيفية إصلاح الماء الفاسد وتدبيره حتى يصلح.
المقالة الخامسة: تتضمن بابين:
الباب الأول: في ذكر أدوية هنديّة، تذكر علماءُ الهند أنها تمنع الهرم، وتعيد الشباب المنصرم، وتديم الصحة، وتنفى السقم.
الباب الثاني: في تدبير أشربة … تدفع حدوث الأمراض عن الأجسام، وتديم الصحة، وتسرّ النفوس.
المقالة السادسة: تتضمن بابين:
الباب الأول: في ذكر الطِّيب وإصلاح روائحه للهواء الفاسد، وتقويته لنفوس الأصحاء، والمرضى، وذوي العلل المهلكة.
الباب الثاني: في ذكر ما يحدثه نغم الألحان في النفوس من المنفعة الدافعة ضرر فساد الهواء وإبراء العلل الكائنة في الأوباء.
المقالة السابعة: في ذكر الهموم النفسانيّة الفاسدة الموقعة في الأمراض الوهميّة، وأسباب ذلك وعلاجه والأسباب الموجبة لصحة الرؤيا المنذرة بالأمور الكامنة.
المقالة الثامنة: تتضمن بابين:
الباب الأول: في ماهية الجدري والحصبة، وأسبابهما وعلاجهما.
الباب الثاني: في الماشرا وعلاجه.
المقالة التاسعة: تتضمن سبعة أبواب:
الباب الأول: في أنواع الأشربة الدافعة ضرر الأوباء والأمراض الحادة المسكنة لثوران الدم، المطفئة له وللمرّة الصفراء، الحابسة منها والمطلقة.
الباب الثاني: في ذكر تركيب أقراص تستعمل مع تلك الأشربة، فتعينها، وتجرى في المنفعة مجراها.
الباب الثالث: في ذكر المعاجين والدرياقات المستغربة النافعة من سموم الحيوانات وغيرها، المصلحة لفساد الهواء.
الباب الرابع: في ذكر الجوارشنات الملوكيّة النافعة لضعف المعدة والقلب والكبد، المطيّبة للنفس، المحدثة للفرح والطرب.
الباب الخامس: في ذكر شيء من الأنبجة والمربّيات، مما يحتاج إليه عند ذلك.
الباب السادس: في ذكر سفوفات حابسة للطبيعة مقويّة للمعدة، وسفوفات مقويّة للقلب، نافعة من أنواع الإسهال، ومن علل المالنخوليا.
الباب السابع: في ذكر سفوفات مقويّة للثة مصلحة لها جاليّة للثغر، وذكر حبوبًا عطريّة مطيّبة لروائح النكهة، مقوّيات للمعدة، وطيّبة للنفس.
المقالة العاشرة: في ذكر أدوية مفردة مكتومة، وهي التي كنى عنها جالينوس- فيما زعموا – ورمزها ضنًّا بها، وذكر منافعها مما تولى شرحه وتفسيره حنين بن إسحاق، وهى ستة وأربعون عقارًا.
منهج المؤلف في تأليف الكتاب
يعطينا التميمي مثالًا رائعًا للباحث الجيد الذى يتوخى الدقة في اختيار موضوع بحثه، ويستشعر بحسّه العلمي وإدراكه الواعي أهميّة هذا الموضوع، ومسؤولية التصدي له، وموضوعيّة معالجته، وأمانة البحث فيه. فهو يوضح سبب تأليفه كتابًا مستقلًا عن فساد الهواء دون غيره بقوله:
وكان السبب الباعث لي على تأليف هذا الكتاب والعناية بهذا الأمر، أني نظرت حال علماء الأطباء الساكنين بالأمصار الفاسدة الأهوية والبلدان المشهورة بالأوبئة الكثيرة الأمراض، التي تحدث بها عند انقلابات فصول السنة الأمراض القاتلة والطواعين المهلكة لأجل فساد أهويتها بمجاورة الأنهار الكثيرة المدود؛ والمدائن التي تُحدّق بها الغدران، ومناقع المياه الآجنة، والمشارب الكدرة التي تتصاعد أبخرتها إلى الجو فتفسده وتغلظه، مع ما يعضد ذلك ويقوّيه من أبخرة الزبول، ومجارى مياه الحمامات بها، وأبخرة الجيف من الحيوانات الميّتة الملقاة في أفنيتها وظواهرها، وعلى ممر سالك طرقاتها… فكان الأولى بالذين يتولّون منهم علاج ملوكها، وخاصة رؤسائها، وعامة أهلها أن تكون عنايتهم بمداواة الهواء الفاسد المحدث لوقوع الأوبئة بها، الجالب للطواعين على سكانها، أوْلى وأوْجب من عنايتهم بمداواة ما يحصل بذلك من الأمراض المخوفة في أجساد أهلها وأن يصرفوا فهمهم إلى ذلك ويفرغوا له نفوسهم…
ولم أر أحدًا من المتقدّمين منهم ولا من المتأخرين أمعن النظر في ذلك وعُنى به أتمّ عناية حتى وضع له كتابًا، ونصب له أمثاله من العلاجات، فكان منْ بعده يقتدى به ويسلك في ذلك محجته، غير الفاضل أبقراط، فإنه وضع كتاب الأهوية والبلدان والمياه… فنبّه مَنْ بعده ما استودعه من الحكمة، وسجل به من القول الوجيز والرأي المصيب من رقدة الغافلين.
وهكذا يُذكر للتميمي فضل السبق إلى حسبان قضية التلوث البيئي بالهواء الفاسد موضوعًا مهمًا وأساسيًا يستحق البحث بشكل مستقل في كتاب كامل، وليس ضمن رسائل أو فصول من كتاب على نحو ما فعل الكندي والرازي، وغيرهما.
وتعكس الدراسة المتأنيّة لكتاب مادة البقاء للتميمي أهم الملامح الرئيسة لمنهج البحث الذي اتبعه المؤلف، استنادًا إلى رؤية نقديّة ثاقبة، وعقليّة علميّة مرتبة، تنتقل من المقدمات إلى الكلّيات، وتتدرج من الجزئيّات إلى العموميّات، وتتفحص دروس الماضي من أجل فهم الحاضر، وتجيد تشخيص النتائج واستخلاصها.
ومن يقرأ كتاب مادة البقاء يجد أن التميمي يحذر من أنه ربما لم يسلم من الخطأ فيما ينقل عنه غيره عندما يكون ذلك ضروريا رغما عنه، فهو يقول فى الباب الأول من المقالة الخامسة: وأتبعتُ ذلك بذكر أسماء مالم يقع إلىّ صفة تركيبه من الأدوية التي نقل إلينا أسماءها يعقوب بن إسحق الكندي، ليتدبره من قرأ كتابنا هذا واستعمل ما أتينا بصفته منها من أثر استعماله وأحب التعالج به، فلا يعدم مستعمله نفعًّا منه بمشيئة الله، وسبيل الناظر فيما آتى بذكره من هذه الأدوية من هو عارف بأسماء عقاقيرها متى كشف له المتصفح فيما آتى به من ذلك عن تصحيف أو خلل أن يتجاوز عن ذلك، ويوسع لي العذر فيه، إذْ جُلّ أدويتهم الداخلة في مركباتهم هذه مسمّاة بأسماء هندية لم أسمع بها قط، ولا سقطت إليّ تلقينا عن ثقة عارف بها، وإنما نقلتها من الكتب فمثلتها بالأمثلة التي وجدتها بها، وصورتها بتلك الأشكال، ولست بمعصوم في نقل مالم أعرف حقيقته ولم أره قط ولا سمعت باسمه من دخول التصحيف عليّ في ذلك، وأرجو أن يعصم الله من ذلك بتوفيقه… فهو إذًا لا يدّعي علماً بشيء لا يعلمه ولم يتلقه على يد ثقة عارف… وينبه إلى ذلك أيضًا.
اعتمدت الرؤية النقديّة للتميمي على تسلسل الأفكار بطريقة منطقيّة، فهو يذكر أولا رأي المنقول، ثم رأي الشرّاح إن وجد، ثم يأتي برأيه الشخصي ناسبًا كل رأي إلى صاحبه بأمانة ووضوح. بل إنه يذكر في بعض الأحيان أمورًا غير مقتنع بها أصلا، ولكنه ينوه بذلك. من ذلك في الباب الأول من المقالة الخامسة – على سبيل المثال- أن لحكماء الهند أدوية عجيبة يزعمون أنها ترد الشباب على من قد طعن في السن وغلب عليه ضعف الشيخوخة، حتى لقد ذكروا أن أحدها ردّ بعض حكمائهم بعد بلوغه سنّ الثمانين إلى قوته في سن الأربعين.. ثم يقول: فأنعمت البحث عنها إلى أن سقط إليّ نعت أخلاط بعضها وكيفية تركيبها، فرأيت إثبات ما سقط علمه من ذلك في هذا الباب من كتابنا، إذ كان موضعًا لذلك ومكانًا له، لكنه يستدرك قائلًا: ونحن نعلم أن من الممتع في العقول ردَّ الشباب الذاهب على ذي الهرم الفاني بمركب من مركبات الأدوية، ثم يحتكم إلى منهجه التجريبي في الوصول إلى الحقيقة قائلاً: ولست مكذباً بما حكمته الهند في مركباتها هذه، ولا قاطعًا بإيجاب ما ذكروه عنها، بل أوقف ذلك تحت الإمكان إلى أن تكشف المحنة (أي التجربة) صحة ذلك أو بطلانه.
ومما يستحق الذكر في منهج التميمي عُمقه الإيماني بالاستناد إلى الثقافة الإسلامية الرشيدة عندما يريد تفصيل فكرة بطرحها أو تبرير عمل يقدم عليه. فهو يشرح في مقدمة كتابه أسباب تأليفه ومبررات تصنيفه، معتذرًا لمعاصريه من الأطباء المشهود لهم بالفضل ونفاذ العلم، بقوله: على أنى لست بأعقل منهم – أدام الله لهم السلام – بما أذكره، ولا بأهدى إلى صواب التدبير بما أرسمه فى هذا الكتاب من أصغر أصاغرهم، وإن كان لا صغير فيهم، غير أنى رأيت الفاضل النبيه غير مستغن عن رأى المفضول فى بعض حوادث الأمور، و الدليل على ذلك قول الله تعالى فى كتابه لرسوله صلى الله عليه وسلم، وكان أعلم الخلق بمواقع الصواب من الآراء، وأهداهم إلى سبيل النجاة من العمى: وشاورهم فى الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله (آل عمران: 159)، فأمر الله – تبارك وتعالى – بمشاورة من هو دونه من أصحابه لا لفقر منه إلى آرائهم، لكن ليعلّمهم بذلك بركة المشورة، ويهديهم إلى ما يقتدحون به الصواب عند تلاقح الآراء.
القيمة العلميّة للكتاب
سلامة البيئة في المنظور الإسلامي مرتبطة بتحمّل الإنسان- دون غيره من المخلوقات – لأمانة الخلافة في الأرض، وترقية الحياة عليها حتى يستكمل حكمة الله من خلقه وخلقها، وبعد أن سخر له كل ما في الكون من نعم ظاهرة وباطنة لينتفع بها ويمجد بانتفاعها رب العالمين، ولا يكون الإنسان جديراً بحمل أمانة الخلافة إذا أساء استعمال هذه النعّم التي تتكون منها عناصر البيئة أو تصرَّف فيها على نحو غير مشروع، جريًا وراء منفعة خاصة، أو استسلامًا لأنانية مقيتة. فالخلافة تعنى أول ما تعني تعمير الأرض بإشاعة الخير والسلام فيها، وبالعمل على إظهار عظمة الخالق وقدرته عن طريق الانتفاع الإيجابي بكل المخلوقات التي سخرها الله تعالى لخدمة الإنسان، ويتجلى ذلك فى قوله سبحانه: هو الذى أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها (هود: 61) أي جعلكم عُمَّارًا تعمّرونها وتسكنون بها، وهذا لا يتأتى إلا بأمرين: أولهما أن تُبقى الصالح على صلاحه ولا تفسده، والثاني أن تُصلح ما يفسد وتزيد من إصلاحه، ولا شك أن في الأمرين خير ضمان لحماية البيئة وسلامتها.
وليس التلّوث الذى تعانى البشرية منه اليوم في مختلف النظم البيئيّة سوى مظهر من مظاهر الفساد في الأرض الذى جلبه الإنسان لنفسه من جراء سباقه المحموم لإحراز التفوق العلمي والتقني دون حسبان لآثارهما الجانبية الضارة.
لهذا كان طبيعيًا أن نجد في تراثنا الإسلامي مؤلفات كثيرة حول البيئة وسلامتها من جوانب مختلفة، خاصة ما يندرج منها تحت ما يسمى اليوم بالطبّ البيئي وعلم الأوبئة، ويمكن التأصيل له بكتاب مادة البقاء الذى صنفه التميمي في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، وهو كتاب جامع، فيه نقل عن اليونان وما قالوه حول موضوع تلوث الهواء، وفيه نقْل أيضًا عن الكتب التراثيّة التي سبقته في هذا المجال، ونقْل عن العلماء المعاصرين للمؤلف، ثم آراء المؤلف نفسه والنتائج التي توصل إليها من تجاربه ومشاهداته وخبراته.. فالكتاب يُعدّ موسوعة في العلوم الطبيّة والصيدليّة المرتبطة بالتغيّرات البيئية في عصر التميمي، وتعبيرًا عن الروح العلميّة التي كانت سائدة آنذاك، كما أنه يضع أساسا علميًّا لعلم الوبائيات وتطوّره عبر العصور.
نتائج مادة البقاء
يمكن إيجاز أهم النتائج العلميّة التي سبق المؤلف إلى تدوينها في كتابه مادة البقاء فيما يأتي:
يقدّم التميمي أوصافًا دقيقة للهواء الفاسد الموجود في الجو، فيقول: فالجو المفرط غلظًا، أو المفرط يُبْسًا، أو المفرط بردًا، أو المفرط حرًا، أو المفرط رطوبة، أو المنتن الرائحة، أو المظلم الكدر الغبار، كل ذلك فاسد.
وهذه أوصاف فيزيائيّة للهواء تتّفق مع ما نعرفه اليوم عن المواد الملوِّثة بأنها المواد التي تؤدى إلى تأثير ضار في الكائنات البشريّة أو الحيوانيّة أو النباتيّة.
يعطى التميمي عدة أسباب لتلوث الهواء، منها وجود مصادر مياه فاسدة أو راكدة بالقرب من أماكن الإقامة، وتصاعد أبخرة من الجيف والقمامة، إضافة إلى الانقلابات الفصلية التي يحدث فيها تغيرات شديدة فى درجات الحرارة والرطوبة، وتصبح الظروف مناسبة لنمو الجراثيم وظهور الأمراض .
ولقد عرف التميمي الأثر المتبادل في التلوث بين الهواء والماء والتربة، وأدرك أن تلوث أحد هذه العناصر الثلاثة يمكن أن يؤدي إلى تلوث العناصر الأخرى، وهذه رؤية متقدمة لمعنى الخلل الذى يحدث فى التوازن الطبيعي للبيئة.
أكد التميمي انتقال الأمراض بالعدوى عن طريق الهواء، وشبه عملية التنفس عن طريق الرئة بعملية الاحتراق، ورأى أنه إذا لم يتغيّر ويتجدّد الهواء الذى يحيط بالشخص المتنفس فإنه يخنق، ويشبه ذلك بالنار التي يتغيّر الهواء المحيط بها فتنطفئ. وهذا تشبيه يوافق ما نعرفه الآن من أن تنفس الإنسان في جو ممتلئ بغاز أكسيد الكربون الناتج عن الاحتراق، فإنه يخنقه.
ومن أهم ما ذكره التميمي في هذا السياق قوله إن الأمراض تنتج عن خمائر تدخل الجسم مع الهواء وتستقر في الجسم إلى أن تتوافر لها الظروف المناسبة لتنشط وتسبب الأمراض، وهو بهذا المفهوم يتمرّد على النظرية اليونانيّة السائدة التي تعزى الأمراض إلى اختلال في توازن الأخلاط بالجسم، كما أنه بهذا المفهوم يقترب كثيرًا مما نعرفه اليوم عن دور الجراثيم التي تدخل الجسم عن طريق الهواء وتؤدى إلى الإصابة بالأمراض والأوبئة.
أوضح التميمي كيفيّة معالجة فساد الهواء، ونبّه إلى اتّخاذ بعض التدابير الوقائيّة تجاه الأصحاء، وزيادة مناعتهم ضد الأمراض.
على الرغم من أن التميمي اختار موضوع كتابه عن الهواء، وتلوثه ومعالجته وأسهب في تفصيل ذلك، إلا أنه لم يغفل علاقة الموضوع بتلوّث المياه، فيتحدّث عن طرائق تنقيتها على حسب نوع الفساد الذى أصابها، وهو يرى أن الحلّ الأول هو طبخ الماء أي شدة غليْه، فإنه إن لم يكن ذلك فينبغي مزجه بشراب كحولي تتم به عملية التعقيم، ويصف طريقة الغليان بقوله: وسبيله أن يديم طبخه إلى أن يذهب منه الريح، ثم يبرد في آنية من الخزف الكثير الرشح إن كان الوقت صيفًا أو في آنية من الزجاج إن كان الوقت شتاء، وينبغي أن نعلم أن أفضل هذا الماء المطبوخ المبرد، وألطفه وأنفعه رشْحُه، وهو ما رشح منه في آنية الخزف الجديد، المتخلل الأجزاء، الدائم الرشح، فليعتمد شرب ذلك.
ونحن نعلم الأن أن عمليّة الترشيح هي عمليّة أساسيّة في تنقية المياه، إضافة إلى بعض المواد المطهرة.
أما بالنسبة إلى الماء الكدر الذى يحتوي على أجسام طافية، فقد اقترح التميمي أن يحتال لتصفيته بإلقاء اليسير من الشبّ الأبيض اليماني، أو يلقى فيه شيئاً من لب نوى المشمش، او اليسير من ملح الطعام مدفوفاً، أو يلقى فيه شيئاً من خشب الساج، أو يحرك تحريكاً جيداً، ثم يترك ساعة زمانية فإن ذلك يصفيه ويروقه ويميّز العنصر الأرضي منه بسرعة، وهو هنا يشير إلى عملية الترسيب، كما يذكر عملية الترويب وموادها.
وهكذا نجد أن التميمي قبل ألف عام قد أتى بآراء متقدّمة في مجال التلّوث البيئي ومعالجته، وربط بين هذا التلّوث وعلاج الأبدان، فجاء كتابه مادة البقاء شاملًا لموضوعات متنوعة تحتاج إلى مزيد من الدراسة بالتعاون بين أهل الاختصاص في علوم اللغة والنبات والطب والصيدلة والأوبئة، وهذه دعوة نؤكد من خلالها أهمية اتباع أسلوب الفريق العلمي المتكامل في تحقيق الكتب العلميّة التراثيّة التي عادة ما تشتمل على موضوعات متباينة لا يقدر على استيعابها، وكشف غموضها، وفهم مصطلحاتها، إلا أهل الذكر من ذوي الاختصاص في العلوم المختلفة.
المراجع
(1)- محمد بن أحمد التميمي المقدسي، مادة البقاء في إصلاح فساد الهواء والتحرّز من ضرر الأوباء، تحقيق ودراسة: يحيي شعار، معهد المخطوطات العربيّة، القاهرة 1999م. (2)- أ.د.أحمد فؤاد باشا، نحو معجم تاريخي لعلوم الحضارة الإسلامية وتقنياتها، مركز تحقيق التراث العربي والإسلامي، جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا، القاهرة2021م.