الأثر الثقافي والاجتماعي

لظهور ذوات الأذناب عند العرب

د. سائر بصمه جي علوم أساسية- جامعة حلب- سوريا

ذوات الأذناب هي التسمية التي أطلقها العرب على الأجرام التي تظهر في السماء مثل المذنبات والشهب والنيازك. ومما لا شك فيه أن لمشهد المذنبات في السماء أو لهطول زخات الشهب الكثيفة أو حتى لهبوط نيزك من السماء هيبة ورهبة تأخذ بألباب العقول والأفهام. والكثير من الحضارات حتى يومنا هذا تعتبرها بمنزلة إشارة إلهية أو نذير شؤم أو حتى عقوبة على أفعالهم وخطاياهم، ولا ينظرون إليها على أنها آية دالّة على عظمة الخالق وقدرته الكبيرة في الكون. وقد حظيت ذوات الأذناب(1) بشكل عام بسمعةٍ سيئة تشاؤمية، خصوصًا عندما كان يتزامن ظهورها مع حدوث كوارث أرضية مثل الزلازل والمجاعات أو انتشار الأمراض والأوبئة وحدوث الحروب وموت الملوك.

وبما أنه لم تكن هناك دراسات سابقة لهذا الموضوع، فقد حاولنا استقصاء كافة جوانبه من المصادر والمراجع الموثوقة. لذلك تكمن أهمية هذا المقال بأنه يسلط الضوء على ردود الأفعال النفسية لدى مختلف شعوب الحضارات تجاه ظاهرة ذوات الأذناب وأثر ذلك على ثقافة المجتمع وسلوكياته، ولا شك سنمرّ بشكل مفصّل على الحضارة العربية والإسلامية. في الواقع لم تزودنا السجلات التاريخية بالكثير من المعلومات عن الآثار المناخية الناجمة عن مرور المذنبات أو سقوط النيازك والشهب. إلا أن العلماء استنتجوا أن مذنبات عام 736م أسهمت في ملئ الجو بالغبار والحمض الكبريتي الذي قام بعكس الإشعاع الشمسي ونتج عنه ابتراد سريع(2). مع ذلك فإن ما يجب أن يُحسب له حساب حقيقةً هو إمكانية اصطدام المذنبات والنيازك الكبيرة بالأرض. فقد سبق وأن شهد العالم الحديث اصطدام مذنب يوم 31 أغسطس عام 1979م، كما اصطدم مذنب شوميكر-ليفي 9 بالمشتري يوم 9 يوليو 1994م(3).

\

خريطة عالمية توضح المواقع التي حدثت فيها اصطدامات ناجمة عن المذنبات أو النيازك حتى عام 1997م(4).

نجد توثيق الأثر الثقافي والاجتماعي لظهور ذوات الأذناب عند العرب سواء المسلمون منهم أو المسيحيون بدءًا من القرن الثامن للميلاد. إذْ نجد يوحنا منصور بن سرجون الدمشقي (توفي 749م)، وهو المعاصر الأصغر إلى حد ما للراهب بيدا المكرّم (توفي 735م) (Venerable Bede)، قد قال عند توضيحه للعقيدة الأرثوذكسية إن المذنبات «علامات على وفاة الملوك، وهي ليست من النجوم التي صُنعت في البداية، ولكنها تتشكل بمرور الوقت … بأمر إلهي وتذوب مرة أخرى». وبدا أنه يعتبر نجمة المجوس مذنبًا(5). وقد كان يوجد جزء من أعمال يوحنا الدمشقي معروفًا في العصور الوسطى اللاتينية. واستمر الاستشهاد به في عدة مواطن حتى القرن السادس عشر مع ظهور مذنب عام 1577م. فقد استشهد به جاكوبوس أنجيلوس (توفي 1411م) (Jacobus Angelus) في بداية القرن الخامس عشر معتبرًا أن المذنبات أجرام مؤمنة وهي إبداعات إلهية خاصة تستمر لفترة قصيرة فقط. كما نقل ليبراتي، في كتابه عن مذنب عام 1577م، عن يوحنا الدمشقي قوله إن المذنبات هي من صنع الله للدلالة على موت الملوك والأمراء والأشخاص المهمين، وأنها تعلن عن هبوب الرياح والهزات الأرضية والتداعيات العظيمة على البحر(6). وواضح في هذه النظرة محاولة المزج بين ما طرح بطلميوس في (المقالات الأربع) واللاهوت الكنسي.

ويروي لنا المؤرخ سبط ابن الجوزي (توفي 654هـ/ 1256م) الرواية التشاؤمية التي انتشرت بين الناس والمؤرخين على مدى مئات من السنين لدى رؤية المذنبات، حيث قال: «قال ابن الصابئ: ووجدت بخط جعفر بن المكتفي ما يتضمن ذكر ما حدث من طلوع هذا الكوكب «المذنّب»، وكان هذا الرجل مبرزًا في علم هذه الصناعة إلى أبعد غاية. قال: يذكرون خبرًا يطول، وجملته أن كوكب الذنب طلع في وقت قتل قابيل هابيل، وفي وقت الطوفان، وفي وقت نار إبراهيم الخليل، وإحراق نمروذ أباه، وعند هلاك قوم عاد وثمود وقوم صالح، وعند ظهور موسى وهلاك فرعون، وفي غزوة بدر، وعند قتل عثمان وعلي، وفي سنة سبع وعشرين وثلاث مائة في خلافة الراضي. قال: وقد ظهر أيضا في خلافة المستعين، فقيل: وقتل بعده المعتز والمهتدي والمقتدر، وذكر الأحداث عند ظهور هذا الكوكب. قال: وأدناها الزلازل والأهوال. قال: وقد ذكر الكندري من هذا الباب أشياء منها أن في سنة خمس وعشرين ومئتين في خلافة المعتصم ظهر في الشمس نكتة سوداء قريبة من وسطها، فأقامت في وجه الشمس واحدًا وتسعين يوما، ومات المعتصم بعدها، وقد طلع هذا الكوكب عند موت الرشيد، وذكر الكندري كلامًا طويلًا في تأثير هذا الكوكب، يدل على حدوث شر عظيم، وزوال الممالك منذ آدم وإلى هلم جرًا، وكذا سماع الأصوات الهائلة من السماء، ورمي الحجارة، وظهور العمرة، وقد ظهر هذا الكوكب في هذه السنة في أشياء عرف منها الكواكب التي ذكرنا، ومرض الخليفة وولد ولده»(7).

حيث كثيرًا ما يكرر المؤرخون اللاحقون هذه الرواية، وعلى ما يبدو استفاد منها المنجمون والدجالون لتحقيق مآرب أخرى، كما هو الحال عندما تحدث أزمات في كل عصر ومجتمع ويظهر من يركب الموجة ويستثمر تلك الأزمة لمصالحه الشخصية. إذْ نجد كلًا من جلال الدين السيوطي (توفي 911هـ/ 1505م)(8)، وابن العماد العَكري الحنبلي (توفي 1089هـ / 1679م)(9) يكرر نقل هذه الرواية. كذلك وثّق لنا الشعراء العرب ظهور المذنبات. ولعل أشهر من فعل ذلك هو حبيب بن أوس بن الحارث الطائي المعروف بلقب أَبي تَمّام (توفي 231هـ/ 845م) في قصيدته المشهورة عن فتح عمورية من قبل المعتصم بن هارون الرشيد (توفي‏ ‏227هـ/ 842‏م). فهي تضرب أروع الأمثلة عن عدم قناعة الكثير من الناس بما يدعيه المنجمون، سواء كانوا ملوكًا أو شعراء أو علماء. نورد فيما يأتي بعضًا مما قاله أبو تمام في قصيدته الشهيرة:

 السَّيْفُ أَصْدَقُ إِنْبَاءً مِنَ الكُتُبِ
                             في حدهِ الحدُّ بينَ الجدِّ واللَّعبِ
بيضُ الصَّفائحِ لاَسودُ الصَّحائفِ في
                       مُتُونِهنَّ جلاءُ الشَّك والريَبِ
والعِلْمُ في شُهُبِ الأَرْمَاحِ لاَمِعَة ً
                                بَيْنَ الخَمِيسَيْنِ لافي السَّبْعَة ِ الشُّهُبِ
أَيْنَ الروايَة ُ بَلْ أَيْنَ النُّجُومُ وَمَا
                               صَاغُوه مِنْ زُخْرُفٍ فيها ومنْ كَذِبِ
تخرُّصاً وأحاديثاً ملفَّقة
                           ً لَيْسَتْ بِنَبْعٍ إِذَا عُدَّتْ ولا غَرَبِ
وخَوَّفُوا الناسَ مِنْ دَهْيَاءَ مُظْلِمَة ٍ
                              إذا بدا الكوكبُ الغربيُّ ذو الذَّنبِ
وصيَّروا الأبرجَ العُلْيا مُرتَّبة ً
                       مَا كَانَ مُنْقَلِباً أَوْ غيْرَ مُنْقَلِبِ
يقضون بالأمر عنها وهي غافلة
                        ما دار في فلك منها وفي قُطُبِ
لو بيَّنت قطّ أمراً قبل موقعه
                        لم تُخْفِ ماحلَّ بالأوثان والصلُبِ
تِسْعُونَ أَلْفاً كآسادِ الشَّرَى نَضِجَتْ
                          جُلُودُهُمْ قَبْلَ نُضْجِ التينِ والعِنَبِ(10)

والقصيدة كما نلاحظ تروي قصة إخبار المنجمين للخليفة المعتصم بأنه لن يستطيع فتح عمورية إلا صيفًا، حيث نضوج العنب والتين، ولعل أثر المذنب الذي ظهر قبل سنة لا يؤثر في سير الأحداث في معركته. لكنه عقد العزم على فتحها وعدم الاستماع لأقوالهم التي لا يؤيدها دليل. وفعلًا مضى لبغيته وانتصر وعاد مكللًا بتاج النصر والظفر الذي تحطمت عليه كل أباطيلهم. تشير القصيدة إلى أمر آخر هو (الكوكبُ الغربيُّ ذو الذَّنبِ) الذي ذكره أبو تمام. فقد كان يقصد به مذنب هالي الذي ظهر سنة (222هـ/837م) أي قبل فتح عمورية بسنة واحدة عام 838م.

يعلق هنا الباحث قدري حافظ طوقان بقوله: «وبينما نرى أبا تمام لا يعبأ بالمذنبات ولا يعتقد بما نسج المنجمون حولها من خرافات وتنبؤات ويضرب بأقوالهم عرض الحائط نجد [في الوقت نفسه] أن ملك فرنسا لويس الأول (توفي 840م) (Louis the Pious) ابن شارلمان (توفي 814م) (Charlemagne) قد استولى عليه الخوف من ظهور المذنب الذي ظهر أيام المعتصم، وقلق لذلك أشد القلق، وبلغ به الفزع درجة جعلته يدعو المنجمين ليقولوا شيئًا عن هذا النجم (في رأيه) ولينبئوه عن خبره. فقالوا له إن النجم المشار إليه نذير من الله ينذر باقتراب أيام السوء لكثرة المعاصي التي يقترفها الإنسان. ويقال إن الملك منذ ذلك الحين أصلح حاله ورجع إلى الله فبنى الكنائس وشجع الأديرة»(11).

وقد تناول الفلكي أبو الحسن علي بن أبي الرجال الشيباني القيرواني (توفي 454هـ/ 1063م) دلالات ذوات الأذناب بشكلٍ خاص، في ملحق كتابه (البارع في أحكام النجوم والطوالع)، مبينًا جهة انقضاض الجرم ذو الذنب هل التي تحدد صاحب البلاء. مثلًا «إذا انقض كوكب من الجوزاء فإنه يصيب أرض الروم شرّ ويموت ملك مصر في تلك السنة ويصير مكانه رجل حسن، ويكون طاعون في إقليم فارس. وإذا انقض من السرطان فإنه يكون بالأهواز شرور وموت، ويموت بن الملك في القتال ثم يموت الملك بعده بقليل. وإذا انقضّ من الأسد فإن الملك يموت ويفرح عدوّه ويخرج في إقليم بابل من ينازع في الملك وتكلب السباع»(12). وهكذا دواليك حتى يأتي على كل الأبراج.

حتى القرن 17م، نجد محمد بن علي بن محمد الشبراملسي (توفي 1021هـ/ 1612م) قد شمل دلالات ذوات الأذناب مع دلالات أخرى(13). مثلًا نجده يبدأ من شهر إبريل وليس من أول السنة الرومية (الميلادية)، كما فعل ذلك مؤلف مجهول ويبدأ من شهر مارس(14)، إلا أن الفرق بينهما الاختزال؛ حيث إن دلالات الشبراملسي تدمج بين عدة علامات مرافقة لظهور المذنب، مثل عمود النار والحمرة، وتحدد أنه إذا ظهر أحدها أو كلها فإنه يحدث كذا وكذا في ذلك البلد. يبدو أن أثر ذوات الأذناب امتد عند العرب إلى أواخر القرن 19م، لكن المواجهة مع (أحكام ذوات الأذناب) بدأ يشتد أثره مع عودة النهضة العربية. إذْ نجد الأديب والشاعر عبد الله النديم (توفي 1314هـ / 1896م) يشن هجومًا لاذعًا في جريدة (التنكيت والتبكيت) على كل من يعتقد بوجود أثر فعلي لهذه الأجرام على الحياة، منتقدًا في الوقت نفسه من يصدقون المنجمين الغرب(15).

Share This