الأثر الصحي لإشعاعات الموجات الكهرومغناطيسية المستخدمة في تقنيّات الاتصالات الراديويّة
د. مساعد بن عالي المالكي - المشرف العام على برنامج الحماية من الإشعاع بوزارة الصحة
تطوّرت التقنيّات المستخدمة في تقديم خدمات الاتصالات على مدى السنوات الماضية، من تقنية الجيل الثاني إلى الثالث والرابع، وحاليًّا الخامس، وتختلف كل تقنيّة عن الأخرى بالنطاق التردّدي المستخدم، وسرعة تحميل البيانات، والتطبيقات المُقدَّمة (خدمات صوتية، ورسائل نصيّة، ومقاطع الفيديو العالية الجودة).
تهدف شبكات الجيل الخامس إلى تقديم سرعة فائقة ومعامل تأخير منخفض (Latency) لدعم الطلب المتزايد على خدمات الاتصالات، وكذلك التطبيقات الحديثة، مثل: إنترنت الأشياء (IoT).
مع التقدّم التقني وتطوير تقنيات الاتصالات الراديويّة، ظهر كثير من التساؤلات عن المخاطر الصحيّة المحتملة للموجات الكهرومغناطيسيّة التي تستخدم في تقنيّات الاتصالات الراديويّة للجيل الخامس، ومن ثمَّ كان من الضروري تقييم ومراجعة الدراسات ومستجدات الأبحاث الأساسيّة التى جمعت حتى الآن عن آثار الموجات الكهرومغناطيسيّة في جسم الإنسان، والآثار الصحية والبيئية لموجات الاتصالات الراديويّة.
لا مخاطر للموجات الكهرومغناطيسية الراديويّة
لقد أثبتت الدراسات عدم وجود أي ارتباط أو دليل علمي يثبت آثار صحيّة أو مخاطر عامة على صحة الإنسان والبيئة للموجات الكهرومغناطيسية الراديويّة.
وتشير المراجعة التي قامت بها منظمة الصحة العالميّة إلى عدم وجود ارتباط بين أيِّ آثارٍ صحيّة والتعرض للمجال الكهرومغناطيسي للتردّدات الراديويّة الصادرة من أبراج الاتصالات عند المستويات التي تجري مواجهتها عادةً في الحياة اليومية للناس، وأنَّ المعلومات عن التأثيرات على المدى الطويل المترتبة على تعرُّض الأطفال والمراهقين قليلة جدًّا، ولا تزال مسألة المخاطر المحتملة لهذه الفئات العمريّة غير مدروسة.
وهناك المزيد من الدراسات تُجرى في جميع أنحاء العالم من المنظمات ذات العلاقة، إذ تُظهِر هذه النتائج أنَّ الإشعاعات الكهرومغناطيسيّة المنبعثة من الموجات الراديويّة المستخدمة في الاتصالات اللاسلكيّة لتقنيّة الجيل الخامس لن تتجاوز مستويات الإشعاع الكهرومغناطيسي التي تعمل بها تقنية الجيل الرابع، كما أنَّ من خواص تقنيّة الاتصال للجيل الخامس استخدام خلايا تغطية أصغر من خلايا التغطية للجيل الرابع، ومن ثَمَّ، فإنَّ طاقة الإشعاعات الكهرومغناطيسية ستكون أقلّ.
صنفت منظمة الصحة العالمية (الوكالة الدولية لأبحاث السرطان (Iarc) المجالات الكهرومغناطيسيّة للتردّدات الراديويّة على أنها مسببة للسرطان بالنسبة إلى البشر (المجموعة 2 ب) ، بناءً على زيادة خطر الإصابة بالورم الدبقي، وهو نوع خبيث من سرطان الدماغ، المرتبطة باستخدام الهاتف اللاسلكي، خلال انعقاد مجموعة عمل من 31 عالمًا من 14 دولة في (Iarc) في ليون بفرنسا؛ لتقييم المخاطر المسببة للسرطان المحتمل من التعرُّض للمجالات الكهرومغناطيسيّة للتردّدات الراديويّة.
وناقش فريق العمل المعني بالبحث في (Iarc) فئات التعرّض (التعرّض المهني للرادار والميكرويف، والتعرّض البيئي المرتبط بنقل الإشارات للإذاعة والتلفزيون والاتصالات اللاسلكيّة، والتعرض الشخصي المرتبط باستخدام الهواتف اللاسلكيّة) التي تشمل المجالات الكهرومغناطيسيّة للتردّدات الراديويّة، وإمكانيّة التعرض وإحداث آثار صحية طويلة الأجل، وخصوصًا زيادة خطر الإصابة بالسرطان لمستخدمي الهواتف المحمولة، بخاصة أنَّ أعداد المستخدمين كبير، وفي تزايد، وبخاصة بين الشباب والأطفال.
لقد تبادل الخبراء الدوليون المهمة المعقّدة المتمثّلة في معالجة بيانات التعرّض، حسب دراسات السرطان في البشر، وفى الحيوانات التجريبيّة، والبيانات الأخرى ذات الصلة، فجرى استعراض الأدلة بشكلٍ نقدي، وتقييمها بشكل عام على أنها محدودة بين مستخدمي الهواتف اللاسلكية للورم والأورام العصبية، وعدم الكفاية لاستخلاص استنتاجات لأنواعٍ أخرى من السرطان.

وجوب التثبت من الصلة بين الهواتف المحمولة والسرطان
ومن خلال أدلّة التعرّض المهني والبيئي المذكورة أعلاه جرى الحكم بالمثل على أنها غير كافية، ولم يحدد الفريق حجم المخاطر، ومع ذلك، أظهرت دراسة واحدة لاستخدام الهواتف المحمولة في الماضي (عام 2004م)، زيادة بنسبة 40% خطر الورم الدبقي في أعلى فئة من المستخدمين (المتوسط 30 دقيقة في اليوم على مدى فترة 10 سنوات)، وقد أشار الدكتور جوناثان سامت (جامعة جنوب كاليفورنيا، الولايات المتحدة الأمريكية)، الرئيس العام للعمل، إلى أنَّ «الأدلة، برغم أنها لا تزال تتراكم، تعدُّ قويةً بما فيه الكفاية لدعم النتائج والتصنيف (Group (2B. وهذا يعني أنه يمكن أن يكون هناك بعض المخاطر، ولذلك نحن بحاجة إلى مراقبة دقيقة لوجود صلة بين الهواتف المحمولة ومخاطر السرطان. ومن المهم إجراء أبحاث إضافية في المدى الطويل»، مع اتّخاذ تدابير عمليّة لتقليل التعرّض مثل الأجهزة غير اليدويّة، أو الرسائل النصيّة. كما أنَّ المجموعة (2B) التي تعني أنه ربما يكون العامل مسرطناً للبشر، إذ تُستخدم هذه الفئة للعوامل التي توجد أدلّة محدودة على حدوثها في البشر، وأقلّ من دليل كافٍ على حدوث السرطان في الحيوانات التجريبيّة.
ويمكن أيضًا أن تُستخدم عندما يكون هناك دليل غير كافٍ على الإصابة بالسرطان لدى البشر ولكن هناك أدلة كافية للسرطان في الحيوانات التجريبية. في بعض الحالات، عدم كفاية الأدلّة على السرطنة لدى البشر، وعلى التسرطن في الحيوانات التجريبيّة مع الأدلّة الداعمة من الآليّة وغيرها من البيانات ذات الصلة التي قد يجري وضعها في هذه المجموعة.
ويمكن تصنيف هذه الفئة فقط على أساس أدلّة قوية من البيانات ذات الصلة، كما قامت اللجنة الدولية للسلامة الكهرومغناطيسية (Ices) بمراجعة بحثيّة تنفي علاقة موجات المايكرويف بالسرطان، إذ خلصت إلى أنَّ كثرة النتائج الوبائيّة والتجريبيّة المنشورة لا تدعم الافتراض بأنَّ التعرُّض في الجسم الحي أو في المختبر لمثل هذه المجالات مسرطنة، إذ قدَّمت نقدًا للدراسات الوبائيّة والتحقيقات التجريبيّة، التي نُشرت في المجلات التي راجعها النظراء، حول السرطان والتأثيرات ذات الصلة الناجمة عن التعرُّض للمجالات الكهرمغنطيسية غير المؤيَّنة في مدى التردّد البالغ 3 كيلو هرتز إلى 300 جيجاهرتز التي تهم اللجنة الفرعية (Sc4) التابعة للجنة الفرعية اللجنة الدولية للسلامة الكهرومغناطيسية (Ices)، وقد كانت الموضوعات الرئيسة التي نوقشت تحت عناوين النتائج الوبائيّة والنتائج الأخرى حول التعرُّض البشري، والثدييات المكشوفة في الجسم الحي، والأنسجة الحيّة للثدييات والمستحضرات الخلويّة المكشوفة في المختبر، والطفرات الوراثيّة والسميّة الجينية في الكائنات الحيّة الدقيقة وذباب الفاكهة.


التعرّض من بواعث ومن الاتصال المباشر
التعرُّض من بواعث ومن الاتصال المباشر
قُسِّمت النتائج الوبائية والنتائج الأخرى حول التعرُّض البشري إلى قسمين؛ الأول عن الآثار السرطانية المحتملة للتعرُّض من بواعث لا تكون على اتصال جسدي بالسكان المدروسة، على سبيل المثال، هوائيات الإرسال وغيرها من الأجهزة، والقسم الثاني دراسات عن الآثار المسببة للسرطان من استخدام الهواتف المحمولة، مع إعطاء أهمية لأورام الدماغ من استخدام الهواتف الخلويّة واللاسلكيّة في اتصال جسدي مباشر، وفي كلا القسمين، أسفرت بعض التحقيقات عن نتائج إيجابيّة، وكان لدى بعضهم الآخر نتائج سلبيّة، وجرى الإبلاغ عن كليهما في حالات قليلة.
كما أنَّ مراجعةً بحثيّةً قامت بها اللجنة الدوليّة للحماية من الإشعاع غير المؤيَّن (Icnirp)، تؤكد عدم كفاية الدراسات للحكم على إثبات أو نفي وجود علاقة لموجات المايكرويف بالأمراض المزمنة، إذ خلُصت إلى أنه يجب إجراء مزيدٍ من الدراسات لاختبار فرضيات معينة، مثل: جوانب التحيّز في الاختيار أو التعرّض.
على أساس النتائج الوبائيّة، تُظهر الأدلة وجود ارتباط بالتصلّب الجانبي الضموري مع التعرّض لمجالات الكهرومغناطيسيّة المهنيّة، على الرغم من أنَّ الإرباك هو تفسير محتمل. يبقى سرطان الثدي، وأمراض القلب والأوعية الدمويّة، والانتحار والاكتئاب دون حلّ.
كما استعرضت الدراسة الأدبيات الوبائيّة الضخمة للتعرّض للمجالات الكهربائيّة والمغناطيسيّة منخفضة التردّد (Emf) ومخاطر الأمراض المزمنة، وكانت الاستنتاجات أن تحسّنت جودة الدراسات الوبائيّة حول هذا الموضوع مع مرور الوقت، وحول كثير من الدراسات الحديثة حول سرطان الدم في مرحلة الطفولة والسرطان المرتبطة بالتعرّض المهني بالقرب من الحدّ الأقصى لما يمكن تحقيقه واقعيًّا من ناحية حجم الدراسة والصرامة المنهجيّة.
ويبدو أنَّ تقييم التعرُّض يتسم بصعوبة خاصة لوبائيات (Emf)، إذ إنَّ التعرُّض غير محسوس، وفي كل مكان، وله مصادر متعددة، ويمكن أن يختلف اختلافًا كبيرًا بمرور الوقت والمسافات القصيرة، وأنَّ فترة التعرّض ذات الصلة هي قبل التاريخ الذي يمكن فيه الحصول على القياسات بشكل واقعي وغير معروف المدة، وفترة الاستقراء، كما أنَّ مقياس التعرّض المناسب غير معروف، ولا توجد بيانات بيولوجيّة تُدرج منه، وفي حالة عدم وجود أدلة تجريبيّة وبالنظر إلى عدم اليقين المنهجي في البحث الوبائي، لا يوجد مرض مزمن يمكن النظر إلى أنَّ العلاقة المسببة له مع (Emf) ثابتة.
كما أنَّ وجود مجموعة كبيرة من البيانات العالية الجودة لسرطان الطفولة، وكذلك لسرطان الدم البالغ وأورام المخ فيما يتعلّق بالتعرُّض المهني، من بين كلِّ النتائج التي تم تقييمها في الدراسات الوبائيّة للـ (Emf)، فإنَّ سرطان الدم لدى الأطفال فيما يتعلَّق بالتعرُّضات بعد الولادة التي تزيد على (0.4-microT) هي النتيجة التي يوجد بها معظم الأدلّة على وجود ارتباط. وجرى تقدير الخطر النسبي عند 2.0 (حدّ ثقة 95٪: 1.27-3.13) في تحليل أعداد كبيرة. ومن غير المحتمل أن يكون هذا بسبب المصادفة، ولكن قد يكون ذلك جزئيًا بسبب التحيّز، لذلك كان من الصعب تفسير ذلك في غياب آلية معروفة أو دعم تجريبي قابل للتكرار؛ لذلك يجب إجراء مزيد من الدراسات.
