الأنسجة الحيوية الصناعية

هل يمكن محاكاة الجسم البشري؟

د. سارة سليمان – كيمياء حيوية – جامعة طنطا – مصر

ما زال الجسم البشري يدهشنا كل يوم بتركيبه المعقد وأسراره التي لا تنتهي، ومع سعي العلم لاكتشاف المزيد من تلك الأسرار، يجد نفسه أمام عجائب وأسرار أكبر للجسم البشري. لذا فقد حاول العلم مرارًا وتكرارًا محاكاة وظائف الجسم البشري واستبدال الأعضاء التالفة لدى المرضى التي استحالت استمرارية حياتهم بدون أعضاء جديدة. أظهرت زراعة الأعضاء بعض الآمال لدى هؤلاء المرضى، لكن مجال زراعة الأعضاء ما زال يواجه العديد من المشكلات، من ضمنها رفض الجسم للعضو المزروع أو كفاية عمل العضو المزروع، وكذلك عدم توافرها في كثير من الأحيان. لذا طرق العلم بابًا جديدًا للبحث عن بعض الحلول ومساعدة هؤلاء المرضى، ليحظوا بحياة طبيعية من جديد. لذلك أصبح مجال تصنيع الأنسجة الحيوية في الوقت الحاضر يحظى بمزيدٍ من اهتمام الباحثين والأطباء، نظرًا لما يطرحه هذا المجال من آمال واعدة في مجال استبدال الأنسجة والأعضاء التالفة. ما هذه التقنية الحديثة؟ وهل حقًا سينجح العلم في محاكاة بعض أسرار الجسم البشري؟

ما تقنية الأنسجة الحيوية الصناعية؟

تعتمد تقنية تصنيع الأنسجة الحيوية على إنماء خلايا في وسط مناسب ومشابه للبيئة الأصلية التي تنمو فيها خلايا الجسم، من أجل إنماء عضو أو نسيج مشابه للعضو المطلوب استبداله. يجب أن تحاكي البيئة التي يتم فيها التصنيع البيئة الأصلية اللازمة لنمو وتمايز الخلايا، وذلك من حيث التركيب البنائي والفسيولوجي والتركيب الكيميائي الحيوي. كذلك يجب أن يكون لها القدرة على عزل وإرسال الإشارات الحيوية اللازمة لتكاثر وتمايز الخلايا بصورة صحيحة. تعتمد هذه التقنية على استخدام ما يُعرف بسقالات الأنسجة، وهي عبارة عن هياكل أو دعامات تُستخدم للمساعدة في نمو الخلايا، مع وجود بيئة نمو مناسبة تتكون من بعض المواد. يمكن أن تتكون البيئة أو الوسط الذي يتم فيه تصنيع الأنسجة من مكونات طبيعية، مثل: الكولاجين، وهو نوع من البروتينات أو يضاف إليه بعض المكونات، مثل: جزيئات المصفوفة خارج الخلوية أو مصفوفة من الأنسجة الضامة منزوعة الخلايا. كذلك يمكن أن تتكون من مواد مصنعة، مثل: المواد السيراميكية أو البوليمرات، مثل: مادة إيبسلون كابرولاكتام، وبولي ديوكسانون، وحمض الجليكوليك، وحمض اللاكتيك.

أنواع الخلايا المستخدمة في التصنيع الحيوي للأنسجة

يمكن الحصول على الخلايا المستخدمة في التصنيع الحيوي من مصدرين، هما: جزء من الخلايا البالغة (خلايا أولية) من أحد أعضاء الجسم، أو من خلايا جذعية متعددة القدرات. يجب أن تتميز الخلايا المستخدمة بعدة مميزات، منها:

  • سهولة الحصول عليها
  • القدرة على التكاثر والتمايز إلى النوع المستهدف من الأنسجة

كذلك يمكن أن تكون هذه الخلايا:

  • ذاتية المنشأ: مصدرها هو الكائن نفسه
  • خارجية المنشأ: مصدرها كائن آخر، ولكن من نفس النوع أو الفصيلة
  • غريبة المنشأ: مصدرها كائن آخر مختلف في النوع

أنواع الأنسجة الحيوية الصناعية

يوجد نوعان رئيسان من الأنسجة الحيوية المصنعة، هما:

  • الأنسجة المفتوحة: تعتمد الأنسجة من هذا النوع على المضيف من أجل الإمداد بالأوعية الدموية اللازمة للبقاء
  • الأنسجة المغلقة: تعتمد الأنسجة في هذا النوع على الانتشار من أجل الحصول على الأوعية الدموية اللازمة لها

أنواع الأنسجة القابلة للتصنيع الحيوي

يأمل العلماء تطبيق هذه التقنية على أعضاء الجسم المختلفة، لكن حتى الآن هناك بعض أنواع الأنسجة التي يتوقع العلماء نجاح هذه التقنية فيها، ومن أمثلة الأنسجة التي نجح العلماء في إعادة تصنيع جزء منها، ما يأتي:

  • القلب
  • الأوعية الدموية
  • القرنية
  • المثانة البولية
  • القصبة الهوائية
  • العظام
  • الغضاريف
  • الجلد

استخدامات الأنسجة والأعضاء الحيوية الصناعية

بخلاف استخدام تلك الأعضاء والأنسجة المُصنعة، من أجل تصنيع أنسجة وأعضاء للزراعة في الجسم البشري، يمكن استخدامها في عدة تطبيقات علمية وطبية، مثل:

  • إنماء أعضاء أو أنسجة لاستخدامها في دراسة التأثيرات الدوائية للعقاقير الطبية
  • دراسة البيولوجية الأساسية لوظائف الأعضاء المختلفة عليها، بدلًا من الإنسان أو الحيوان

مشكلات هندسة الأنسجة

نجح مجال هندسة الأنسجة حتى الآن في إعادة الوظائف المفقودة لبعض الأنسجة والأعضاء، لكن تكوين عضو مشابه للعضو الأصلي بصورة كاملة ما زال قيد التجربة. ترجع الصعوبة في هذا الأمر إلى عدم القدرة على تكوين الأوعية الدموية في العضو المُصنّع بصورة مشابهة للعضو الأصلي. كذلك فإن الإمداد العصبي الكامل لهذه الأعضاء والإشارات المطلوبة من خلايا المصفوفة خارج الخلوية، مازال من الصعب تحقيقه.

التقنيات الحديثة في مجال الأنسجة الحيوية الصناعية

يُعد الغرض الأساس من تطوير تقنيات التصنيع الحيوي للأنسجة هو تصنيع أنسجة ذات نظام أوعية دموية خاصة لا تتطلب إمداد خارجي بالأوعية الدموية، وذلك للتغلب على مشكلات هندسة الأنسجة التقليدية.
يمكن تقسيم تقنيات التصنيع الحيوي للأنسجة، إلى ثلاث أنواع رئيسة، هي:

  1. التقنيات الآلية بالكامل، ومن أمثلتها: الطباعة الحيوية ثلاثية الأبعاد
  2. التقنيات شبه الآلية
  3. التقنيات اليدوية

الطباعة الحيوية ثلاثية الأبعاد للأنسجة

نجح العلماء في تطوير تقنية تعرف باسم «الطباعة الحيوية» (MNRP)، وهي تقنية يمكن إجراؤها باستخدام سقالات الأنسجة أو بدونها، وقد أثبتت هذه التقنية تفوقها على معظم تقنيات التصنيع الحيوي للأنسجة. عندما تُجرى هذه التقنية باستخدام سقالات الأنسجة، فإن الحبر المستخدم في الطباعة، هو محلول مُعلّق من الخلايا والورق ذو طبقة من خلايا المصفوفة خارج الخلوية (ECM) القابلة للتحلل. يمكن لفتحة الطابعة الرئيسة أن تتحرك في اتجاه ثلاثي الأبعاد، لطباعة أنواع مختلفة من الخلايا الوظيفية، والتي تتكون بالتبادل مع خلايا طلائية والخلايا العضلية الملساء من أجل تكوين نظام من الأوعية الدموية داخل العضو المُصنّع. كما يمكن طباعة طبقات من السقالات أو الدعامات المسامية، باستخدام خليط من النقاط الصغيرة مكون من خلايا وظيفية، بالإضافة إلى خلايا بطانية وخلايا عضلية ملساء. يمكن لهذه الطبقات المتكونة أن تتراكب بنجاح لتكوين عضو ثلاثي الأبعاد. بينما في الطباعة الحيوية التي لا تحتاج إلى سقالات، تترتب جزيئات كروية من الخلايا بصورة متواصلة في اتجاه ثلاثي الأبعاد، ثم تندمج هذه الجزيئات في تركيب حلقي أو أنبوبي بعد ذلك. يمكن أن تنتج الطباعة الحيوية تراكيب حية ثلاثية الأبعاد ذات تركيب داخلي مشابه للتراكيب الحيوية الأصلية، بما ذلك نظام الأوعية الدموية أو ما يعرف بالشجرة الوعائية. لذلك فإن الطباعة الحيوية يمكنها التغلب على مشكلة الإمداد الدموي للعضو المُصنّع، والتي تعد أحد العوائق التي تواجه مجال هندسة الأنسجة.

التطبيقات الطبية الحديثة للأنسجة الحيوية الصناعية

نجح العلماء حديثًا في التصنيع الحيوي لبعض الأنسجة والأعضاء القابلة للاستخدام البشري، واستخدامها كأعضاء بديلة لزراعتها في الجسم البشري. من أمثلة تلك التطبيقات، ما يلي:

الأنسجة العضلية القلبية النابضة الصناعية

تُعد عمليات زراعة القلب هي الحل الأمثل لمرضى فشل القلب الاحتقاني، لكن غالبًا ما تواجه عمليات زراعة القلب عدة مشكلات منها، نقص عدد المتبرعين. لذلك، فإن تطوير أجهزة مساعدة البطين القابلة للزرع من أجل الإمداد الدموي، يُعد الحل الأمثل للتغلب على هذه المشكلة، لكن معظم الأجهزة الميكانيكية الصناعية المتاحة منخفضة الكفاية، نظرًا لبعض المشكلات بها. لذلك سعى العلماء للتغلب على مشكلات الأجهزة الميكانيكية، ومحاولة صنع أنسجة حيوية تشابه في وظيفتها وطبيعتها الأنسجة القلبية، من أجل رفع كفاية تلك الأجهزة المساعدة. نجح العلماء مؤخرًا في التصنيع الحيوي لمجموعة من الأنسجة العضلية القلبية النابضة محدودة الوظيفة، وذلك بزرع مجموعة من الخلايا العضلية القلبية في وسط مناسب باستخدام سقالات أنسجة مجهزة مسبقًا.

تتكون سقالات الأنسجة المجهزة مسبقًا، غالبًا من البوليمرات الصناعية أو الأنسجة منزوعة الخلايا. كما نجح العلماء باستخدام تقنية الهيدروجيل (hydrogel-based approaches)، في تصنيع مجموعة من الأنسجة القلبية الوظيفية ذات البناء الخلوي عالِ الجودة. نجح العلماء في إنتاج رقائق من الأنسجة القلبية التي يمكن جمعها بسهولة باستخدام التقنية السابقة والبيئة المناسبة، من أجل استخدامها في تصنيع عضو ثلاثي الأبعاد لزراعته أو استخدامه كطُعم قلبي. تتميز التقنية السابقة بأنه يمكن استخدامها لتصنيع عضو يمكن زراعته مباشرةً في المرضى بسهولة عبر العمليات الجراحية التقليدية. كما أن من مميزاتها عند استخدامها كطُعم أنها تشارك مباشرةً في الحركة الانقباضية للقلب، مما يساعد في ضخ الدم للجسم لدى مرضى الذبحة القلبية. تعطي النتائج السابقة أملًا كبيرًا لمرضى فشل القلب الاحتقاني في الحصول على وسائل إمداد دموي حيوية تتأقلم مع الجسم وتحاكي القلب الطبيعي في أداء وظائفه.

الرئة المصنعة حيويًا

تعد عمليات زراعة الرئة الحل المتاح لمرضى أمراض الرئة في المراحل المتأخرة، لكن كما في جميع عمليات زراعة الأعضاء، فإنها تواجه مشكلة نقص المتبرعين أو الرفض المناعي للعضو المزروع. لذا حاول العلماء تصنيع أنسجة رئوية تتوافق مع جسم المريض، وتتغلب على المشكلات التقليدية لعمليات زراعة الأعضاء. نجح العلماء باستخدام تقنية تُعرف بالزَرْع المِثْلِيّ (orthotopic transplantation) في زراعة خلايا بشرية، وهي عبارة عن خلايا طلائية من الحنجرة وخلايا بطانة الوريد السري للإنسان، وزرعها في خلايا منزوعة النواة من رئة خنزير لتُستخدم كدعامات لتصنيع الأنسجة. وقد أثبتت التجربة كفاية الرئة المصنعة حيويًا بعد نقلها لخنزير، من حيث القدرة على التبادل الغازي والإمداد الدموي، لكن ذلك كان مؤقتًا، إذ تعرضت الرئة المُصنّعة للانسداد بمجموعة من الجلطات. لذا يسعي العلماء لتطوير هذه التجربة وتحسينها وإجراء مزيدٍ من الدراسات، لتطوير رئة حيوية صناعية مشابهة للرئة البشرية من أجل استخدامها في عمليات زراعة الرئة.

التصنيع الحيوي للعضلات واستخداماتها المختلفة

جذبت الأنسجة العضلية المصنعة حيويًا الاهتمام في الفترة الأخيرة، نظرًا لاستخداماتها المتعددة في مجالات مختلفة، ومنها:

  • الروبوتات الحيوية (الحساسات الحيوية)
  • الطعوم الحيوية الهجينة في تقنيات الطب التجديدي
  • اللحوم المزروعة أو ما يعرف بلحوم المختبر

تختلف طريقة التصنيع الحيوي للأنسجة العضلية طبقًا للغرض منها، فعلى سبيل المثال يجب أن تكون العضلات التي ستستخدم في الطعوم الحيوية الهجينة على قدرٍ عالٍ من الكفاية البيولوجية. يرجع ذلك إلى أن هذا النوع من الأنسجة المصنعة يستخدم في الجسم بديلًا لأحد الأنسجة التالفة؛ لذا يجب أن يحاكي النسيج المُستبدَل من حيث الوظيفة والخصائص البيولوجية لهذا النسيج. تستطيع عضلات الجسم التجدد ذاتيًا، لكن ذلك يكون في حالات التلف اليسير. لكن في حالات الإصابات الجسدية واسعة المدى، لا تستطيع فعل ذلك. يلجأ الأطباء على سبيل المثال في حالات إصابات الجلد واسعة المدى، إلى عمليات الترقيع والتي قد تكون ذاتية أو من خلال متبرع، لكن هذه العمليات تواجه العديد من المشكلات، منها الرفض المناعي من الجسم. لذلك يمكن أن يكون استخدام الأنسجة العضلية المصنعة حيويًا نسيجًا بديلًا ووسيلة للتغلب على المشكلات التي كانت تواجه عمليات الترقيع التقليدية للجلد، وإتاحة تصنيع أنسجة مشابهة لأنسجة المريض بحيث تتوافق مع الجسم.

مستقبل التصنيع الحيوي للأنسجة

يمكن للتقنيات المختلفة للتصنيع الحيوي للأنسجة أن تكون حلًّا لكثير من مشكلات زراعة الأنسجة، أو استبدال الأعضاء التالفة، ومصدر أمل لكثير من المرضي. لكن نظرًا لتعقيد الجسم البشري، إذ على الرغم من التشابه العام بين أعضاء الجسم المختلفة في البناء إلا أن كل عضو يتمتع بمميزات وخصائص بيولوجية مختلفة، فإن تطبيق تقنيات التصنيع الحيوي للأنسجة ما زال يتطلب المزيد من التجارب والدراسات الخاصة بكل نوع من الأعضاء أو الأنسجة المراد استبدالها. وفي النهاية ما زال الجسم البشري لغزًا، يسعى العلم كل يوم لفك شفراته واكتشاف المزيد من أسراره، من أجل إيجاد حلول أفضل للأمراض التي يواجها الإنسان والتغلب عليها.

Share This