التحرير‭  ‬الجيني

كعلاج‭ ‬فعال‭ ‬لأمراض‭ ‬السرطان

د. ‬بدر‭ ‬العنزي‭  مورثات‭ ‬السرطان‭ ‬-‭ ‬مدينة‭ ‬الملك‭ ‬فهد‭ ‬الطبية‭ ‬–‭ ‬السعودية

يعد مرض السرطان من أشد الأمراض خطورة وفتكًا بصحة الإنسان نظرًا لتأخر اكتشافه في أغلب الحالات بالإضافة إلى طبيعة المرض الشرسة التي يصعب معها التدخل السريع لعلاج أو إيقاف انتشار المرض خصوصًا في المراحل المتقدمة منه.

ومما يعرف عن مرض السرطان أنه يمكن أن يبدأ في أي عضو أو نسيج من الجسم تقريبًا عندما تنمو الخلايا بشكل غير طبيعي مما لا يمكن السيطرة عليه، وقد تتجاوز حدودها المعتادة لتنتشر إلى أعضاء أخرى في الجسم.  وبحسب تقرير منظمة الصحة العالمية لعام 2020، يعتبر مرض السرطان هو السبب الرئيس الثاني للوفاة على مستوى العالم، حيث تسبب في حدوث ما يقدر بـ 9.6 مليون حالة وفاة، أو وفاة واحدة من كل ست وفيات على أقل تقدير(1)

يشكل مرض السرطان عبئًا هائلًا على مستوى العالم على الأفراد والأسر والمجتمعات والأنظمة الصحية على المستوى الجسدي والعاطفي والمالي والصحة العامة ككل.  وبالرغم من التقدم الملحوظ في السنوات العشر الأخيرة في طرق تشخيص وعلاج المرض التي تنوعت ما بين العلاج الجيني والعلاج المناعي بالإضافة إلى الطرق التقليدية التي تتمثل في العلاج الكيماوي والإشعاعي والجراحي سواء منفردةً أو كعلاج مزدوج بحسب حالة المريض إلا أن أيا من هذه الطرق مازالت باهظة الثمن أو محدودة الأثر العلاجي مع حدوث مضاعفات جانبية أو محدودةٍ في علاج أنواع قليلة من أمراض السرطان.

وفي خضم الأبحاث الطبية طوال السنوات الماضية، أدرك العلماء أن التغيرات الجزيئية في الحمض النووي تسهم بشكل أساس في نشوء مرض السرطان عبر اعتلال بعض العمليات الحيوية الجزيئية المهمة لنمو وتطور وبقاء الخلية.  وعليه، ومنذ ذلك الحين تسارعت وتيرة الأبحاث الطبية في تطوير عديد من طرق التعديل «التحرير» الجيني أو ما يعرف بـ(Gene Editing) لتصحيح تلك التغيرات الجزيئية عن طريق التلاعب بالحمض النووي إلا أنه لم يكن أيٌّ من هذه الطرق مناسبًا للحصول على تقنية سهلة وسريعة وزهيدة. 

إنما في عام 2013، تمكنت الباحثتان (Emmanuelle Charpentier) و(Jennifer Doudna) مع علماء آخرين من تطوير أداة بيولوجية لتعديل الجينات تسمى «كريسبر» أو (Clustered Regularly Interspaced Short Palindromic Repeats) أو ما يعرف اختصارًا بـ(CRISPR) التي من خلالها يمكن تغيير تسلسل بعض القواعد النيتروجينية في الحمض النووي للخلايا البشرية كمقص دقيق للغاية وسهل الاستخدام.  وبسبب اكتشاف تقنية التعديل الجيني (Gene Editing) نالت الباحثتان (E. Charpentier) و(J. Doudna) جائزة نوبل في الكيمياء لعام 2020.  ويتلخص عمل هذه الأداة البيولوجية الدقيقة في محاكاة عملية بيولوجية تحدث بشكل طبيعي في البكتيريا في جهازها المناعي ضد العدوى الفيروسية.  قد لحظ الباحثون أنه عند إصابة البكتيريا بالفيروسات، تقوم البكتيريا بالتقاط قطعٍ صغيرة من الحمض النووي للفيروسات ودمجها في حمضها النووي مشكلةً نمطًا معينًا من التسلسل الجيني يعرف باسم مصفوفات كريسبر (CRISPR Arrays) تعمل هذه المصفوفات ذاكرةً للبكتيريا تسمح لها بتذكر الفيروسات لاحقًا ومقاومتها.  فعند الإصابة مرةً أخرى بهذه الفيروسات، فإن البكتيريا تنتج الحمض النووي الريبي (RNA) من مصفوفات كريسبر التي تتعرف على مناطق معينة من الحمض النووي للفيروسات وترتبط بها.  ومن ثم تستخدم البكتيريا إنزيم (Cas9) (أو إنزيمًا مشابهًا في بعض الأنواع الأخرى من البكتيريا) لتقطيع الحمض النووي للفيروس مما يؤدي إلى تعطيله تمامًا (كما هو موضح في الشكل 1).

وعليه فقد قام الباحثون بمحاكاة نظام الدفاع المناعي للبكتيريا باستخدام إنزيمات التعديل الجيني لتعديل الحمض النووي بإنشاء قطعة صغيرة من الحمض النووي الريبي مع تسلسل إرشادي (Guide RNA or gRNA) قصير يرتبط بشكل محدد مع التسلسل الجيني المستهدف تحريره في الحمض النووي للخلية، تمامًا مثل قطع التسلسل الجيني للحمض النووي الريبي التي تنتجها البكتيريا من مصفوفة كريسبر.  ومن ثم يرتبط هذا الحمض النووي الريبي الإرشادي أيضًا بإنزيم (Cas9) عند إدخاله في الخلايا، ويقوم إنزيم (Cas9) بقطع الحمض النووي في الموقع المستهدف(2)

إن اكتشاف هذه الأداة المهمة مكن الباحثين من إصلاح الحمض النووي الخاص بالخلية لإضافة أو حذف قطع من المادة الجينية، أو إجراء تغييرات على الحمض النووي باستبدال جزء موجود بتسلسل (DNA) محدد.  فمنذ ذلك الحين، والباحثون يستخدمون تقانات التعديل الجيني على الخلايا النموذجية وحيوانات التجارب في مختبرات الأبحاث لفهم الأمراض الوراثية ومن ثم تطوير آليات جديدة للتعديل الجيني للأمراض الوراثية التي تمثل اضطرابات الجين الفردي يوصف سببًا رئيسًا للمرض مثل التليف الكيسي (Cystic Fibrosis) وصولًا إلى الأمراض الأكثر تعقيدًا، مثل السرطان وأمراض القلب والأمراض العقلية وعدوى فيروس نقص المناعة البشرية المكتسب (HIV) وغيرها من الأمراض.

وبما أن مرض السرطان من الأمراض التي تكثر فيه الاعتلالات الجزيئية على مستوى الكروموسوم أو على المستوى الجيني بشكل أحادي أو مع مجموعة جينات، فقد عمد الباحثون على تطوير أكثر من إستراتيجية لاستهداف الخلايا السرطانية بشكل منفرد دون الخلايا الطبيعية.  فمن هذه الإستراتيجيات، استهداف التسلسل الجيني الذي يتسبب في نشوء بروتين مرضي يؤدي إلى تسرطن الخلية والذي ينشَأ عن طريق اعتلال في تركيب الكروموسومات أثناء انقسام الخلية.  فعلى سبيل المثال، قامت مجموعة بحثية باستهداف خلايا دم سرطانية من نوع ‭(‬Chronic‭ ‬Myeloid‭ ‬Leukemia‭ ‬“CML”‭)‬ الذي يعرف باندماج تسلسلين وراثيين لجينين على كروموسومين مختلفين مما يؤدي إلى نشوء جين جديد يسمى بـ(BCR/ABL fusion gene).

وعليه فقد قام الباحثون باستهداف هذا التسلسل الجيني المسبب لهذا النوع من سرطان الدم في الخلايا النموذجية المخبرية وحيوانات التجارب وكانت النتائج مبشرة حيث قُتِلَتْ الخلايا التي تحمل هذا التسلسل الوراثي المرضي، ثم قُتِلَتْ خلايا السرطان بشكل منفرد(3).  ومن الإستراتيجيات أيضًا، إيقاف التعبير الجيني للجينات السرطانية (Oncogenes) بتغيير نشاط هذه الجينات أو تثبيط التعبير الجيني لها بالكامل.  ومن الأمثلة على ذلك، ما قام به باحثون من استهداف جين (EGFR) المتطفر باستخدام تقانة التعديل الجيني (CRISPR) وإيقاف التعبير الجيني لهذا الجين مما أدى إلى تثبيط نمو وتطور خلايا سرطان الرئة وأيضًا حدوث ضمور في حجم الورم في حيوانات التجارب التي تحمل المرض نفسه(4).

ولم يقتصر استخدام تقانة التعديل الجيني في العلاج المباشر للجينات المسببة للسرطان، بل استخدم الباحثون تقنية التعديل الجيني في تعديل الخلايا المناعية وراثيًا وتحسين قدرتها على قتل الخلايا السرطانية في حيوانات التجارب مخبريًا. ففي بحث فريد من نوعه، عدل باحثون الخلايا المناعية للتعبير عن بروتينات على أسطحها تسمى مستقبلات المستضدات الكيميرية ‭(‬Chimeric Antigen Receptors “CARs”‭)‬ الموجودة على الخلايا المناعية التائية (T-Cells)، التي حسنت من قدرة الخلايا المناعية التائية من التعرف على الخلايا السرطانية بالتعرف على المستضد المقابل ومهاجمتها. وتفصيلًا لهذا البحث، فقد حرر باحثون جزءًا من جين (TRAC)، الذي يشتمل على جين مستقبل الخلايا التائية (T-Cells) والذي يساعد الخلية المناعية على التعرف على الجزيئات الغريبة، بتقانة التعديل الجيني (CRISPR) بدلًا من إيصال التسلسل الجيني لـ(CAR) بتقانة الحاملات الفيروسية من نوع (Retrovirus)، مما يسمح للجين (CAR) بالاندماج في المنطقة الجينية للجين (TRAC) بشكل محدد ودقيق.
وعندما اختبر الباحثون نوعي الخلايا (CAR T-Cells) في حيوانات التجارب المصابة بسرطان الدم، أظهرت الخلايا التي أُدْخِل فيها جين (CAR) في موضع (TRAC) عبر تقانة التعديل الجيني كريسبر (CRISPR) فاعلية أكبر في تدمير الخلايا السرطانية من تلك التي أُدْخِل فيها بشكل عشوائي بتقانة الحاملات الفيروسية من نوع (‬5‭)(‬Retrovirus‭)‬. ومع كل هذا التقدم الكبير الذي أحرزه الباحثون في تطويع تقانة التعديل الجيني كريسبر (CRISPR) للأغراض العلاجية لأمراض السرطان إلا أن الطريق لازال في بدايته في إدراج هذا النوع من العلاجات الموجهة للسرطان بشكل كامل وآمن لعلاج مرض السرطان بشكل فعلي في المستشفيات. فلا يزال هناك تحديات تقنية ولوجستية وأخلاقية تحف هذه التقانة قبل السماح بها رسميًا في الوقت الراهن.
وعلى الرغم من ذلك، فمازالت الأبحاث الطبية في مجال التعديل الجيني وتطبيقاته التشخيصية والعلاجية على قدمٍ وساق ومازالت تطالعنا المنشورات العلمية بين حينٍ وآخر بآخر ما توصلت له الأبحاث من تباشير في تطبيقات هذه التقانة الناجعة والفاعلة بإذن الله تعإلى لما فيه خير لمرضى السرطان والأمراض الوراثية الأخرى.

Share This