الجينوم
د. منيرة الشمري – وراثة إكلينيكية – المدينة الطبية بجامعة الملك سعود – السعودية
الجينوم هو المجموعة الكاملة لتعليمات الحمض النووي الموجودة في الكائن الحي. فهو دليل التشغيل الذي يحتوي على جميع المعلومات التي يحتاجها الفرد للتطور ولتوجيه النمو من خلية واحدة إلى أن يكون شخصًا كاملًا.
كما يحتوي الجينوم على عديد من الأدلة المهمة عن الفرد من سلالة وأسلاف إلى الطريقة التي يستجيب بها الجسم للأمراض والأدوية والشيخوخة. وله القدرة بفضل الله على إصلاح نفسه بشكل كبير عندما يتضرر.
الجينوم ذو تركيب معقد وفريد في كل شخص. فكلما عرفنا مزيدًا عن الجينوم الخاص في الشخص وكيف يعمل، زاد فهمنا لصحته وسهولة اتخاذ قرارات صحية مستنيرة.
يُخزَّن الجينوم في جزيئات ذات أطوال غير مستوية من الحمض النووي تسمى الصبغيات الوراثية «الكروموسومات». في البشر يتكوّن الجينوم من 23 زوجًا من الكروموسومات الموجودة في نواة الخلية، بالإضافة إلى جزء صغير يوجد في الميتوكوندريا بالخلية. لكل فطر ونبات وحيوان عدد محدد من الكروموسومات. على سبيل المثال، لدى البشر 46 كروموسومًا (23 زوجًا)، ونباتات الأرز بها 24 كروموسومًا، والكلاب لديها 78 كروموسومًا.
من المهم أيضًا أن تحتوي الخلايا التناسلية البويضات والحيوانات المنوية على العدد الصحيح من الكروموسومات وتكون ذات بنية صحيحة. فقد يؤدي وجود خلل في بنية أو عدد الكروموسومات إلى مشكلات صحية في النسل الناتج. على سبيل المثال يمتلك الأشخاص المصابون بمتلازمة داون ثلاث نسخ من الكروموسوم 21، بدلًا من النسختين الموجودتين في الأشخاص الأخرين. كما أن أحد أنواع اللوكيميا وبعض أنواع الأورام يكون بسبب خلل في بنية الكروموسومات وشكلها.
ربما كان اكتشاف التركيب المادي للحمض النووي في الخمسينيات من القرن الماضي أهم إنجاز بيولوجي في القرن العشرين. إن معرفة هذا الهيكل الذكي الذي يتضمن خيطين متكاملين من الحمض النووي يوفر كل منهما نموذجًا لصنع الخيط الأخر أساس لفكرة كيف يمكن أن يعمل الحمض النووي كدليل معلومات لجميع الأنظمة الحية. يصل طول الحمض النووي الناتج من كل خلية حوالي المترين.
الشكل المادي للحمض النووي أصبح الصورة الأكثر شهرة والأيقونة المرتبطة بالبيولوجيا، وربما بكل العلوم.
نُشِر أول تسلسل للجينوم البشري النووي في فبراير 2001 في مهمة بحثية دولية تُعرف باسم مشروع الجينوم البشري. يتكوّن الجينوم البشري من 3.2 مليار زوج من القواعد النيتروجية (النوكليوتيدات) وهي وحدات البناء الأساسية للأحماض النووية. تلك القواعد هي أدانين، غوانين، سايتاسين وثايمين.
يتشكل 2% من الجينوم البشري من حوالي 22000 جين والجزء المسؤول عن صناعة البروتين في الجينات يسمى الأكسوم. بينما 98% من الجينوم لا يحتوي على معلومات لصنع البروتينات وله وظائف أخرى، التي منها أنه يساعد في تنظيم الحمض النووي داخل النواة ويساعد في تشغيل أو إيقاف الجينات التي تقوم بصناعة البروتينات والجزء الأكبر لم تعرف وظيفته إلى الآن.
أصبح تسلسل الأكسوم شائعًا بشكل متزايد كأداة للمساعدة في تشخيص الأمراض الوراثية. بالرغم من أن الأكسوم يسهم بأقل من 2% من التسلسل الجيني، ولكن الخلل فيه يسهم بحوالي 85% من الأمراض الجينية والوراثية.
نحتاج إلى قرن من الزمن لقراءة تسلسل جينوم واحد، إذا قرأنا حرفًا واحدًا في الثانية على مدار 24 ساعة في اليوم. لكن مع تطور تقانات التسلسل الجديدة، أصبح تسلسل الجينوم الكامل ممكنًا بشكل متزايد. تسلسل الجينوم كان باهظ الثمن لكن في الواقع انخفضت التكلفة عبر الوقت من ثلاثة مليارات دولار أمريكي لأول جينوم بشري وصولًا إلى ألف دولار اليوم. تقوم تقانات التسلسل الجديدة بإنتاج كمية استثنائية من البينات لا مثيل لها بأي شيء آخر في علم الأحياء. وقد أحدث تسلسل الجينوم الكامل ثورة في علم الأحياء والطب بتوفير إجابات عديد من القضايا المهمة، من تطور الأنواع إلى اكتشاف علاجات جديدة وأكثر كفاءة لعالج المرضى. لكن التحدي التالي هو تحليل هذه الكميات الغزيرة من بيانات التسلسل بالطريقة الأكثر جدوى التي يمكن أن تسرّع بشكل كبير الأبحاث الطبية الحيوية.




الحمض النووي لأي شخصين متطابق بنسبة 99.6% لكن الاختلاف بحوالي 0.4 في المائة وهو ما يمكن أن يفسر عديدًا من الاختلافات بين الأفراد. التغيرات والفروقات في تسلسل الحمض النووي أمر وارد وتسمى المتغيرات الجينية. غالبية الوقت المتغيرات الجينية لا يكون لها تأثير ضار ومباشر لكن من الممكن أن تسهم هذه الفروقات في التنوع بين الأفراد، وفي بعض الحالات، يمكن أن تؤهب الفرد لمرض معين أو تؤثر في الاستجابة للأدوية بشكل مختلف ومعرفتها سابقًا يساعد على تحديد نوعية وكمية جرعة علاج معين لشخص معين وهذا من أساسيات تطبيق الطب الشخصي الحديث. لكن في بعض الأحيان يكون التأثير ضارًا وتسمى طفرة جينية. فقد تؤدي الطفرات الجينية إلى بروتين تالف أو بروتين إضافي أو عدم وجود بروتين على الأطلاق، مما يؤدي إلى خلل في وظيفة البروتين ومن ثم المرض الجيني الوراثي. الطفرات الجينية إما أن تكون موروثة من أحد الوالدين أو كليهما وتوجد في الفرد عند الولادة أو تكون طفرات مكتسبة في جين والتي تحدث خلال حياة الشخص. إن انتقال المتغيرات الجينية من جيل إلى آخر يساعد في تفسير سبب انتشار عديدٍ من الأمراض في الأسر، مثل مرض الخلايا المنجلية والتليف الكيسي ومرض تاي ساكس. وعلى حسب نوع الطفرة والتأثير الناتج في البروتين تنتقل عبر الأجيال بشكل سائد أو متنحٍّ. وبعض الطفرات توجد على كروموسوم اكس فيكون لها نمط وراثي مختلف عبر الأجيال.
الجينوم مركب معقد شكليًا ووظيفيًا، فمن الممكن أن يتحكم جين واحد في عدد من السمات لكن في المعظم السمات تتأثر بجينات متعددة. علاوة على ذلك، يلعب نمط الحياة والعوامل البيئية دورًا مهمًا في التطور والصحة وعلى كيفية أداء الجينوم. الخيارات اليومية وطويلة الأجل التي يتخذها الشخص، مثل ما يأكل، وما إذا كان مدخنًا، ومدى نشاطه ونمط نومه ومدى التحكم بضغوطات الحياة، كلها تؤثر في الصحة ونمط التأثير الخارجي على الجينات.
التطور في اكتشاف وفهم كيفية عمل الجينات يسهم في فهمنا صحة الأنسان وتمكين التقدم الذي يفيد البشرية جمعاء.