الحمض النووي ليس مصيرًا
تحدي الضجة حول الفحوصات الجينية
Matt Nisbet – Skeptical Inquirer – July / August 2019 – ترجمة أ .ديمة أبوظهر
تصدر العنوان «العلماء يفكون الشيفرة الجينية للحياة البشرية» عناوين صحيفة «ذا نيويورك تايمز»، الصادرة في 27/06/2000
وفي اليوم السابق، وفي فعالية انعقدت في البيت الأبيض، انضم إلى الرئيس «بيل كلينتون» رئيس مشروع الجينوم البشري الوطني «فرانسيس كولينز» (Francis Collins)، ورئيس «سيليرا جينوميكس» «كريغ فينتر» (Craig Venter)، ليعلنا أن الاتحاد الخاص والحكومي المشترك نجح في تحديد موقع 90% تقريبًا من الجينوم (المجموع المورثي) البشري. وصرح الرئيس «كلينتون»، وبجواره العالِمَين: «اليوم، أصبحنا نتعلم اللغة التي خلق فيه الله الحياة، وبهذه المعرفة العميقة الجديدة، أصبحت البشرية على وشك اكتساب قوة جديدة هائلة على الشفاء» (Wade 2000).
على الرغم من أن الانتهاء الكامل من خريطة الجينوم كان لا يزال يبعد عدة سنوات، صوّر «كولينز» في مقال نُشر عام 1999 في مجلة (New England Journal of Medicine) رؤيته للفوائد الصحية، وقدّم سيناريو افتراضيًا بعد عقد من الزمن. وصف فيه مريضًا يبلغ من العمر 23 عامًا وافق على إجراء اختبار جيني بعد اجتماعه مع طبيبه. بناءً على النتائج، أُخبر المريض أنه معرض لخطر متزايد للإصابة بمرض الشريان التاجي، وسرطان القولون، وسرطان الرئة.
تم استخدام نتائج الاختبار، بحسب «كولينز»، لوصف نظام دوائي وقائي مصمم بشكل فردي لتقليل مستوى الكوليسترول لدى المريض وخطر الإصابة بأمراض القلب إلى المستويات الطبيعية. لكن الأهم من ذلك، «في مواجهة حقيقة بياناته الجينية، يصل (المريض) إلى تلك اللحظة الحاسمة القابلة للتعليم عندما يكون التغيير في السلوك الصحي لمدى الحياة، والذي يركز على تقليل مخاطر معينة، ممكنًا»، كما كتب «كولينز». في هذا السيناريو، خطط المريض لبدء تنظير القولون السنوي في سن الخامسة والأربعين، والانضمام إلى مجموعة دعم من الأفراد الآخرين المعرضين لخطر الإصابة بسرطان الرئة، في محاولة حازمة للإقلاع عن التدخين.
بعد أن أخذ الصحفيون إشارات من الحكومة والقطاع الخاص، صوّروا البحث الجيني بمصطلحات مثيرة خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، لإخبار القراء أن «ثورة» علم الوراثة كانت قيد الحصول. فأعلنت العناوين الرئيسية وقصص الغلاف عن جينات لعدد لا يحصى من السمات أو السلوكيات البشرية مثل «جين السمنة» و«جين الكسل» و«جين الله». بينما بيعت قصص أخرى ذات طابع مغإلى فيه للقراء على أساس الاعتقاد بأن الجينات هي قدر محتوم، وكانت بعناوين مثل «مشاكل الزواج: قد تكون في جيناتك»، «هل تشعر بالضياع دومًا؟ قد يكون في جيناتك» و«حيوان الحفلة؟ قد يكون في جيناتك».
لقد روجت مثل هذه الروايات بشكل خاطئ لفكرة أن الجينات تحدد الصحة، والجاذبية، والشخصية، والسعادة، والنجاح، والفشل الشخصي. وبذلك، تم تأطير مسار حياة الفرد بقوة من حيث مصيره الجيني، الأمر الذي قلل من أهمية مزيج معقد من العوامل الاجتماعية والسلوكية.
بحلول عام 2012، هبطت تكلفة تحديد تسلسل الجينوم البشري الكامل للفرد من عدة مليارات إلى ألف دولار. كما كانت الخدمات الجديدة التي تقدمها شركات الاختبارات الجينية للعملاء أرخص وأسرع. وبدلًا من تحديد تسلسل الجينوم الكامل للفرد، تقدم هذه الشركات للعملاء الفرصة للبحث عن علامات جينية للسمات والأمراض.
يوجد اليوم ما يقدر بنحو 246 شركة في الولايات المتحدة الأمريكية تقدم اختبارات جينية مباشرة إلى العميل. وتروّج هذه الشركات لخدمات تزعم أنها توفر معلومات موثوقة حول مخاطر الأمراض، والنسب، والقدرة الرياضية، وموهبة الأطفال، والتغذية، وحتى مستحضرات التجميل الشخصية، والموسيقى، والشريك الرومانسي، وأنواع النبيذ. ويمكن لأي مستهلك يمتلك حوالي 200 دولار لإنفاقه أن يشتري اختبارًا جينيًا عبر الإنترنت، ويستلم الاختبار عن طريق البريد، ثم يجمع عينة الحمض النووي ويعيد إرساله بالبريد، ليحصل على النتائج عبر الإنترنت. كما يمكن اختبار الكلاب وراثيًا من أجل «احتياجاتها الصحية» (Phillips 2016).
يحذر عالم الأخلاقيات البيولوجية «تيموثي كولفيلد» (Timothey Caulfield) في كتابه (The Cure for Everything) الصادر عام 2012، من أن تزايد شعبية الاختبارات الجينية الشخصية، هو نتيجة «دورة الضجيج» الإشكالية في العلم، والتي اشتدت على مدى العقود الثلاثة الماضية. غالبًا ما ضحى الباحثون ومؤسساتهم بالتعقيد وعدم اليقين والحقيقة في بحثهم عن المكانة والتمويل والربح.
يقول «كولفيلد»، الذي تحدث في مؤتمر (CSICon 2018)، أن هذه الدورة تنبع من الضغط الهائل على الجامعات والوكالات الحكومية لإثبات الفوائد المجتمعية والقيمة التجارية لأبحاثهم الممولة من القطاع العام. فينتج عن هذا الضغط المبالغة في الوعود في مقترحات المنح والبيع الوفير في المقالات البحثية والبيانات الإخبارية. ويلتقط الصحفيون مثل هذه الرسائل، وقد يحرفها بعضهم أكثر لإضافة المزيد من التشويق والدراما، ولجذب الانتباه، وينشرها عبر وسائل التواصل الاجتماعي. تعمل الشركات الخاصة على تضخيم الضجيج، بتوظيف الروايات التي غالبًا ما تنشأ مع الباحثين ووسائل الإعلام الإخبارية كعامل إضافي لطاحونة التسويق الخاصة بهم.
علاوة على كل هذا، يخبر «كولفيلد» المشاهدين في الحلقة السابقة من سلسلته على (Netflix) بعنوان (A Users Guide to Cheating Death)، أن «إدراكنا للوراثة يتقدم بسنوات ضوئية على ما يمكننا تحقيقه حاليًا». يتغذى الاختبار الجيني على اقتصاد العميل المصمم بشكل متزايد نحو جعل كل تجربة أو منتج شخصيًا بشكل خاص. لكن «كولفيلد» يحذر المشاهدين من أننا يجب أن نكون متشككين بشدة في الادعاءات القائلة بأننا «نستطيع استخدام المعلومات الجينية لتكييف هذه السمات البشرية شديدة التعقيد، التي تحتوي على الكثير من الجينات والخبرات والذكريات» والتي تتحد بطرق غير معروفة للتأثير على حياتنا.
وعود زائفة
من بين جميع تطبيقات الاختبارات الجينية، يحذر «كولفيلد» وخبراء آخرون من أن الكشف عن مخاطر المرض هو الأكثر إشكالية. تقدم أكثر من 130 شركة حاليًا اختبارات جينية متعلقة بالمخاطر الصحية (Phillips 2016). لكن لمثل هذه الاختبارات قيمة مشكوك فيها. لم يكتشف الباحثون بعد الجينات التي توفر معلومات تنبؤية عالية حول احتمالية الإصابة بأمراض شائعة مثل أمراض القلب والسكري ومعظم أنواع السرطان. فلهذه الأمراض روابط جينية معقدة ومتعددة تتفاعل بقوة مع البيئة الشخصية ونمط الحياة والسلوك. قليلة هي الاستثناءات عن عدد من الأمراض النادرة التي تسببها مباشرة طفرة جينية محددة مثل مرض هنتنغتون أو التليف الكيسي. في هذه الفئة، إن أفضل قصة «نجاح» للاختبار الجيني هي تحديد طفرات (BRCA1) و(BRCA2)، التي توجد في أقل من 1% من السكان والتي يمكن أن تزيد بشكل كبير من فرص إصابة بعض الأفراد بسرطان الثدي والمبيض.
على الرغم من أوجه عدم اليقين الخاصة بالأمراض الشائعة، تروج شركات الاختبارات الجينية بشكل كبير لقدرتها على تقديم معلومات حول مستقبل صحتنا. فعندما اختبر «كولفيلد»، على سبيل المثال، حمضه النووي، أشارت النتائج التي تلقاها إلى أن لديه فرصة بنسبة 0.4 في المائة للإصابة بمرض الاضطرابات الهضمية مقارنة بنسبة 0.1 في المائة من السكان. كما كان لديه أيضًا فرصة بنسبة 0.5 في المائة للإصابة بالتصلب المتعدد (MS) مقارنةً بنسبة 0.3 في المائة من السكان، وفقًا لتقديرات الشركة. ولكن عند وضعها ضمن المنظور العام، بالمقارنة مع المخاطر التي تمثلها القيادة، أو التعرض لأشعة الشمس، أو التدخين، أو الشرب، أو البدانة، فإن خطر إصابة «كولفيلد» الأكبر بنسبة 0.2 في المائة بمرض التصلب العصبي المتعدد قد «ضاع بشكل أساسي في أمواج المخاطر المرتبطة بالحياة»، كما أشار.
تعد الحاجة إلى وضع نتائج الاختبارات الجينية في سياقها مشكلة رئيسة ثانية في الخدمات المباشرة إلى العميل. قلة من الأفراد لديهم المعرفة المتخصصة للوصول إلى نوع التفسيرات التي قدمها «كولفيلد». فإذا طلب طبيب أو مستشار جيني اختبارًا جينيًا عن طريق مستشفى أو مختبر محلي، فسيكون المريض قادرًا على الاطلاع على النتائج مع أخصائي مؤهل يمكنه تقديم إرشادات حول كيفية تفسير وإدارة المخاطر – إذا كانت الإدارة ضرورية أصلًا.
ولكن عندما يطلب الفرد اختبارًا جينيًا من شركة ويتلقى النتائج عبر الإنترنت، فإنه يُترك للاعتماد على معرفته الخاصة لتفسير النتائج والتعامل معها والتصرف بناءً عليها. نتيجة لذلك، قد يطور الفرد توجهًا مضللًا مصيريًا. قد يصاب بالاكتئاب، ويتكون لديه يقين زائف بأنه مهدد بالإصابة بمرض خطير، وهو اعتقاد يمكن أن يؤثر على كل أوجه حياته الأخرى. أو إذا اعتقد خطًأ أنه سيصاب بأمراض القلب أو السمنة، فقد يفكر المريض في أنه قد يعيش الحياة كما يود ويأكل أي شيء يريد، ويتوقف عن ممارسة الرياضة، وما إلى ذلك. ويكون الافتقار إلى التوجيه والإرشاد المهني المتاحين أكثر خطورة عندما يحصل الآباء على اختبارات مباشرة من الشركة إلى العميل لتقييم مخاطر تأثر أطفالهم في المستقبل بمرض أو إعاقة خطيرة (Phillips 2016).
في أي اختبار جيني، تعتبر الخصوصية والموافقة المطّلعة أيضًا مصدر قلق كبير، لا سيما في ضوء الكشف الأخير عن المشاركة غير المشروعة للبيانات بين شركات وسائل التواصل الاجتماعي الكبرى. على غرار الانضمام إلى إحدى منصات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك، تقدم معظم شركات الاختبارات الجينية للمستهلكين عقدًا مطولًا، بضغطة زر، عبر الإنترنت يمكن تجاوزه بسهولة، هذا إذا تمت قراءته أصلًا، مما يثير التساؤل عما إذا تم الحصول على موافقة مطّلعة كافية من العميل أو ما إذا كان حتى على دراية بكيفية تخزين المعلومات الجينية الشخصية ومشاركتها واستخدامها. هذه الأسئلة مهمة للغاية لأن نموذج العمل لمعظم شركات الاختبارات الجينية يستند إلى نموذج مستوحى من «سيليكون فالي» الذي يعتبر المعلومات الوراثية البشرية «بيانات رقمية ضخمة يمكن تصفحها وتحميلها ومشاركتها من قبل العملاء والشركات عبر الإنترنت»، كما كتب عالما الاجتماع «ستيوارت هوغارث» (Stuart Hogarth) و«باولا ساوكو»(Paula Saukko) (2017).
أخيرًا، فإن الفكرة الرئيسية التي تقدمها شركات الجينات، بأنه إذا كان الفرد مدركًا لمخاطره الجينية للإصابة بالأمراض، فسوف يتخذ إجراءات لتبني أسلوب حياة أكثر صحة، هي فكرة خاطئة. كما يوضح «كولفيلد» (2012)، نادرًا ما يغير المرضى نمط حياتهم بناءً على الوزن أو مستويات الكوليسترول أو الجلوكوز الضارة، وهي مقاييس تعد في معظم الحالات مؤشرات لنتائج الأمراض ذات الصلة أفضل بكثير مما يمكن أن توفره الاختبارات الجينية الحالية. حتى عندما يعاني المرضى من نوبة قلبية أو يخضعون لعملية جراحية أو رأب الأوعية الدموية، فإن حوالي ثلث المرضى فقط يتبعون توصيات الأطباء بالاستمرار في نظام تمارين رياضية لمدة عام من الحدث.
ربما ليس من المستغرب أن يحذر تحليل ميتا الذي أشرف عليه فريق مؤسسة «كوكرين ريفيو غروب» (Cochrane Review Group) المحترم عن الدراسات المتاحة حول تأثيرات معلومات المخاطر الوراثية بالقول:
لا تدعم الأدلة الموجودة التوقعات بأن الإعلام عن تقديرات المخاطر المستندة إلى الحمض النووي يغير السلوك. ولا تدعم هذه النتائج استخدام الاختبارات الجينية أو البحث عن المتغيرات الجينية المسببة لمخاطر الأمراض المعقدة الشائعة على أساس أنها تحفز السلوك المخفض للمخاطر. (Hollands et al. 2016).
تبيع العديد من الشركات التي تقدم معلومات عن مخاطر المرض أيضًا اختبارات خاصة بالنسب، وهو خيار يكتسب شعبية. يقول «فيليبس» (2016) إنه عندما يتلقى الفرد معلومات غير متوقعة عن أسلافه، يمكن أن يكون لهذا غالبًا آثارًا عميقة على مفاهيم الهوية الشخصية بطرق تؤدي إلى تحريف وتشويش الاختلافات بين العرق والثقافة وعوامل أخرى لا تعد ولا تحصى. كذلك تحظى الاختبارات الموجهة للأمريكيين الأصليين أو الأمريكيين الأفارقة بشعبية متزايدة. لكن شركات الاختبارات الجينية تعتمد على قواعد بيانات أنشأها عملاء سابقون، مما يجعل مجموعة المعلومات الجينية التي يمكن من خلالها تقديم نتائج موثوقة علميًا مرتبطة بمجموعات الأقليات العرقية موضع شك. على سبيل المثال، من بين العملاء السابقين المسجلين في إحدى أكبر قواعد البيانات الخاصة، تم تحديد أقل من 1 في المائة على أنهم أمريكيون أصليون وأقل من 3 في المائة على أنهم أمريكيون من أصل أفريقي (Phillips 2016).
يقول «كولفيلد» في كتابه (The Cure for Everything) «أين تحدث هذه الثورة «الجينية»؟ ليس في العالم الذي أعيش فيه … إن ما يسمى بالثورة الجينية ما هو إلا تطور بطيء وغير مؤكد. ثمة كميات هائلة من المعلومات الجينية تحت تصرفنا، وتقنيات معقدة بشكل غير مفهوم تسمح بالإنتاج السريع للمزيد منها، لكن يبدو أن العلماء والباحثين لا يزالون يقضمون بشكل غير حاسم حول حواف كل تلك البيانات، غير متأكدين مما يجب فعله بها».