الذكاء الاصطناعي والصحة
النفسية
د. ميرنا فواز كلية التمريض – جامعة بيروت العربية – لبنان
تؤثر الاضطرابات العقلية في الصحة النفسية والاجتماعية والسلوكية والعاطفية للشخص، حيث لا يقتصر تأثير الاضطرابات النفسية في العقل فقط، إذ تؤثر الصحة النفسية في الصحة البدنية والعكس صحيح. على الصعيد العالمي، تؤثر الاضطرابات النفسية في أكثر من مليار شخص، لا سيما أولئك الذين يعيشون في الدول ذات الدخل المرتفع والمتوسط. ويتفاقم هذا العبء بسبب قلة الوصول إلى العلاج، حيث لا يتلقى -50 %90 من المصابين باضطرابات نفسية أي علاج في البلدان المرتفعة الدخل والبيئات منخفضة الموارد، على التوالي. بالإضافة إلى ذلك، يعتبر تشخيص الاضطرابات النفسية معقد بسبب عدم التجانس في الصورة السريرية والأعراض والتقلبات في مسار المرض، حيث يتم إعاقة التشخيص بسبب الثغرات في فهمنا للآليات المسببة. فتستند الممارسات الحالية لتشخيص الاضطرابات النفسية كليا على وجهات النظر الذاتية من المرضى من ناحية والملاحظات والتفسيرات التي يقدمها الأطباء من ناحية أخرى، إذ لا تزال التدخلات الموضوعية غير متاحة. علاوة على ذلك، يحتاج تشخيص الاضطرابات النفسية إلى الكثير من الوقت والموارد من خلال إدارة أدوات التشخيص، وإجراء المقابلات مع الأقارب أو مقدمي الرعاية، وتسجيل التاريخ الصحي.

توفر أدوات وتقنيات الصحة الرقمية فرصًا كبيرة لدعم وتعزيز الجوانب التشخيصية والتدخلية للرعاية النفسية، والشكل الرائد والشائع لهذه التقنيات الرقمية هو الذكاء الاصطناعي، والذي يمكّن الآلات من تعلم القواعد المعقدة وتقديم استنتاجات قابلة للتنفيذ بفهم المشكلات والاحتمالات وغربلة كميات هائلة من البيانات وربطها مع بعضها البعض. إن التقدم في استخدام الذكاء الاصطناعي للتدخلات التشخيصية والعلاجية للصحة النفسية آخذ في الازدياد، حيث بدأت التدخلات المتعددة في الظهور بما في ذلك استخدام الروبوتات الاجتماعية في رعاية الخرف، والاضطرابات الجنسية، وحتى توظيف معالجين نفسيين افتراضيين. يتمتع الذكاء الاصطناعي بإمكانية كبيرة لإعادة تشكيل فهمنا للاضطرابات العقلية وكيفية تشخيصها، حيث يمكن الاستفادة من الذكاء الاصطناعي لدراسة وفهم الأنماط المعقدة والتفاعلات بين جينات الفرد ودماغه وسلوكياته وخبراته مما يمثل فرصة غير مسبوقة لتحسين الاكتشاف المبكر للأمراض العقلية وتخصيص خيارات العلاج لكل مريض. هناك الكثير من الدراسات التي تبحث في دقة نماذج الذكاء الاصطناعي في تشخيص الاضطرابات النفسية مثل مرض الزهايمر، والفصام، والاضطرابات ثنائية القطب، واضطرابات ما بعد الصدمة، واضطراب الوسواس القهري.
بينما أصبحت تقنية الذكاء الاصطناعي أكثر انتشارًا في الطب لتدخلات الصحة البدنية، كان مجال الصحة النفسية أبطأ في اعتماد الذكاء الاصطناعي، نظرًا؛ لأن ممارسي الصحة النفسية يركزون على المريض في ممارستهم السريرية أكثر من معظم الممارسين غير النفسيين، ويعتمدون أكثر على «مهارات أكثر ليونة»، بما في ذلك تكوين علاقات مع المرضى ومراقبة سلوكياتهم وعواطفهم بشكل مباشر. وبالتالي، لا يزال لدى ممارسة الصحة النفسية الكثير للاستفادة من تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، ومع ذلك فإن تواتر منشورات الصحة النفسية والذكاء الاصطناعي بدأت تتوسع بشكل كبير في السنوات القليلة الماضية. تشكل تقنيات التعلم العميق أداة مهمة للتعامل مع مجموعات البيانات الطبية المعقدة، وبناء مجموعات بيانات قوية لمشاركتها بين مؤسسات الرعاية الصحية النفسية. على سبيل المثال، اقترحت دراسات حديثة للذكاء الاصطناعي اتجاهات واعدة لتوظيف التكنولوجيا بما في ذلك التعلم العميق في تحسين فهمنا لتشخيص الأمراض العقلية وعلاجها، حيث تساعد التفاعلات الروبوتية في توفير المعلومات المتعلقة بالتغيرات العاطفية الفردية والاحتفاظ بسجلات يومية للتغيرات المعرفية. كما يمكن تطبيق تقنية التعلم الآلي لحل مشاكل الصحة النفسية، حيث قدمت البيانات الناشئة في هذا المجال رؤى حول تطبيق تقنيات الذكاء الاصطناعي في العلاجات النفسية. علاوة على ذلك، أصبحت الأبحاث المتعلقة بالتعلم العميق وتطبيقه في المجال الطبي ذات صلة سريرية بشكل متزايد بالتطبيقات العلاجية في علاج الاضطرابات النفسية، حيث أدت الأساليب التي تم تطويرها على أساس التعلم العميق إلى تحسين الممارسات الحالية للعلاج النفسي بشكل فعال، وتبنيها في مجموعة واسعة من التدخلات، مثل تحديد الأشياء في الصور، والتعرف على الكلام، وترجمة اللغات، وفهم المحددات الجينية للأمراض، والتنبؤ بالحالة الصحية باستخدام السجلات الصحية الإلكترونية. توفر التكنولوجيا الحالية العلاجات عبر الإنترنت والرعاية الروبوتية للخرف واضطراب التوحد، إذ يمكن لتطبيقات الذكاء الاصطناعي في الصحة النفسية أن تقدم رؤى حول مناهج العلاج الجديدة، حيث قدمت دراسة سابقة دليلًا على أن الذكاء الاصطناعي يوفر فرصًا لإشراك المناطق الريفية التي لا تملك موارد طبية كافية، والتي يؤدي إلى استجابة أفضل للمريض. بالإضافة إلى ذلك، يتم استخدام التعلم العميق في التدخلات الخاصة بمرض الفصام ويقترح أن يكون فعالًا في الحد من القلق من خلال مساعدة المرضى على اكتشاف التغيرات العاطفية وأنماط التفكير وتعزيز أساليب التفكير المرنة. كما قدمت دراسة أخرى دليلًا على أن خوارزميات التعلم العميق مثل (Tess)، مصممة خصيصًا للاستخدام العملي للعلاج النفسي عبر الإنترنت. على الرغم من أن الذكاء الاصطناعي النفسي لم يتم تصميمه ليحل محل دور المعالج، إلا أنه بوصفه خيارًا علميًّا عملي لتقديم الدعم للمرضى المحتاجين. إذ صُممت (Tess) للإشارة إلى التعبيرات التي تُظهر الضيق العاطفي؛ ووجدت الدراسة أنها ساعدت في تقليل أعراض الاكتئاب والقلق بين المستخدمين. تفسر (Tess) المصطلحات النفسية مثل التشوهات المعرفية وتقدم نصائح مفصلة للتأكد من المواقف الصعبة ومعالجتها وبالتالي يمكن توظيفها في المناطق التي لديها موارد سريرية أقل. ومع ذلك، أظهرت دراسة حديثة أن معظم العلاجات النفسية تركز على جوانب الإدراك والسلوك والعاطفة للشخص أكثر بكثير من السمات البيولوجية. وتحتاج هذه الميزات الخاصة بالمرضى، والتي قد تختلف اختلافًا كبيرًا بين الأفراد، بصرف النظر عن التفاعلات بين هذه الميزات والبيئة، إلى تحسين بواسطة الذكاء الاصطناعي لجعلها دقيقة ومفيدة، تمامًا مثل كيفية استخدام الذكاء الاصطناعي للتدخل الطبي والصيدلاني.

وبالتالي فإن تطبيق الذكاء الاصطناعي في مجال الرعاية الصحية النفسية يواجه بعض الفرص والتحديات. تتضمن الفرص تحديد المرضى الأكثر احتياجًا للرعاية أو التدخلات التي قد تكون أكثر ملاءمة لمجموعة سكانية أو فرد معين. في عملية الاختيار، يمكن أن تساعد تطبيقات الذكاء الاصطناعي المستندة إلى بيانات من أعداد كبيرة من السكان في تحديد الارتباطات الإحصائية غير المحددة سابقًا، إذ يمكن أن تساعد مثل هذه النماذج في الكشف عن حالات الصحة النفسية غير القابلة للرصد، وتحليل المشكلات المعقدة، ورصد اتجاهات مؤشرات الصحة النفسية الرئيسة. كأمثلة على ذلك، يمكن للذكاء الاصطناعي المطبق على بيانات وسائل التواصل الاجتماعي اكتشاف الأفراد الأكثر عرضة للانتحار. كما يمكن أيضًا استخدام الذكاء الاصطناعي لتحديد الأشخاص الذين من المرجح أن يستفيدوا من العلاج السلوكي المعرفي أو العلاج النفسي الديناميكي في سياقات الرعاية الصحية الروتينية.
تشمل الفرص أيضًا دعم تشخيص أكثر موثوقية للاضطرابات النفسية والمراقبة المستمرة وتخصيص الرعاية أثناء مسار العلاج لزيادة فرص الاستجابة إلى أقصى حد. ويوفر الذكاء الاصطناعي في عملية التقييم، فرصًا للجمع بين البيانات البيولوجية والنفسية والاجتماعية لإنشاء قنوات تقييم جديدة مثل تحديد حالات الصحة النفسية من خلال بيانات الهاتف الذكي السلبية. فعند تطبيقه على تقييم التدخلات، يمكن أن يدعم الذكاء الاصطناعي فهم عناصر العلاج الأكثر تأثيرًا على تحسن المريض وقد يساعد في مراقبة بعض العناصر أثناء العلاج، مثل التقلبات في الانفعالات أو الأعراض التي قد تسهل رعاية قائمة على القياس بشكل أفضل أو ممارسات قائمة على الأدلة بطرق يمكن أن تساعد الأطباء على تحسين تقنياتهم أو تكييفها. في هذه المجالات، يوفر الذكاء الاصطناعي الفرصة لدعم المرضى ومقدمي الرعاية في اتخاذ قرارات مشتركة أكثر استنارة كجزء من رعاية أكثر تركيزًا على المريض.
بالنسبة للتحديات، هناك العديد من التحديات على المستوى المؤسسي والسياسي لتطبيق الذكاء الاصطناعي في الرعاية الصحية؛ إذ تشمل الاهتمامات التنظيمية حوكمة أنظمة الذكاء الاصطناعي المستقلة، وقضايا المسؤولية والمساءلة، وندرة معايير استخدام الذكاء الاصطناعي وتقييم السلامة، وقياس الأثر الإكلينيكي والاقتصادي غير الموثق. فلا تشرح الأدبيات الاستراتيجيات المناسبة لمعالجة العوائق المختلفة، لكن توصي إحدى الدراسات باستخدام فريق عمل محدد في مؤسسات الرعاية الصحية للعمل على وجه التحديد مع قضايا الذكاء الاصطناعي. وتتمثل إحدى العقبات الرئيسة فيما يتعلق بمستويات التنظيم والسياسة في عدم وجود إرشادات واضحة ومتسقة فيما يتعلق بتطبيق الذكاء الاصطناعي في الرعاية الصحية بشكل عام، وفي الرعاية الصحية النفسية على وجه التحديد. ففي الولايات المتحدة، لا تزال إدارة الغذاء والدواء الأمريكية تحدد القضايا التنظيمية المتعلقة بالذكاء الاصطناعي في الرعاية الصحية، وقد وضع الاتحاد الأوروبي إرشادات أخلاقية للذكاء الاصطناعي الجدير بالثقة ويعمل الآن على تحويلها إلى قانون. وفي التشريع المقترح، من المرجح أن يتم اعتبار معظم تطبيقات الرعاية الصحية تطبيقات عالية المخاطر، مع وجود لوائح تنظيمية مهمة. أما في بلدان أخرى، لم تعالج معايير استخدام منتجات الصحة النفسية الرقمية المضاعفات الإضافية التي تجلبها تطبيقات الذكاء الاصطناعي. لذلك، نظرًا للافتقار الحالي للتنظيم، يمكن أن يكون للتحولات الجديدة في الإرشادات التنظيمية تأثير كبير في السلامة.
قد يكون هناك أيضًا عدم ثقة عند المرضى فيما يتعلق بهذه التكنولوجيا، مع مخاوف بشأن الجوانب التقنية، مثل حواجز الاتصال، والقضايا الأخلاقية (الخصوصية)، والجوانب التنظيمية (المعايير غير المنظمة). تتعلق هذه المخاوف بالذكاء الاصطناعي بشكل عام، لكنها قد تكون أكثر وضوحًا في مجال الرعاية الصحية النفسية. على سبيل المثال، يتم تحديد التشخيصات النفسية بمعايير تتعلق بالحياة اليومية ويتم صياغتها بلغة عادية يسهل على المرضى فهمها غالبًا. ومع ذلك، قد يكون من الصعب فهم وقبول العلامات التي تشير، على سبيل المثال، إلى الاكتئاب أو التفكير في الانتحار أو القلق الاجتماعي، والتي يتم تحديدها بواسطة الذكاء الاصطناعي من خلال تحليل البيانات الواردة في السجل الطبي للمريض أو هاتفه الذكي أو وسائل التواصل الاجتماعي، التي من المحتمل أن تؤدي إلى حواجز الاتصال بين المريض ومتخصصي الرعاية الصحية النفسية. وقد يواجه المرضى أيضًا مخاوف مختلفة تتعلق بالخصوصية لأن استخدام الذكاء الاصطناعي غالبًا ما يتطلب مجموعات بيانات كبيرة لتوفير رؤى واضحة حول حالة المريض، وقد يكون المرضى أكثر استعدادًا لتقديم بيانات الصحة النفسية الخاصة بهم بناءً على استخدامات أو متلقي هذه البيانات، ولكن في العديد من تطبيقات الذكاء الاصطناعي، قد لا يكون الاستخدام النهائي لتلك البيانات معروفًا عند جمعها للمرة الأولى.



إضافة إلى ذلك، تشمل التحديات التقنية التي تواجه تنفيذ الذكاء الاصطناعي مخاوف بشأن البيانات، حيث يمكن أن تكون مجزأة للغاية ومعزولة في العديد من الأنظمة التي يصعب جمعها مع بعضها البعض. فقد تكون البيانات أيضًا غير قابلة للاستخدام بسبب نقصها الذي تفي بالمتطلبات الدقيقة أو البيانات التي قد يتم تصنيفها بشكل غير صحيح. وبالتالي، مع وجود كمية كبيرة من البيانات، لا يعني ذلك أنها ستكون قابلة للتطبيق على مشكلة معينة، خاصة وأن الكثير من البيانات المتشابهة قد لا توفر قيمة ذات صلة سريريًا. علاوة على ذلك، عند استخدام بيانات السجل الصحي الإلكتروني، تميل بيانات الصحة النفسية إلى أن تكون أقل تنظيمًا، وعندما تكون مجموعات البيانات صغيرة، فقد لا تكون تمثيلية وتخفق في التعميم عند تطبيقها على نطاق أوسع. فقد يؤدي هذا إلى تحيز الخوارزمية وإخفاق النماذج في التنبؤ بالمشكلات بين مجموعات سكانية محددة. علاوة على ذلك، يجب تحديث البرامج وتقويمها باستمرار، كما تظهر الحاجة إلى توفر أجهزة كافية. ونظرًا لأن بيئات الرعاية الصحية النفسية تعاني من نقص الموارد، فقد لا تكون البنية التحتية التقنية الكافية موجودة.
لذلك، يُظهر الذكاء الاصطناعي قيمة هائلة في تعزيز الرعاية الصحية النفسية، ومع ذلك فإنه لا يزال بحاجة إلى تطوير كبير ودراسة حتى يسُتخدم على نطاق أوسع.