الزيوت النباتية

وأثرها في الأمعاء الدقيقة

أ.د. محمد الزغيبي– علم وظائف الأعضاء- جامعة الملك سعود

يستغرب كثير من الناس عند سماعهم أن للدهون الغذائية بعض الفضائل والحسنات؛ لأنهم ينظرون إليها عادة على أنها شر مستطير. ولكن كلنا يعلم الحكمة التي تقول لا إفراط ولا تفريط وأهميتها في أمور الحياة كلها. وإذا طبقنا هذه المقولة على تناول الدهون اتضح لنا أن صحة الإنسان تتدهور عندما يأخذ كميات كبيرة أو قليلة جدًا من تلك الدهون، أي عندما يتجاوز حد الاعتدال في تناولها. وللأسف يغلب على معظم الناس في مجتمعاتنا تناول كميات كبيرة من الدهون في الأطعمة اليومية. تنقسم الدهون علميًا إلى ثلاثة أقسام: الدهون الثلاثية (Triglycerides)، الدهون المفسفرة «الفوسفوليبيد» (Phospholipids)، ودهون الستيرول (Sterols)، وجميعها مهمة في تكوين الجسم لأنها تمده بالطاقة اللازمة وتعد محتوياتها الأحماض الدهنية (Fatty Acids) مواد أساسية في التنظيم الهرموني. وتسهم الدهون المفسفرة والستيرول في بناء الخلايا والأنسجة وكذلك في تصنيع الهرمونات والعصارة المرارية الصفراوية. ومن المعروف أن الدهون مسؤولة عن النكهات اللذيذة المصاحبة لمختلف الأطعمة وخصوصًا المقلية.

منها مما يدفع كثيرًا من الناس إلى تناولها وبكميات قد تكون كبيرة من وقت إلى آخر. أود في مقالتي هذه التركيز على الدهون الثلاثية لأهمية محتواها ولعظم دورها في بناء جسم الإنسان. يتكـون كل مركب دهنـي ثـلاثـي من جزيء جلـسرول (Glycerol) وثلاثة أحماض دهنية. وقد تكون تلك الأحماض الدهنية مشبعة (Saturated) أو غير مشبعة (Unsaturated). فغير المشبعة قد تكون أيضًا عديدةَ عدمِ التشبع (Polyunsaturated) أو أحاديةَ عدمِ التشبع (Monounsaturated). تحتوي معظم الدهون الحيوانية وزيت جوز الهند وزيت النخيل على درجة تشبع عالية مما يجعلها أكثر صلابة عند درجة حرارة الغرفة من الزيوت النباتية الأخرى. بالإضافة إلى أنها تحتوي على نسب مختلفة من الكولسترول لذلك يقلل بعض الناس من تناولهم الزيوت الحيوانية ويركزون على الزيوت النباتية الصناعية (Margarine). وبما أن معظم الزيوت النباتية تتكوّن من أحماض دهنية عديدة عدم التشبع مثل زيت العصفر (Safflower oil)، زيت تباع الشمس (Sunflower oil)، زيت الذرة (Corn oil) والمستخدم كثيرًا في قلي الطعام، وزيت فول الصويا (Soybean oil). والبعض الآخر منها يتكوّن من أحماض دهنية أحادية عدم التشبــع مـثل زيت الزيتون (Olive oil)، إلا أن جميعها خالية من الكولسترول. ومع ذلك فإن المشكلة المصاحبة لمعظم هذه الأحماض هي قابليتها للأكسدة (Oxidation). فتأكسد الأحماض الدهنية عديدة التشبع والموجودة في الزيوت المذكورة أعلاه أسهل بكثير من تأكسد غيرها من الأحماض الدهنية خصوصًا أحادية التشبع مما يساعد على إفساد الزيت وإنتاج مواد مختلفة أخرى. لذا يعمد المصنَّع والمنتج لتلك الزيوت إما إلى تعبئة الزيت في وعاء مختوم ومفرغ من الهواء وحفظه مبردًا، أو إضافة مواد مضادة للأكسدة (Antioxidants) مثل فيتامين ج وفيتامين هـ (Vitamin C، E).

يستطيع جسم الإنسان تصنيع معظم الأحماض الدهنية باستثناء بعضٍ منها مثل حمض اللينولييك (Linoleic Acid) (حمض زيت الكتان) الذي يوجد في زيت العصفر (القرطم) وزيت تباع الشمس وزيت الذرة وزيت فول الصويا؛ وكذلك باستثناء حمض ألفا اللينولييك الذي يوجد بكثرة في زيت السمك. ولأهمية وجود حمض اللينولييك وحمض ألفا-اللينولينيك (Alpha-Linolenic Acid)، اللذين يعرفان أيضًا بالأحماض الدهنية الأساسية (Essential Fatty Acids)، لقيام الجسم بوظائفه المختلفة فلابد من توافرهما في الغذاء الذي يتناوله الإنسان بقدر محدد. حيث يستخدمهما الجسم في تركيب جدار الخلايا وتصنيع مركبات شبيهه بالهرمونات وتعرف بالإيكوسانويد (Eicosanoids) والتي لها دور كبير في تنظيم ضغط الدم، وتنظيم تجلطه ودهونه وكذلك في إحداث الاستجابات المناعية للعدوى والالتهاب.

ولقد أثبتت دراساتٌ سابقةٌ أن المجتمعات المعتمدة على أكل الأسماك أقل عرضة للنوبات القلبية (Heart Attacks) من المجتمعات المعتمدة على أكل الزيوت المحتوية على أحماض اللينولييك (حمض زيت الكتان). وفي هذا الصدد أجرينا دراسـة تطبيقيــة في كليــة طب ولايـــة فرجينيـا (Medical College of Virginia, MCV) بالولايات المتحدة الأمريكية للمقارنة بين تأثير حمض زيت الكتان وحمض زيت الزيتون على إنتاج البروتينات المساهمة في الالتهاب والمعروفة بالجاذبات الكيميائية (Chemokines)، مثل إنترلوكين-8 (Interleukin-8)، من الخلايا العضلية الناعمة والمستأصلة من الأمعاء الدقيقة لدى الأصحاء ومقارنتها بالخلايا المستأصلة من الأمعاء الدقيقة لدى مـرضى الالتهاب المعوي والمعـروف باســـم الكرون (Crohn’s Disease). وأثبتت الدراسة أن إضافة حمض زيت الكتان يزيد من إفراز عناصر الالتهاب إنترلوكين-8 بتسعة أضعاف المستوى الذي كان عليه قبل إضافة الحمض، مما يسهم في استمرارية حالة الالتهاب في خلايا الأمعاء المستأصلة من مرض الالتهاب المعوي (كرون)؛ لأن الإفراط في إفراز إنترلوكين-8 يؤدي إلى جذب كميات كبيرة من خلايا الدم البيضاء المتعادلة (Neutrophils) وبشكل مستمر إلى المنطقة المصابة مما يسبب أيضًا استمرارية حالة الالتهاب والاضطراب في تلك المنطقة. وحصلنا على المستوى نفسه من الارتفاع في عناصر الالتهاب إنترلوكين-8 في الخلايا الطبيعية بعد إضافة حمض زيت الكتان المؤكسد؛ لأن تأكسد هذا النوع من الحمض سهل جدًا ويحدث عادة بسبب تكرار استخدامه في قلي الطعام أو الإعدادات الأخرى.

وتمكنت الدراسة من تهبيط إنتاج عناصر الالتهاب بإضافة فيتامين ج وفيتامين هـ. وفي المقابل، فإن معالجة الخلايا الطبيعية أو الملتهبة والمستأصلة من مرضى الكرون بحمض زيت الزيتون لم يزد من إفراز عنصر الالتهاب إنترلوكين-8 نهائيًا. بل على العكس وفر حمض زيت الزيتون الحماية لخلايا الأمعاء الدقيقة والواقعة تحت الالتهاب، المستأصلة من مرضى الكرون، من الدهون المؤكسدة وهبط إفراز عنصر الالتهاب إنترلوكين-8 من تلك الخلايا ولم يكن هناك فرق بين تأثير فيتامين ج و هـ، كمهبطات للأكسدة وكذلك مهبطات لعنصر الالتهاب إنترلوكين-8، وبين تأثير حمض زيت الزيتون لوحده. مما يدل على أن هذا الحمض له خاصية الحماية والوقاية من عناصر الالتهاب وعناصر الأكسدة التي تؤثر في الجسم بشكل كبير، بل تمثل أحد السموم التي يجب التخلص منها.

والجدير بالملاحظة هو عدم قيام حمض زيت الزيتون المؤكسد بزيادة إفراز عنصر الالتهاب كما هي الحال عندما أضفنا حمض زيت الكتان الصافي أو المؤكسد إلى الخلايا الطبيعية أو المستأصلة من مرضى الالتهاب المعوي كرون. وفي النهاية أوصت الدراسة بأن استبدال الأطعمة المحتوية على حمض زيت الكتان بأطعمة تحتوي على زيت الزيتون الصافي سواء لمرضى الالتهاب المعوي كرون أو للأشخاص العاديين وزيادة تناول الأغذية المحتوية على فيتامينات مضادة للأكسدة مثل الخضروات بأنواعها قد يسهم وبشكل فاعل في تقليل حدة ونشاط الالتهابات في الأمعاء. وقد يكون لهذا الاستبدال والزيادة دور خاص في تخفيف حدة مرض الكرون. كما يجب ملاحظة أن استخدام الزيوت المختلفة في القلي ولعدة مرات يؤدي إلى زيادة أكسدتها كما هي الحال في كثير من الأطعمة المقلية، وخاصةً الأكلات السريعة، ويكون لها تأثير سلبي كبير في صحة الإنسان؛ لأنها تساعد في رفع نسبة الأكسدة والالتهابات المختلفة وتزيد من السمنة وقد أثبت ذلك علميًا في دراسات أخرى. والجدير بالذكر أنه قد نُشِرتْ هذه الدراسة في مجلة علمية تهتم بعلوم الأغذية الإكلينيكية (Clinical Nutrition) في عام 2004. وقد حازت على جائزة أفضل دراسة علمية نشرت في 2004 من الجمعية العلمية الأوروبية للأغذية المعوية واللامعوية.

Share This