الصيدلة الجينية

استجابة علاجية أكثر فعالية

د. استشهاد محمد – صيدلة إكلينيكية – جامعة بني سويف – مصر

ظهرت في الآونة الأخيرة ثورة طبية مرتبطة بالصيدلة الجينية (Pharmacogenomics)، أو علم الوراثة الدوائي. تُرى ما علاقة الجينات بوصف الدواء؟

هل حدث يومًا أنك تناولت مسكنًا للصداع، مثل الباراسيتامول (Paracetamol) ولكنك لم تحصل على النتيجة العلاجية المطلوبة لتخفيف الألم؟!

هل تساءلت لماذا لم يتأثر جسمك بالباراسيتامول على الرغم من أنه الدواء المثالي لجميع أفراد أسرتك بما فيهم أخوك التوأم؟!

الإجابة تتلخص في أنه هناك عدة عوامل تؤثر في مدى استجابة الجسم لأي دواء، منها: العمر، والكتلة العضلية (BMI)، ونمط الحياة (التدخين، ممارسة الرياضة، وشرب الكحول، وغيرها…)، وتناول أدوية أخرى، وأخيرًا التركيب الجيني. فلكل شخص تركيب جيني منفرد.

وهذه الجينات ليست مسؤولة فقط عن تحديد الصفات الجسدية، مثل لون الشعر، أو العين، أو فصيلة الدم كما كان مُعتقد، ولكن اكتُشف حديثًا أن الجينات يمكن أن تؤثر في الاستجابة العلاجية بشكلٍ أو بآخر. قد يعاني بعض الأشخاص من آثار جانبية وقد لا يشعر آخرون باستجابة علاجية، بالرغم من تعاطيهم نفس الدواء بنفس الجرعة.

 إذن ما المقصود بالصيدلة الجينية؟

الصيدلة الجينية أو الوراثة الدوائية، هي أداة مبتكرة في وصف العلاجات بناءً على التركيب الجيني لكل مريض. وهي تجمع بين كلمتين، الصيدلة (وهي دراسة تختص باستخدامات الأدوية وآثارها)، وعلم الجينوم (وهو دراسة تختص بالجينات ووظائفها). وتساعد الصيدلة الجينية مقدمي الرعاية الطبية في:

  • تكوين صورة واضحة لتفاعل الجينات مع بعض الأدوية، وتوقع ومنع الأضرار الدوائية
  • تسليط الضوء على الأدوية التي يجب تجنبها أو وصفها بجرعات مختلفة
  • ترشيد التكلفة العلاجية، وبالتالي تقليل عدد أيام المكوث في المشفى نتيجة علاجات خاطئة

الفرق بين اختبار الخرائط الجينية والصيدلة الجينية

اختبار الخرائط الجينية:

تُوفر الخرائط الجينية دليلًا قاطعًا في تحديد الجينات المسؤولة عن بعض الأمراض الوراثية، بل وتُعطي أدلة على مكان الجين في الكروموسوم. فعلى سبيل المثال: قد يبحث الاختبار عن الجينات المسؤولة عن خطر الإصابة بالسرطان، مثل جينات (BRCA1-BRCA2)، حيث يرتبط وجودهم بارتفاع خطر الإصابة بسرطان الثدي وسرطان المبيض. وبناءً على نتيجة الاختبار تُتخذ الإجراءات الوقائية للحد من المخاطر، والتي تشمل:

  • إجراء المزيد من فحوصات السرطان بشكل متكرر
  • وصف العلاج الوقائي
  • تغيير نمط الحياة

 اختبار الصيدلة الجينية:

يُعد اختبار الصيدلة الجيني أحد أنواع الفحوصات الجينية، الذي يختص بالبحث عن الاختلافات الجينية الدقيقة التي من شأنها تنشيط أو تعطيل عمل أدوية معينة. وعلم الصيدلة الجينية في تطور مستمر. فمع استمرار البحث عن الاختلافات الجينية التي تؤثر في كيفية عمل الدواء وتطبيق الطب الشخصي؛ سيصبح اختبار الصيدلة الجينية هو الأكثر شيوعًا. 

اختبار الخرائط الجينية:

تُوفر الخرائط الجينية دليلًا قاطعًا في تحديد الجينات المسؤولة عن بعض الأمراض الوراثية، بل وتُعطي أدلة على مكان الجين في الكروموسوم. فعلى سبيل المثال: قد يبحث الاختبار عن الجينات المسؤولة عن خطر الإصابة بالسرطان، مثل جينات (BRCA1-BRCA2)، حيث يرتبط وجودهم بارتفاع خطر الإصابة بسرطان الثدي وسرطان المبيض. وبناءً على نتيجة الاختبار تُتخذ الإجراءات الوقائية للحد من المخاطر، والتي تشمل:

  • إجراء المزيد من فحوصات السرطان بشكل متكرر
  • وصف العلاج الوقائي
  • تغيير نمط الحياة

 اختبار الصيدلة الجينية:

يُعد اختبار الصيدلة الجيني أحد أنواع الفحوصات الجينية، الذي يختص بالبحث عن الاختلافات الجينية الدقيقة التي من شأنها تنشيط أو تعطيل عمل أدوية معينة. وعلم الصيدلة الجينية في تطور مستمر. فمع استمرار البحث عن الاختلافات الجينية التي تؤثر في كيفية عمل الدواء وتطبيق الطب الشخصي؛ سيصبح اختبار الصيدلة الجينية هو الأكثر شيوعًا. 

فائدة علم الصيدلة الجينية

لقد حفزت نتائج البحث في مجال الصيدلة الجينية إدارة الغذاء والدواء (FDA) إلى تطبيق الصيدلة الجينية في مجال الطب الشخصي، وإدراج المعلومات الجينية في عملية تصنيع الدواء. وتتركز أهداف هذه المهمة في:

  1.  التنبؤ بقابلية الإصابة بالمرض، والاستجابة الدوائية
  2.  ربط النتائج المعملية الجينية بالأعراض السريرية، وتسخيرها في تصنيع الدواء.
  3. تحديد أهداف جديدة لأدوية جديدة أكثر فاعليّة وأقل سمية.
  4. تحسين مستوى الرعاية الطبية وتقديم خدمات أكثر دقة، والتي تتمثل في وصف الدواء المناسب للشخص المناسب بالجرعة المناسبة، وفي الوقت المناسب.

كيفية إجراء فحص الصيدلة الجينية

 بعد تشخيص المريض بالإصابة بمرض معين والوصول إلى مرحلة وصف العلاج، ولنفترض العلاج (A)؛ يطلب مقدمو الرعاية الصحية إجراء الفحص الجيني للمريض لاتخاذ قرار وصف الدواء (A) أو اختيار دواء بديل (B) ذو فعالية مناسبة لهذا المريض. يُجرى الفحص الجيني بأخذ مسحة من خدّ المريض، أو عينة دم، أو عينة من لعاب المريض. وتُفحص الجينات المختلفة للحمض النووي (DNA) لعدد من البروتينات أو الإنزيمات المسؤولة عن عملية أيض الدواء، وبناء صورة واضحة عن تفاعل الأدوية مع الجسم.

كيف تؤثر الجينات في تفاعل الأدوية مع الجسم؟

تتفاعل الأدوية مع الجسم بعدة طرق. ويعتمد هذا التفاعل على كيفية تناول الدواء ومكان تأثيره في الجسم. فبعد تناول الدواء يحتاج الجسم إلى تكسيره وإيصاله إلى الخلايا المُستهدفة. ويمكن أن يؤثر الحمض النووي على خطوات متعددة خلال هذه العملية، وبالتالي يؤثر في كيفية الاستجابة للعلاج. ومن أمثلة هذه التأثيرات:

1- مستقبلات الدواء (Drug receptors)

لكي تعمل بشكل صحيح تحتاج بعض الأدوية إلى الارتباط بسطح الخلايا أو المستقبلات. ويلعب الحمض النووي دورًا في تحديد نوع المستقبلات وعددها؛ وبالتالي يؤثر على مدي الاستجابة للعلاج. فقد تختلف جرعة الدواء من شخص لآخر، وربما يحتاج إلى دواء آخر. فعلى سبيل المثال: بعض مرضى سرطان الثدي لديهم خلل في الجين المسؤول عن إنتاج المستقبلات أو البروتينات المسؤولة عن انتشار الخلايا السرطانية. ويُستخدم لعلاج هذا النوع من السرطان عقار يُسمى (1T-DM)، والذي يعمل عن طريق ربط المستقبلات بالخلايا السرطانية ثم قتلها. لذلك يرتبط عمل العقار بوجود هذه المستقبلات. وتحدد نتائج الفحص الجيني لمريض سرطان الثدي عدد هذه المستقبلات، والتي يُحدد الطبيب على أساسها إيجابية عمل العقار من عدمه، وبالتالي وصف دواء مناسب لهذا المريض.

2- امتصاص الدواء (Drug absorption)

تحتاج بعض الأدوية إلى الدخول إلى الخلايا لتؤدي عملها، ويمكن أن يؤثر الحمض النووي في درجة امتصاص الخلايا للدواء، كما يؤثر في سرعة خروج الدواء من الخلايا؛ وبالتالي تتأثر كفاية العلاج. فعلى سبيل المثال: يعاني بعض مرضى الكوليسترول من خلل في الجين المسؤول عن امتصاص علاج خفض الكوليسترول أو المعروف بالستاتين (Statins) في الكبد؛ لذلك تتحدد جرعة الستاتين بناءً على وجود الجين المسؤول عن امتصاصها في الخلايا.

3- استقلاب الدواء (Drug metabolism)

يؤثر الحمض النووي على سرعة استقلاب الجسم للدواء. فسرعة الاستقلاب تؤدي إلى عدم كفاية العلاج، وبُطئه يسبب سُمية أو ظهور أعراض جانبية، بينما متوسط الاستقلاب يؤدي إلى احتمالية الوصول إلى الهدف العلاجي. ومن أشهر أنواع الإنزيمات لهذا النوع من الخلل الجيني إنزيم (6CYB2D)، والذي يُعد من أشهر إنزيمات الكبد، حيث يدخل في تكسير حوالي 25 %من الأدوية؛ فإما ينشطها أو يلغي عملها أو يحولها لصورة نشطة أو سامة. ومن أشهر تأثيراته على بعض الأدوية:

  • الكوديين، والذي يحوله إلى صورته النشطة المعروفة بالمورفين لتسكين الألم
  • التاموكسفين، والذي يحوله إلى صورته النشطة لعلاج السرطان
  • تحفيز نشاط بعض العلاجات، مثل: مضادات الاكتئاب كالأميتريبتيلين (Amitriptyline) بالتعاون مع إنزيم آخر يفرزه الكبد أيضًا

ويوجد حوالي 70 نوعًا من هذا الإنزيم، وتختلف درجة نشاطه من حيث:

  • عدد النسخ الموروثة من الآباء
  • نوع العرق، حيث إن 50 %من الأصل الآسيوي لديهم خلل في أيض بعض العلاجات

ومن الجدير بالذكر أن وجود أي خلل جيني لهذا الإنزيم قد يؤدي إلى تراكم بعض الأدوية بالجسم وحدوث تسمم؛ نتيجة لنقص الإنزيمات المحللة لها. لذلك من المهم معرفة التركيب الجيني للمريض قبل وصف العلاج لتحقيق استجابة علاجية أكثر كفاءة.

تطبيقات الصيدلة الجينية

1- تحديد أهداف جديدة لأدوية أكثر فاعليّة

تحدث بعض الأمراض نتيجة طفرات معينة في الجينات. ويمكن أن تحدث أنواع مختلفة من الطفرات لنفس الجين، ولكن بتأثيرات مختلفة. فبعض الطفرات تؤثر في عدم كفاية عمل البروتين الذي يُنتجه الجين، والبعض الآخر ينتج عنها عدم إنتاج البروتين على الإطلاق. لذلك تُستخدم الصيدلة الجينية في صناعة الأدوية بناءً على كيفية تأثير الطفرة على البروتين. وغالبًا ما تُستخدم هذه الأدوية لنوع معين من الطفرات. فعلى سبيل المثال:

عقار إيفاكافتور (Ivacaftor)

والذي يُستخدم لعلاج نوع معين من مرض التليف الكيسي (Cystic Fibrosis). ويحدث التليف الكيسي نتيجة طفرات في الجين المسؤول عن إنتاج بروتين يسمى (CFTR). يعمل هذا البروتين في الإنسان الطبيعي كقناة تُفتح وتُغلق لنقل الجزيئات عبر الجسم. تتسبب بعض طفرات التليف الكيسي إلى إغلاق القناة. لذلك يعمل عقار إيفاكافتور على هذا النوع من الطفرات عن طريق إجبار القناة على الانفتاح. ولا يكون للعقار تأثير في طفرات التليف الكيسي الخالية من هذه القناة.

2- في علاج أنواع مختلفة من السرطان

•سرطان الدم الليمفاوي الحاد (Acute Lymphoblastic Leukemia)

حوالي %10 من الأطفال المصابين بسرطان الدم الليمفاوي الحاد (ALL)، لديهم خلل جيني في الإنزيم المسمى (TPMT) والمسؤول عن تكسير العلاج الكيماوي لمرضي (ALL). لذلك يتلقى الأطفال المصابون بهذا الخلل الجيني جرعات أقل من العلاج الكيماوي؛ لتجنب حدوث أعراض جانبية حادة واستجابة علاجية أكثر كفاءة.

•الفلورويوراسيل (Fluorouracil) أو (5-FU)

وهو أحد العلاجات الكيميائية التي تستخدم في علاج عدة أنواع من السرطان، مثل سرطان الثدي، والقولون، والمعدة، والبنكرياس. يتلقى الأشخاص المصابون بالخلل الجيني في الإنزيم المسؤول عن تكسير (5-FU) جرعات أقل من المُصرّح بها؛ وذلك لتجنب أي مضاعفات حادة.

3- العلاج الجيني

أسهمت الصيدلة الجينية في رحلة العلاج الجيني واستبدال جين جديد بالجين المُعاب باستخدام تقنية كريسبر (CRISPR-CAS9)، وذلك في علاج العديد من الأمراض الجينية المزمنة، مثل: الزهايمر، والسكري، والسرطان، وأمراض أخرى. وتتلخص تقنية كريسبر في إحداث قَطع في الحمض النووي، واستهداف الجين المسؤول عن المرض بالاستعانة بالإنزيم المسمى (CAS9). ويتم العلاج بأحد الطرق الآتية:

  1. إيقاف عمل الجين المسبب للمرض (Gene Silence).
  2. تحفيز عملية إصلاح الجين (Gene Corrected).
  3. استبدال جين جديد سليم بالجين المعيب (Gene Replacement).

تحديات الصيدلة الجينية

بالرغم من التقدم الجذري في المجالات الطبية بفضل علم الصيدلة الجينية، مثل: الطب الشخصي، والعلاج الجيني، وتصنيع الدواء؛ إلا أنها تواجه بعض التحديات في التطبيق العملي، منها:

  1. التكلفة العالية للاختبار (وخاصةً إذا لم يُغطِ التأمين التكاليف).
  2. حقوق الخصوصية، حيث تمنع بعض القوانين الفيدرالية التمييز طبقًا للمعلومات الجينية.
  3. الاختبار الجيني الدوائي الواحد لا يمكن أن يُستخدم في تحديد مدى الاستجابة العلاجية لجميع الأدوية. فقد يتطلب الأمر إجراء عدة اختبارات جينية متعددة لمعرفة كيفية استقلاب الجسم لبعض الأدوية.
  4. لا يجب الاعتماد كليًا على الفحص الجيني لاختيار العلاج المناسب للمريض؛ ولكن يجب الأخذ في الاعتبار عوامل أخرى مثل:
  • الأدوية الحالية للشخص وكيفية تأثيرها على الأدوية الأخرى
  • الإصابة بأي أمراض أخرى •نمط حياة الشخص كالنظام الغذائي، والرياضة، والتدخين، وشرب الكحول، وغيرها…

نظرة مستقبلية للعلاج الجيني

بالرغم من أن الاختبارات الجينية الدوائية تُستخدم حاليًا لعدد قليل من الأدوية؛ إلا أن تطبيقات هذا المجال تنمو بسرعة كبيرة.
فمتى سيأتي اليوم الذي ستأَخذ فيه تقريرك الجيني من الطبيب بدلًا من تقرير الدم؟ وبعد التشخيص يُترجِم الصيدلي النتائج الجينية، ويُعطيك الدواء المثالي الخاص بجينك.

Share This