الطرق‭ ‬الحديثة

لتشخيص‭ ‬الأمراض‭ ‬الوراثية

أ‭.‬د‭. ‬فوزان‭ ‬الكريع الجينوم‭ ‬الطبي‭ ‬–‭ ‬مستشفى‭ ‬الملك‭ ‬فيصل‭ ‬التخصصي‭ ‬ومركز‭ ‬الأبحاث‭ ‬–‭ ‬السعودية

كانت عيادة كغيرها من عياداتي الأسبوعية في مستشفى الأطفال في بوسطن عندما حاولت مواساة أسرة أمريكية لم تكد تترك عيادة أمراض وراثية في الولايات المتحدة الأمريكية إلا طرقت بابها لعلها تصل إلى تشخيص لمرض طفلتها الصغيرة المصابة بمتلازمة مجهولة.  كنا قد استنفدنا كافة الوسائل التشخيصية المتاحة لنا في ذلك الحين ولم نصل إلى نتيجة وكانت توصيتي لهذه الأسرة مزيجًا من الاعتذار وبث الأمل في أن المستقبل يحمل في جعبته الكثير والكثير جدا لتشخيص الأمراض الوراثية. 

وكيف لا أتفاءل؟ وأنا أعلم أن آخر ما توصل له العلم الحديث في مجال فحص التسلسل الجيني يحدث تحت بصري في مختبر البروفسور جورج تشرتش (George Church) المجاور للمختبر الذي كنت أتدرب فيه مما يبشر بثورة حقيقية في مجال التشخيص الوراثي مرت الأيام سريعًا ولم تمض سنتان منذ أن عدت إلى أرض الوطن إلا وبشائر ذلك المستقبل الذي كنت أرنو إليه تتوالى بنشر أول ورقة علمية تمكن فيها الفريق البحثي من تشخيص متلازمة ميلر بأسلوب ما أصبح يسمى بالجيل الجديد لفحص التسلسل الجيني. 

ببساطة يمكن فهم هذا التحول الكبير بتشبيهه بالفارق بين الخارطة التقليدية للعالم وخارطة جوجل؛ ففي الأولى يمكنك فقط التعرف على القارات والدول وبعض المدن الممثلة بنقاط معدومة الملامح.  أما في الأخيرة فأنت لست قادرًا على تمييز المدن بكل وضوح فحسب، بل وتمييز منزلك تحديدًا وبمنتهى السهولة.  وجه الشبه هنا أن الأسلوب التقليدي في تشخيص الأمراض الوراثية كان يعتمد على خارطة للصبغيات الست والأربعين في الخلية وهي خارطة منخفضة الدقة بشكل كبير حتى إنها لا تغطي الاعتلالات الصبغية الصغيرة نسبيًا فضلًا عن تغطية المورثات ومن ثم فإن البديل الوحيد لمعرفة ما إذا كان المريض يعاني من طفرة في إحدى المورثات هو أن يتمكن الطبيب من الوصول للتشخيص الصحيح سريريًّا ومن ثم يقوم بطلب فحص تسلسل المورثة المسببة لذلك التشخيص، ولك أيها القارئ الكريم أن تتصور المعضلة في مثل هذا الأسلوب؛ فالمريض هنا تحت رحمة الطبيب من حيث إلمامه بالمتلازمات و الأمراض الوراثية عمومًا و هي بالآلاف والغالبية الساحقة منها في غاية الندرة كما أنها متفاوتة جدًّا في أعراضها مما يجعل مهمة الطبيب مهما كان مطلعًا و ماهرًا صعبة للغاية. 

أضف إلى ذلك أن كثيرًا من الأمراض الوراثية غير معروف السبب مما يعني أنه حتى لو تمكن الطبيب من تخمين المرض سريريًا بشكل صحيح فهو غير قادر على التأكد منه؛ لأنه لا توجد مورثة معروفة يستطيع أن يطلب من المختبر فحصها.  هذا كله أصبح من الماضي بعد دخول الجيل الجديد لفحص التسلسل الجيني ميدان الفحوصات المخبرية. 

وإليك أمثلة واقعية على ذلك. الأسرة (أ) يعاني طفلها من متلازمة استعصت على التشخيص السريري؛ لأن أعراضها لا تتوافق مع أي متلازمة معروفة، وبالفعل تمكن فحص التسلسل الجيني للخارطة الوراثية كاملة (فحص الجينوم) من فك طلاسم هذه المتلازمة والكشف عن أنها هجين من ثلاثة أمراض وراثية اجتمعت في هذا الطفل مما أدى إلى تشكيلة غير معهودة من الأعراض كانت عائقًا في الوصول إلى تشخيص محدد.  أما الآن وقد اكتُشفت الطفرات المرضية الثلاث فإن الفريق المعالج يستطيع شرح كل من هذه الأمراض بالتفصيل للأسرة. 

الأسرة (ب) تمثل صورة شبيهة تمامًا من حيث إن إحدى أطفالها تشتكي من أعراض لا تتوافق مع أي من الأمراض الوراثية المعروفة، ولكن فحص الجينوم بيّن أنها في الواقع تعاني من طفرة لمرض معروف، ولكن أعراضها مختلفة عن الصورة الشائعة لهذا المرض وقد مكن هذا الاكتشاف من بدء هذه الطفلة فورًا برنامجًا علاجيًا أدى إلى تحسن مذهل في حالتها السريرية.

الأسرة (ج) مثال ثالث احتار الأطباء في تشخيص حالة أطفالهم المصابين بنوع من التأخر الحركي والإدراكي وإذا بفحص الجينوم يبين وجود طفرة في مورثة لم يسبق أن رُبطَتْ من قبل بأي مرض وراثي مما يعني أن مرض هؤلاء الأطفال قد يمثل مرضًا جديدًا لم يرصد من قبل في الدوريات العلمية وكان هذا بالفعل ما حصل فبقواعد البيانات، التي يشترك باحثو الجينوم حول العالم في استخدامها لمعرفة ما إذا كانت هناك أسر أخرى حول العالم تتشابه مع الأسر التي اكتشفت المورثات الجديدة فيها، حصل التوافق مع أسر أخرى وأُثْبت أن الطفرة المكتشفة هي بالفعل السبب في التأخر الحركي والإدراكي عند الأطفال المصابين في تلك الأسرة مما سيمكنها من عمل الفحص الوراثي عند حصول الحمل في المستقبل للتأكد من خلو الحمل من المرض الوراثي. 

إن ما سبق هو غيض من فيض ما يستطيع فحص الجينوم عمله وهو وإن كان متوافرًا الآن إلا أنه ما زال محدودًا جدًا في استخداماته وتطبيقاته، ولكن في المستقبل القريب جدًا (بل وبدأ هذا في بعض البلدان) سيكون فحص الجينوم متاحًا لجميع الأطباء، بل وسيتمكن الجميع من جعل الجينوم جزءًا من ملفهم الطبي للاستفادة منه بالصورة المثلى سواء من حيث التنبؤ بالأمراض قبل وقوعها أو معرفة الأدوية التي تتناسب مع جسمك أنت سلبًا أو إيجابًا.  مثلًا، أتمت أستراليا مؤخرًا برنامجًا طموحًا لفحص جميع الأزواج قبل الحمل بفحص الجينوم لمعرفة ما إذا كانوا على خطر حدوث أمراض وراثية متنحية ولك أن تتخيل مدى فائدة برنامج كهذا في بلد يعاني من نسبة عالية جدًا من الأمراض الوراثية المتنحية كالمملكة العربية السعودية التي تنتشر فيها هذه الأمراض بسبب شيوع الزواج من الأقارب. أما في بريطانيا فقد بدأت للتو في برنامج طموح لتقويم معامل الخطر للأمراض الشائعة كأمراض القلب عبر حساب معامل الخطر الوراثي في الجينوم.  كما أن هناك برامج طموحة في أكثر من مكان لتمكين الطبيب المعالج من التأكد من فحص الجينوم قبل كتابة أي وصفة طبية في الملف الطبي الإلكتروني للتأكد من فاعلية العلاج وسلامته من الأعراض الجانبية لهذا المريض أو ذاك تحديدًا. 

ولا نغفل في هذا المجال أن نتحدث عن الثورة العلاجية الحاصلة في مجال السرطان التي كان السبب فيها فحص الجينوم حيث تطمح بريطانيا أن تكون أول دولة في العالم يتمكن جميع مرضى السرطان فيها من الحصول على فحص الجينوم لأورامهم لتحديد أي من العلاجات الجديدة «الذكية» تتواءم مع الطفرات التي تحملها هذه الأورام مما يَعِدُ بمستقبل تتغير فيه نظرة المجتمع للسرطان من حكم وفاة مؤكدة إلى مرض مزمن يمكن التعايش معه.

كان القرن الماضي قرن الذرة والحاسوب. أما هذا القرن فهو قرن الجينوم بامتياز.

Share This