الظلال النووية

ظلال‭ ‬الموت‭ ‬محفورة‭ ‬على‭ ‬الأرصفة

د. نهى أشرف – صيدلة – جامعة أسيوط – مصر

في صباح يوم 6 أغسطس 1945 جلس أحد الرجال على رصيف أحد المصارف المحلية بهيروشيما حاملًا في يده اليمنى عصا تساعده على المشي عاقدًا يده اليسرى على صدره. ولكن بعد ثوان معدودة كان رمادًا، تبخر في الهواء كأنه لم يكن تاركًا خلفه ظله المحفور على الدرج المؤدي لبنك سوميتومو (Sumitomo) لأكثر من 20 عامًا. كما امتلأت الطرقات والأرصفة بكثير من الظلال النووية التي لا تُعد ولا تُحصى للعديد من الأشخاص في لحظاتهم الأخيرة قبل الانفجار مباشرةً لتكون ذكريات مروّعة عن رحيل كثير من الضحايا عن عالمنا.

ما الظلال النووية؟

تكوّنت الظلال السوداء للأشخاص، والأشياء، والأبنية على الأرصفة والطرقات والحوائط نتيجة للقنبلة النووية التي ضربت مدينتي هيروشيما وناجازاكي في يومي 6 و9 أغسطس على التوالي في 1945. ينبعث الضوء والحرارة من القنبلة النووية عند الانفجار من نقطة الانهيار لتمتص الأجسام الضوء والطاقة في مسارها، وينير الضوء الخرسانة المحيطة بالجسم ليترك خلفه ظلًا يبقى على حاله حتى اليوم. تشير هذه الظلال إلى آخر لحظة للشخص قبل انفجار القنبلة، وكأنها صور فوتوغرافية دائمة لتذكرنا باليوم المشؤوم، مما يجعل الأمر غامضًا ومخيفًا عند التفكير فيه.

ماذا يحدث لحظة سقوط القنبلة النووية؟

يُعد الانشطار النووي مسؤولًا عن إنتاج الطاقة عند انفجار القنبلة نتيجة لاصطدام النيوترونات بالنواة في الذرات الثقيلة، مثل النظائر ومنها اليورانيوم 235، والبلوتونيوم 239. يختلف النظير في عدد النيوترونات في النواة، حيث تنشطر النواة أثناء الانفجار لتنتج كمًا هائلًا من الطاقة، ومن ثم يرسِل الاصطدام الأولي سلسلة من التفاعلات المستمرة الحادثة في نمط النمو الأسي (exponential growth)، يستمر لمدة مللي ثانية حتى تُستنفذ كل المواد الأصلية. تنقسم هذه التفاعلات إلى تريليون ذرة لفترة زمنية محددة قبل توقف التفاعل، إذ أطلقت القنبلة النووية التي اُستخدمت في عام 1945 أشعة جاما قصيرة المدى. تنبعث الطاقة في صورة موجات فوتونية بأطوال مختلفة تشمل الموجات الطويلة، مثل موجات الراديو، وموجات قصيرة، مثل الأشعة السينية وأشعة جاما. وبين هذا وذاك توجد موجات مرئية تحتوي على الطاقة تراها في صورة ألوان.

ماذا يحدث بعد إلقاء القنبلة وكيف تكونت الظلال النووية؟

تُعد أشعة جاما مدمرة لجسم الإنسان، لسهولة مرورها عبر الجلد والملابس مسببة التأينات، وفقد الإلكترونات الذي يدمر الحمض النووي والأنسجة. كما تنطلق أشعة جاما من القنبلة النووية في صورة طاقة حرارية قد تصل إلى 10.000 فهرنهايت. تتكوّن كرة نارية هائلة عند انفجار القنبلة النووية لتقضي على الأخضر واليابس ويتبخر كل شيء صاعدًا إلى أعلى لتكوّن سحابة عيش الغراب (mushroom cloud) بما يُعرف بالانفجار النووي. تختلط المادة الإشعاعية المنبعثة من القنبلة النووية مع المادة المتبخرة من سحابة عيش الغراب، وعندما تبرد وتتكثف تُكوّن ذرات من الغبار تسقط على الأرض (fallout).

قد تحمل الرياح هذه الذرات مسافاتٍ طويلةً بعيدًا عن مكان الانفجار، مما قد يسبب تلوثًا إشعاعيًا لكل ما تستطيع الوصول إليه، مثل الطعام وموارد المياه. يمتص الجماد أو الإنسان الطاقة المنبعثة من القنبلة النووية عند اصطدام الطاقة بالجسم، مسببًا تبييض المنطقة المحيطة بالظل، بالإضافة لتكوين العديد من الظلال النووية في البداية، ولكنها دُمرت بفعل الحرارة والانفجارات اللاحقة.

قنبلة هيروشيما (Little Boy)

يُعادل الانفجار النووي الذي حدث في هيروشيما ما يقارب من 16.000 طن من ثلاثي نيتروتولوين (TNT)، مما أدى إلى إنتاج كمية هائلة من الحرارة غطت 13 كيلومترًا مربعًا من المدينة. لذلك أُطلق عليها الغلام الصغير (Little Boy)، إذ لقي ربع سكان المدينة حتفهم مباشرةً بعد انفجار القنبلة وتكوين الظلال النووية، وتوفى الربع الآخر نتيجة التسمم الإشعاعي والإصابة بالأورام ليصل عدد الضحايا إلى 80.000 ضحية.

قنبلة ناجازاكي (Fat Man)

وعلى الرغم من كم الظلال النووية التي تكوّنت دليلًا على الخسائر في هيروشيما، لم يضع ذلك حدًا للحرب، بل أطلقت الولايات المتحدة الأمريكية قنبلة نووية أخرى في ناجازاكي بعد ثلاثة أيام من قنبلة هيروشيما. تُعادل قنبلة ناجازاكي في قوتها 21.000 طن من ثلاثي نيتروتولوين، وتُسمى بالرجل السمين (Fat Man) نسبةً إلى قوتها. أعلنت اليابان بعدها الاستسلام في 15 أغسطس ووقّعت إعلانًا رسميًا في 2 سبتمبر 1945 لإنهاء الحرب العالمية الثانية. والجدير بالذكر أن عوامل التعرية أزالت العديد من الظلال النووية، لذلك لم يكن هناك مفر من إزالة ما تبقى من هذه الظلال والاحتفاظ بها في متحف هيروشيما كذكرى لا تُنسى للأجيال القادمة.

كيف عانى الناجون من قنبلة هيروشيما؟

يعتمد تأثير القنبلة النووية في الإنسان على حجم القنبلة ومدى القرب من الانفجار النووي، وفي كل الأحوال تسبب الموت والدمار الشامل وتكوين الظلال النووية. أُصيب العديد منهم بحروق شديدة، كما تسببت في الإصابة بالعمى المؤقت وحروق شديدة بالشبكية نتيجة النظر للانفجار النووي. كما توفي العديد من الضحايا بالتسمم الإشعاعي الذي يُطلق عليه متلازمة الإشعاع الحاد (acute radiation syndrome) الذي تسبب في احمرار الجلد والإصابة بالأورام حسب شدة المرض. وتختلف شدتها حسب كمية الإشعاع التي امتصها الجسم، ونوعه، وكيفية التعرض للانفجار النووي ومدة التعرض للإشعاع. وبجانب تكوين الظلال النووية، يوجد نوعان من التعرض للإشعاع، وهما:

  • تعرض خارجي يحدث خارج الجسم عند التعرض للإشعاع أثناء الانفجار أو ما ينتج عنه، وقد يسبب الوفاة خلال عدة أيام أو شهور عند التعرض لكميات كبيرة من الإشعاع.
  • تعرض داخلي يحدث من خلال تناول طعام أو استنشاق هواء ملوث بالإشعاع، ويزيد من خطر الإصابة بالأورام. لم تكن الظلال النووية تشغل بالًا لليابانيين أكثر مما عانوه من آثار القنبلة النووية، وما تنتجه من حرارة وصلت إلى 7000 فهرنهايت، مما تسبب في حدوث حروق شديدة نتيجة لما تنتجه القنبلة من الأشعة تحت الحمراء.

اشتكى الناجون من ظهور الجدرة (keloids) التي تسببت في نمو الندبات فوق الجروح، وازدياد عدد مرضى سرطان الدم بين الناجين على مدار 6 سنوات ازديادًا ملحوظًا. 

وبعد 10 سنوات ظهرت أورام في عدة مناطق بالجسم، مثل الثدي، والغدة الدرقية، والرئة، كما توفي العديد من الأجنة في رحم أمهاتهم قبل ولادتهم، ومَن حالفه الحظ وُلد مريضًا بصغر الرأس (microcephaly).

تسبّب الإشعاع الحراري المنبعث من القنبلة النووية في تبخر كل ما كان قريبًا من الانفجار، حتى مَن احتمى بالملاجئ تحت الأرض توفي بسبب نقص الأكسجين والتسمم بأول أكسيد الكربون (carbon monoxide poisoning).

وختامًا، ستظل تلك الظلال النووية دليلًا على الكارثة الإنسانية التي حدثت في هيروشيما وناجازاكي لتُذكّر العالم كل يوم بمدى خطورة الأسلحة النووية وما تسببه من دمار شامل. 

Share This