القصص الشفاهيّة سجلات

للكوارث الجيولوجيّة

باتريك نون-جغرافيا-جامعة صن شاين كوست – مجلة كوزموس – العدد 81 ترجمة: ديمة أبو ظهر 

قد تعتقد أنه إذا لم نتمكن – نحن البشر – من القراءة أو الكتابة، فسنواجه صعوبةً في تذكُّر كيفية القيام بالأشياء. أنت محق بلا شك، ولا سيما عندما يتعلق الأمر بمهمات معقدة، مثل بناء مصادم هادرون كبير أو حتى تنظيم بطولة رياضية، لكن ربما لا ينبغي لنا التسرُّع إلى مثل هذا الحكم. تُظهِر الأبحاث بشكل متزايد أن المجتمعات الأمية، التي لم تقرأ أو تكتب، كانت قادرة على تجميع مجموعات هائلة من المعرفة، ونقلها في شكل مفهوم لآلاف السنين.

عندما واجه شعب كلاماث في ولاية أوريغون في الولايات المتحدة الأوربيين لأول مرة، سجلوا قصصاً عن الانفجار النهائي للبركان الضخم – الذي أطلق عليه علماء الجيولوجيا فيما بعد اسم جبل مازما (MT Mazma)، الذي كان يوماً ما يقبع فوق المناظر الطبيعية، حيث تقع بحيرة كريتر الشهيرة الآن.

\

رجل من كلاماث في بحيرة كريتر بولاية أوريغون، نُشر في المجلد الثالث عشر من كتاب (1924 The North American Indian)  لمؤلفه إدوارد إس كيرتس. المصدر: Edward S. Curtis / Library of Congress / VCG via Getty

وصفت القصص أصوات وطبيعة هذا الانفجار المذهل، ولم تترك لنا أدنى شك في أن شعب كلاماث قد شهده. وحتى وقت قريب نسبيًّا، كان المجتمع ينقل هذه المعرفة شفهيًّا فقط. من المعروف الآن أن جبل مازما قد اختفى من المناظر الطبيعية في ولاية أوريغون منذ حوالي 7600 عام، وهذا ما يجعلنا نتساءل كيف يمكن أن تستمر مثل هذه القصص مدةً طويلة للغاية.

هذا ليس مثالاً معزولاً، من جميع أنحاء سواحل أستراليا، نجد أن 22 مجموعة من قصص السكان الأصليين تذكرنا بالوقت الذي كان فيه سطح المحيط أخفض بكثير، وكانت الشواطئ ممتدة أكثر إلى البحر (أحيانًا بمئات الكيلومترات)، والأماكن التي هي اليوم جزر بعيدة عن الشاطئ كانت منضمة إلى البر الرئيس.

يمكن أن تكون معظم هذه القصص مجرد ذكريات عن ذلك الوقت، بعد نهاية العصر الجليدي الأخير، عندما كان مستوى سطح البحر في جميع أنحاء الكوكب يرتفع نتيجة ذوبان جليد اليابسة. في جميع أنحاء أستراليا، انتهت هذه العملية منذ حوالي 7000 عام، وهذا ما يعني أن القصص يجب أن تكون قد بقيت لهذه المدة الطويلة على الأقل، ونُقلت شفهيًّا عبر حوالي 300 إلى 400 جيل لتصل إلينا اليوم بشكل لا يسمح إلا بالقليل من عدم اليقين بشأن ما تتذكره.

يثير وجود مثل هذه القصص القديمة كثيرًا من الأسئلة؛ لماذا اعتبر الناس الذين نقلوها أنه من المهم جدًّا الحفاظ عليها؟ كيف وصلت إلينا هذه الذكريات بشكل واضح عبر هذا الامتداد الكبير من الزمن؟ وهل وجود مثل هذه القصص يوحي باحتمال وجود قصص أخرى مماثلة في العصور القديمة؟ دعونا نجيب على كلِّ سؤالٍ منها على حدة.

مسألة سبب حفظ القصص هو الأسهل، في حالة الحكايات القديمة عن الثوران البركاني، كان الأمر كله يتعلق بالحد من تعرض الأجيال القادمة للمخاطر.

الأمر ذاته اليوم، حيث تستخدم معظم البلدان سابقةً لفهم طبيعة المخاطر الطبيعية التي يتعرضون لها، وسن خطط استباقية وتفاعلية، لتقليل تعرض سكانها لها. لذلك، في الماضي، ربطت مجموعات مثل كلاماث تجاربهم مع آلام الموت من مازما بالأجيال اللاحقة حتى يتمكنوا من تجنُّب هذا المكان لأنه، مهما بدا هادئًا، فهو معروف بأنه خطير.

لكن ماذا عن القصص التي تحكي عن الوقت الذي كان فيه مستوى سطح البحر أكثر انخفاضًا؟ في مجتمعات السكان الأصليين الأستراليين، كما في أيِّ مكان آخر، منح التاريخ الناس إحساسًا بالهوية. وبالنسبة إلى الأشخاص الذين يعيشون على اليابسة، فإن معرفة كيفية تغيُّر حدودها وإمكانياتها كانت مهمة للبقاء، وخصوصًا في البيئات القاسية، مثل تلك الموجودة في أستراليا الجافة.

هذا ليس فريدًا. يبدو أن شعب سان في جنوب أفريقيا يعرف قصصًا استمرت عدة آلاف من السنين. بالنسبة إلى الكثيرين، فإن السؤال الأكثر إثارة للقلق هو كيف تمكن هؤلاء الأشخاص من سرد كثير من تلك القصص بتفاصيل كبيرة ودقيقة على مدى فترات طويلة من الزمن. إنه أمر مثير للقلق؛ لأنه بالنسبة إلى كثيرين منا اليوم، فإن الذكريات والفهم الذي تجلبه إلينا يعتمدان كليًّا تقريبَا على الكتابة.

فكِّر في أرقام الهواتف، إذا لم يكن لدينا دليل هواتف أو قوائم جهات اتصال تُنتَج تلقائيًّا، فكم عدد الأرقام التي يمكننا تخزينها في رؤوسنا؟ قد تقول ليس الكثير، بابتسامة ساخرة. لكن فكِّر كيف يمكن أن يكون الوضع مختلفًا إذا لم يكن لديك خيار بديل.

إذا كنت في حاجة ماسة لذلك، فقد تتمكن من تخزين دليل هاتف صغير في رأسك. ومن ثَمَّ، لا ينبغي أن نتسرع في الحكم على قدرات المجتمعات الأمية من قبل مجتمعاتنا.

من الواضح أن الناس في مثل هذه المجتمعات شعروا بالحاجة إلى تجميع كتل من المعارف المحدِّدة، في مجالات كالتاريخ والجغرافيا، إضافة إلى المزيد من المعلومات العملية التي كانت تعدُّ مفتاحًا للبقاء.

ومن المحتمل أن يكون نقل هذه المعرفة قد تحوَّل إلى طقوس. حيث يتم تخصيص أوقات خاصة من اليوم لذلك، تمامًا مثل رواة القصص التقليديين في الآونة الأخيرة، مثل حكواتي بريتاني في فرنسا، الذي تستضيفه المجتمعات الريفية المتحلقة حول نيران الصيف، والمتلهفة لسماع قصصه المستمدة من ثقافتهم.

ولكن الأمر يتعدى مجرد الكلمات، فقد نُقِلَت القصص القديمة أيضًا من خلال التمثيل، ومن خلال الرقص والغناء، تكملها مذكرات أخرى مثل الفن الصخري. حتى إنه يبدو من المعقول أن الفن والأداء والسرد الخيالي اليوم كلها لها جذورها في الاهتمامات البراغماتية لأسلافنا حول بقاء سلالاتهم.

وأخيرًا، وبالنظر إلى أنَّ العلم يمكن أن يثبت – بقدر ما هو ممكن – أن ذكريات الإنسان لأحداث معينة في مجتمعات معينة قد استمرت لأكثر من 7000 عام، وربما حتى أكثر من 10.000 عام في حالة بعض القصص “الحالمة” الأسترالية، هل من الممكن أن تكون هناك قصص أخرى عن العصور القديمة العظيمة المماثلة مخفية في المحفوظات المكتوبة أو الشفوية في كثير من ثقافات العالم الأخرى الموجودة منذ زمن طويل؟ يبدو ذلك مرجَّحًا.

إذن قد تسأل لماذا لا نعرف عنهم؟ لعلَّ السبب الرئيس هو أن الباحثين كانوا يميلون تقليديًّا إلى استبعاد احتمال وجود قصص من العصور القديمة العظيمة، على الأقل بسبب ما كان يُعدُّ ذات يوم اللامعقولية الكامنة في أن يكون مثل هذا الشيء ممكنًا.

سيكون معظم علماء الأنثروبولوجيا متشككين إذا اقترحت أنَّ تقليدًا شفهيًّا معينًا قد يستمر لأكثر من 1000 عام. لكن الأشياء تتغير عندما يجعل العلم من الممكن تحديد عمر حدث معين بدقة تم تذكره في التقليد الشفوي. من الصعب إنكار أن شعب كلاماث قد أبقى ذكراه عن جبل مازما حية لمدة تقل عن 7600 عام، وهو العمر الدقيق الذي حسبه الجيولوجيون لثورانه النهائي الذي دمَّره ذاتيًّا.

ومع ذلك، فإن معظمنا يعاني من حالة لا ندركها – وهو ما يمكن أن يسمَّى “غطرسة التعلّم”، أكثر من مجرد شك غير عادي حول إمكانية استمرار التقاليد الشفهية. إنها الفكرة لأننا متعلمون اليوم، ولأننا نعتمد كثيرًا على القراءة والكتابة لاكتساب المعلومات وتوصيلها، ولا يمكننا أن نتصور بسهولة أهمية الشفوية في المجتمعات الأمية أو صلتها المحتملة بمجتمعاتنا.

ومع ذلك، لأكثر من 99% من المئة ألف عام أو نحوها التي استخدم فيها البشر المعاصرون اللغة، رُمِّزت المعلومات ومُرِّرت شفهيًّا فقط. ولعل جزءًا صغيرًا من هذا فقط تم تدوينه.

لذلك ربما حان الوقت للنظر فيما إذا كان بإمكاننا استعادة المزيد من هذه المعرفة من مصادر أميَّة. هل هناك سجلات مكتوبة لهذه المعرفة قمنا بصرف النظر عنها، ربما لأنها كانت مغلَّفة بلغة الأسطورة، لكن من يقدِّم ذكريات موثوقة للأحداث التي وقعت منذ آلاف السنين؟

أنا متأكد من وجودها وربما نحن مدينون لأنفسنا، كأعضاء ننتمي للنوع نفسه، باستعادة هذه القصص القديمة وفهمها قبل أن تضيع إلى الأبد.

Share This