المستقبلية‭ ‬وصدمة‭ ‬كورونا

د‭.‬نزار‭ ‬خليل‭ ‬العاني‭ ‬‭-‬أستاذ‭ ‬جامعي‭ ‬سابق – 21 يونيو 2021م

(في القرون السابقة للتاريخ الميلادي..كان الشعب الصيني قطاعات يحكمها ملوك وأمراء في خصومة مزمنة.. وتعرف تلك الفترة – نحو 500 قبل الميلاد – بفترة الدويلات المتحاربة. وكانت مواسم الحروب بينهم صيفًا وشتاءً – والهدنة في الربيع والخريف لفلاحة الأرض وبناء عتاد الحرب)(١).

إذن في البدء كانت الحرب، وبعدها فلاحة الأرض لتوفير الطعام، ويا لها من بداية مخزية. وقد تناول الفلاسفة وعلماء النفس، عبر العصور، إشكالية العنف وميل الإنسان إلى الحرب، ولم تفض كل هذه الدراسات إلى كبح نزعات الحرب، ويشهد التاريخ المعاصر بذلك بعد تفجُّر الحربين العالميتين.

وتغصُّ مدوناتهم في اليونان بمستلزمات القتل والذبح وأجوائها وأدواتها، إذ إنهم تركوا لنا حكايات الحروب بين أسبرطة وطروادة. ففي مقطع صغير من الإلياذة نقرأ: (القتال، سلاح، الدرع، السيف، الترس، الخوذة، رمح، ساحة الوغى) الصورة.

أما الأوبئة، فكوارثها لا تعد ولا تحصى؛ وقد أعددتُ دراستين حولها في مجلة «التقدم العلمي» الكويتية(2)، لمن رغب بالتوسع، قبل أن أمضي إلى موضوع «المستقبلية»، وأعرج على موضوع «العلم الزائف» وصدمة الكورونا.

المستقبلية

تمرّ البشرية في الحاضر، وتعاني من وباء فيروس كورونا، والأوبئة قديمة قدم التاريخ، وهي جزء لا يتجزَّأ من تاريخ الحياة نفسها، وماضي الملاحم والأساطير ممتلئ بالإشارات إلى الأوبئة.

نقرأ في الإلياذة: «حقًّا لأن نعود على أعقابنا، خير لنا من أن نهلك هنا بالحرب والوباء) ص 29، «تضرَّع الكاهن قائلًا: ربّ، استجب لي الآن، وأزل عنهم – الإغريق – ما لحق بهم من وباء) ص38، (وأنزلت أرطميس بهم الوباء) ص 138 (3).

ونقرأ في الأوذيسة: «لكن خبريني كيف كان موتك؟ هل قضى عليك مرض وبيل، أم هل رمتك أرطميس بسهمها بشكل مفاجئ؟» ص 134 (4) . 

وهكذا في الملاحم الكبرى كلها، الحرب والأوبئة صنوان.

فلماذا فاجأتنا كورونا؟ الجواب، باعتقادي، يكمن في أنَّ البشرية لم تضع «علم المستقبل» بين يديها وعينيها.

كان الفلاسفة يزعمون أن الفلسفة هي أم العلوم، والمفكرون المعاصرون يزعمون أنَّ «المستقبلية» هي علم العلوم، كما عنونت مجلة «الفكر العربي» أحد أعدادها بعنوان «المستقبلية علم العلوم» (5) .

كما أنَّ مجلة «عالم الفكر»، هي الأخرى، خصّصت أحد أعدادها لهذا الموضوع، وبعنوان « الدراسات المستقبلية»(6). وخلاصة «المستقبلية»، بإيجاز شديد، استنفار جهود العلماء البارزين، والمفكرين والباحثين العباقرة الكبار، وجمع شملهم في هيئات متخصصة، مدعومة بترسانة من المعارف المتنوعة والشاملة، لتكون منطلقًا لرسم إستراتيجيات بعيدة المدى، هدفها الحفاظ على النوع البشري في كوكب الأرض.

وتعمل «المستقبلية» على رسم النماذج والتنبؤ لاستشراف المقبل من قضايا وبنى وعمليات، في ميادين الحياة كافة، من اقتصاد ومناخ وطب وهندسة وزراعة وسكان وطاقة وتلوث، وفق الأسس والمعايير التي اقترحها مشروع «باريلوتشي» الطامح إلى صوغ نموذج رياضي للمستقبل يصون مصير البشرية(7).

وهناك جمعيات كثيرة تهتم بهذا الشأن، لعلَّ أعظمها، وفقًا لما كتب د. محمود زايد، «الجمعية العالمية لدراسة المستقبل» في الولايات المتّحدة الأمريكية، وهي «مؤسسة علمية تربوية.. جرى تأسيسها عام 1966م؛ لتكون مركزًا يجمع المعلومات التي قد تؤثر في المستقبل المنظور، وينسقها ويوزعها.. وفي أوائل عام 1977م، كان عدد الأعضاء المنتسبين إلى هذه الجمعية 24000 عضو، ينتمون إلى ثمانين قطرًا من العالم»(8).

ومن النماذج المعتبرة «لعلم العلوم» هذا، الدراسة التي «قام بها معهد ماساشوستس للتكنولوجيا بناءً على طلب «نادي روما» في أوائل السبعينيات» (9) حول مستقبل الطاقة في العالم العربي، وأحدثت ضجة كبيرة آنذاك، وأثرت بعمق في السياسات والصناعة والعلوم والتنمية.

\

مؤتمر‭ ‬أزيلومار

\

رناتو دولبكو

ثوابت العلم وجحود الإنسان

كل هذه التداعيات وُلدت في فكري، وأنا أتأمل الصدمة الهائلة التي أحدثها وباء كوفيد- 19، والعلم الزائف الذي ولد وترعرع في أحضانها، وأسهمت منصات التواصل الاجتماعي المفتوحة في ترسيخه وانتشاره.

ونقصد بالعلم الزائف مجموعة المفاهيم التي يتداولها الناس كما يتداولون الشائعة، دون سند أو حجة، ولا تدعمها جامعة أو مؤسسة أو هيئة علمية، ولم يتداولها متخصصون وخبراء علميون، وترتكز قناعاتهم على مرجعيات علمية يقينية وثوابت تجريبية وتطبيقية.

وتكمن الفضيحة العلمية التي استدرجها الوباء في أنَّ علم المستقبل وقراءاته وُضعت على الرف، واستبدل بها العوام علم التنجيم ومعطيات الحدس والغرائز والكذب والافتراء. وكي لا أستطرد، هناك من اقترح مداواة الوباء بالكوسا والملفوف، ومن قال إنه لا يوجد فيروس أصلاً، بل إنَّ ما يحدث هو نتيجة لفعل تقنية الإنترنت 5G الجديدة، وجاهر بعضهم بأنَّ الله أراد لنا ذلك، وعلينا أن نقبل ونستعين بالدعاء، إلخ، وكل هذا من مفردات العلم الزائف.

لقد تحدثت الخبرة الطبية المتراكمة عبر آلاف السنين، ومناهج علم المستقبل، وأفاضت منذ عقود على مخاطر الهندسة الجينية، والعبث بجينات الفيروسات، وإدخالها خلايانا البشرية بقصد مداواة الأمراض المستعصية.

وهنا نقف باحترام أمام النقاشات التي دارت في مؤتمر أزيلومار (Asilomar Conference)  الشهير الذي عقد في شهر فبراير 1975م بحضور 140 متخصصًا في علم الوراثة والجينات، إذ «تفاهم علماء الحيويات الجزيئية فيما بينهم، ليعبروا عن مخاوفهم تجاه الأخطار المحتملة لبعض العمليات الجينية، ونظموا بالنسبة إلى التجارب المستقبلية، قائمةً بالاحتياطات التي يجب اتخاذها»(10)، ولم تُحترم هذه التوصيات قط؛ لأنَّ من طبائع العلماء المغامرة للبحث عن اكتشافات رائدة.

وبموازاة العلم الزائف، انقسم أصحاب اليقين العلمي إلى فرقاء حيال كورونا، كأنَّ التاريخ العلمي يكرر نفسه؛ كروية الأرض وثباتها أو دورانها وحكاية غاليلو غاليلي، انقسم الرأي حولها، الدورة الدموية، وثقب الأوزون، والأحياء الدقيقة ونظرية التوالد الذاتي التي دحضها لويس باستور.

كانت هناك عشرات الانقسامات إزاء كوفيد- 19 بين العلماء والهيئات العلمية والدول، وتدخلت السياسات والاقتصاد والتنافس المريض في خلق فوضى علمية وأخلاقية لا مثيل لها في التاريخ، وحتى داخل أروقة منظمة الصحة العالمية (WHO) انقسم الرأي، وتعرضت أهم هيئة صحية على سطح الكوكب للتسفيه، وحجب الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب حصة أمريكا من تمويلها لاعتبارات شخصية، وانفلت الحبل على الغارب في الصغيرة والكبيرة، الديمقراطيون مع الكِمَامة والجمهوريون ضدها، وهو أمر مضحك في عزاء واسع، والموتى والمصابون بلا عدٍّ ولا حصر.

اختلافات حول كل شيء، من الكمامة إلى بروتوكولات المداواة المقترحة، إلى وسائل دعم الجهاز المناعي، إلى التشكيك بجدوى اللقاحات، والاختلاف الأهم هو التقنية المستخدمة لتحضير اللقاح، أهي القديمة التي ابتكرها إدوارد جينر (17491823م) للقاح الجدري عَبْرَ استخدام فيروس ضعيف ومنهك، أو الطريقة الثورية الحديثة عَبْرَ استخدام شدف الرنا المرسال (RNAm)لفيروس كورونا التي ابتكرتها «فايزر/بيونتيك»، والحبل في الانقسام والخلافات على الجرار، وآخرها، هل اللقاحات المصممة لفيروس كوفيد- 19، صالحة للاستخدام ضد السلالات الطافرة لهذا الفيروس، في إنجلترا وجنوب أفريقيا والبرازيل وأمريكا وغيرها من البلدان؟

خاتمة

علم المستقبل ومناهجه وأساليبه تقف حائرةً اليوم، ويخذلها التوقع. وليس هناك على صعيد العلم أي مسألة محسومة. ومواجهة وباء كوفيد- 19 تجري دون تريث وعمق بحثي كما هو معهود، والمواجهة بما فيها من خلل وتقصير، صارت مقبولة تحت غطاء بند (الطوارئ).

واعتماد هذا البند الطارئ من منظمة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA) لتسويق لقاح فايزر/ بيونتيك يعدُّ تنازلًا وتراخيًا عن الصرامة والتشدد المعهودين لديها، وأذكر أنَّ شركة أسترا السويدية، المساهمة في لقاح مجموعة أسترا زينيكا مع جامعة أكسفورد، سبق لها أن طلبت إدخال أحد أدويتها العادية إلى السوق الأمريكية، فطلبت منها الـ (FDA) كثيرًا من الوثائق والبيانات التي بلغ وزنها آنذاك ثمانية أطنان، وتخلّت منظمة الغذاء والدواء اليوم عن تلك الصرامة حين قبلت تحت بند (طارئ) لقاحًا جرى إعداده خلال عام واحد!

«في أبريل 1968م اقترح الأستاذ رناتو دولبكو (Renato Dulbecco) الحائز على جائزة نوبل أن يستنفر الباحثون في الحيويات الجزيئية، عبر بلدان العالم، الراغبون في التعاون في مسعى مشترك لتحقيق مهمة عملاقة، لتحويل البحث الحيوي الحالي إلى علم حياة عملاق (11) (Megabiologie).

كان المشروع يحتاج إلى تمويل مالي مماثل لما خُصِّص لغزو الفضاء (نحو ثلاثة مليارات دولار آنذاك، وجهود ثلاثة آلاف باحث متخصص خلال عشر سنوات)، وللأسف لم يتحقق ذلك المشروع الرائد لإعادة تشكيل منظومة البناء الحيوي الجزيئي بديلًا عن مشروع غزو الفضاء أو بالتوازي معه، لإنقاذ الأحياء على الأرض، وصون وجودهم المهدد بالأوبئة المتوقعة والأمراض المستعصية.

وقد فشل الإحيائيون في تحقيق الميجابيولوجي، وفاز دعاة غزو الفضاء، وها نحن في ورطة لا نعرف سبيل الخروج منها.

نظرتي مشوبة بالتشاؤم قليلًا، ومعي بهذا التشاؤم عدد غير قليل من الأدباء والمفكرين والمثقفين العرب، وقد رصد شهاداتهم كتاب الدكتور طالب الرفاعي (لون الغد: رؤية المثقف العربي لـ «ما بعد كورونا»)، الذي كان لي شرف مراجعته وتدقيقه.

أرجو، ومعي كل المتشائمين في هذا العالم، أن يبوء تشاؤمنا بالخذلان، وبمعونة الله عز وجل، تنتصر البشرية، وينتصر العلم على الكوارث والأوبئة.

Q

المراجع

١- فن الحرب، صون تزو، إعداد د. عمر حليق، مؤسسة الحياة للتأليف والنشر، 1969م، ص:9.

٢-٠الأوبئة العالمية.. مقدمات فلسفية وفكرية، متاح عبر الرابط: https://cutt.us/sPrTs

٣-هوميروس، الإلياذة، ترجمة عنبرة الخالدي، تقديم طه حسين، دار العلم للملايين، ط: 6، 1985م.

٤-٠هوميروس، الأوذيسة، كالسابق، 1983م.

٥-٠مجلة «الفكر العربي»، السنة الأولى، العدد 10، مارس/ أبريل 1979م.

٦- مجلة «عالم الفكر»، المجلد 18، العدد 4، فبراير/ مارس 1988م.

٧- المرجع السابق، الصفحات من 39 إلى 50.

٨- المرجع 6، ص34.

٩- المرجع السابق، ص41.

١٠- فرناند سِغن، العلم والحياة، ترجمة: ميشيل خوري، منشورات وزارة الثقافة السورية، 1998م، ص91.

١١- المرجع السابق، ص93.

Share This