بقلم: جوزيف ي. يوسنسكي، ترجمة: ديمة أبوظهر
التفكير الواعي
في نظريات المؤامرة في أوقات الشدّة
إن نظريّة المؤامرة، هي إدراكٌ ظنّيٌّ اتهاميٌّ تتصرف فيه مجموعة صغيرة من أصحاب النفوذ بطريقة سريّة تخدم مصالحها على حساب المنفعة العامة، وبأساليب تضعضع قوانينا الراسخة ضدّ الاستخدام السائد للقوة والاحتيال. أضف إلى ذلك، أن الخبراء المختصّين لم يثبتوا صحة هذه النظريّة باستخدام البيانات والأدلة المتوفِّرة لدى أي شخص لدحضها.
ثمة كثير من نظريّات المؤامرة المتعلقة بفيروس كورونا المستجد. في الواقع، هناك أكثر مما يمكن كشف زيفه. فقد رأينا سيلًا منها، سواء أكانت نظريّات عن بيل غيتس، أو جورج سوروس، وكونهما وراء الفيروس التاجي، أو أن تقنيّة الجيل الخامس (5G) هي التي تنشر هذا الفيروس.
وقد استجاب بعض الناس لهذه النظريّات بحرق وتدمير أبراج الهاتف الخليوي. بينما اعتقد بعضهم الآخر أنه عند إصدار اللقاح سيتم زرع رقاقة في أجسامنا تُمكِّن الحكومة من مراقبتنا. وبعضنا يظن أن شركات الأدوية العملاقة Big Pharma، هي الفاعل وراء خدعة الفيروس، وأنها ستجني الأرباح ببيعنا لقاحًا زائفًا ضد فيروس زائف. بينما يقول آخرون: إن الأطباء والمستشفيات يختلقون المرضى لجني المال.
إذن، هناك كثير من النظريّات الغريبة. ولكنْ، من حسن الحظ، ما من واحدة منها يسود تصديقها على نطاق واسع.
تقع معظم نظريات المؤامرة المتعلقة بفيروس كورونا ضمن فئتين رئيستين: الأولى، هي أنه جرى تضخيم المرض بهدف مكاسب سياسيّة، غالبًا لإلحاق الأذى بالرئيس دونالد ترمب في سنة الانتخابات. فعندما أجرينا استطلاعًا عن فكرة تضخيم الفيروس المستجد بهدف إيذاء ترمب، وافق نحو 29% من الأمريكيين، بينما حصلنا على نسبة مماثلة، 31% توافق على فكرة أن المرض هو سلاح بيولوجي.
معظم الأفكار الأخرى لا تُقنع كثيرين، إلا أن كلتا الفكرتين يقتنع بهما نحو ثلث الأمريكيين. كيف ذلك؟ ولماذا يصدق الناس نظريّات المؤامرة؟ والسؤال الأعم، هو: لماذا يصدّق الناس أي شيء؟ والإجابة عن هذا السؤال، هي: في الواقع، هناك كثير من الأسباب. ولكن من المهم إدراك أنه ما من سبب وحيد يجعل الناس يؤمنون بنظريات المؤامرة، لأن هناك كثيرًا منها، ولكل أسباب خاصة تجعل الناس يصدقونها.
إذن، فنظريّة المؤامرة وعاء واسع، وثمة كثير من الأسباب التي من الممكن أن تجعل أحدهم يصدّق نظريّة معينة. لقد أجريت استطلاعًا عن أفكار أخرى لها علاقة بفيروس كورونا. وتبيّن أن نظريّات المؤامرة ليست وحدها الخطيرة.
على سبيل المثال، في آخر استطلاع تم إجراؤه على الأمريكيين، وجدنا أن نحو 15% يؤمنون بأن من صلته بالله قوية لن يصاب بفيروس كورونا، وأن نحو %30 يؤمنون بأن الصلاة ستحميهم من كوفيد- 19. يمكن أن تكون هذه الأفكار خطيرة بقدر خطورة الاعتقاد بأن المرض مبالغ فيه.


التفكير التآمري والنكران
إذن، لماذا يصدق الناس نظريّات المؤامرة؟ إن العوامل التعليلية الرئيسة، في بحثي، هي الميول الدفينة الكامنة في الناس. والعاملان اللذان أركز فيهما، هما التفكير التآمري والنكران.
التفكير التآمري موجود باستمرار، وهو موجود لدينا جميعًا بدرجات متفاوتة. فهو موجود لدى بعضنا بشكل قوي، وعند بعضنا الآخر بشكل أقلّ بكثير. ولكنه عند معظم الناس موجود بدرجة متوسطة.
يميل الناس الذين يمتلكون مستوىً عاليًا من التفكير التآمري إلى الاعتقاد بأن كل شيء هو نتاج مؤامرة غامضة. أما الأشخاص في الطرف الآخر من النقيض فيميلون إلى مقاومة نظريّات المؤامرة.
يعمل النكران كذلك بالطريقة نفسها. لدى بعض الأشخاص علاقة معاديّة لمصادر المعلومات الموثوقة. فعندما يسمعون شيئًا ما في الأخبار، من علماء، أو من وكالات حكوميّة، يقولون: حسنًا، لن أصدق ذلك. وجميعنا لدينا هذا الميل إلى درجة معينة فنقاوم المعلومات التي لا نريد تصديقها. ولكن من يملك هذه النزعة بدرجات عاليّة لا يصدق الأشياء فحسب، سواء أكانت من الأخبار، أم العلماء الحكوميّين، أم من أي مصادر موثوقة أخرى.
عامل السياسة
العامل الآخر الذي يوجّه معتقدات المؤامرة، هو مجموعة علاقاتنا. ومجموعة العلاقات التي أهتمّ بها أكثر من غيرها، هي علاقاتنا الحزبيّة السياسيّة. سواء أكنا جمهوريين، أم ديمقراطيين، أم غير ذلك. نحن نفكر بطريقة موجهة؛ فنصدق المعلومات الصادرة من مجموعات نثق بها، وعندما تفوز مجموعتنا، نقول: هذا ما يجب أن يكون؛ لأن مجموعتنا نزيهة وعادلة. ولكنْ، عندما تخسر مجموعتنا، نقول أحيانًا: إنه تم خداعنا، وإن الطرف الآخر اشترك بممارسات غير شرعيّة، ولهذا السبب خسرنا.
علاوة على ذلك، نحن نأخذ توجيهاتنا من القادة الذين نثق بهم. فإن كنت تتبع رئيسًا ينخرط في نظريّات المؤامرة، فمن الراجح أن تؤمن بهذه المؤامرات. والعامل التالي هو المعلومات. فإذا أخبرتنا مصادر نثق بها معلومات تفيد بأن هناك مؤامرةً جاريةً، فمن المرجح أن نصدق ذلك. والعامل الأخير، هو أننا نستطيع أن نتخيّل نظريّات مؤامرة خاصة بنا، ونختلقها بأنفسنا، ولا نحتاج إلى أن يشاركنا بها أحد آخر. فإن كان لدينا مستوىً عالٍ من التفكير التآمري، فليس من الصعب علينا أن نتخيّل أن كل شيء نواجهه في يومنا هو جزء من مؤامرة ما.
هذه هي الأسباب العامة، إذًا. ويمكن وضعها ضمن نموذج مفاهيمي بسيط جدًا، هو: عندما تتلقى أدمغتنا المعلومات خلال النهار، تتراكم هذه المعلومات فوق مجموعة من الميول التي نمتلكها. وتُفسَّر هذه المعلومات بحسب هذه الميول، وهذا ما يشكّل اعتقادنا الخاص تجاه العالم من حولنا.
يفسر الشخص الذي يمتلك مستويات عالية من التفكير التآمري المعلومات ذاتها بشكل مختلف جدًّا عن الشخص الذي يمتلك مستويات أقلّ. ويمكن أن تقود معلومةٌ واحدة شخصين إلى استنتاجات مختلفة تمامًا تجاه العالم. ولهذا السبب فإن ميولنا هي ما يفرقنا. وتعمل هذه الميول داخل كلٍّ منا ولكن بدرجات متفاوتة. وأنا أعتقد أن معظم الجمهور هنا يمتلك مستوى منخفضًا من التفكير التآمري. ولكن بالنسبة إلى الجمهور العام، فتعد هذه قوة جبارة.
بالمجمل، يؤمن الناس بهذه الأشياء لأسباب كثيرة؛ ذلك لأن تفكيرنا الموجه، هو أحد العوامل المؤثرة، وكذلك التفكير التآمري. ويقودنا هذان العاملان إلى: إما الاشتراك في نظريّات المؤامرة، أو لا، ثم الاشتراك في نظريّات مؤامرة معينة أخرى.


لماذا يجب أن نهتمّ إن كان الآخرون يؤمنون بهذه النظريات؟
إذا كانت معتقداتنا منفصلة عن واقعنا المشترك، تصبح هذه المعتقدات ضررًا محتملًا. فإذا كنت تعتقد أن الفيروس التاجي هو مجرد خدعة، عندها لن تشارك بأفضل الممارسات، مثل غسل اليدين بانتظام، وارتداء الكمامة، أو الالتزام بالتباعد الاجتماعي؛ وسوف تخاطر بانتشار الفيروس أكثر، فعندما يبدأ الناس بالإيمان بكثير من نظريّات المؤامرة، قد يجعلهم ذلك يفقدون الثقة بمؤسساتنا وعلمائنا، ما يمكن أن يقودهم إلى تصديق المزيد من نظريات المؤامرة وفصل أنفسهم عن واقعنا المشترك. لذلك، هناك أسباب حقيقية تجعلنا في حاجة إلى مقاومة هذه المعتقدات.
ولكننا في حاجة إلى أن نحدّد الموضع السببي بشكل صحيح. في الوقت الراهن، يسيء كثير من المشاركين في النقاشات حول نظريات المؤامرة الفهم. فحتى، وفق أفضل النوايا، يقول الصحفيون أمورًا خاطئة. ويصدق المشرعون حسنو النية أمورًا خاطئة، ومن ثمَّ، من المحتمل أن يتصرفوا بطريقة مغلوطة. وإذا لم يتصرفوا بالطريقة السليمة، فمن الممكن جدًا أن يؤذوا حقوقنا. من الممكن أن ينهوا مراقبة وسائل التواصل الاجتماعي. وفي الحقيقة، قد لا يكون لها أي تأثير في نظريّات المؤامرة على الإطلاق.
ماذا لو كان الأشخاص في الكونغرس، الذين يريدون تشريع وسائل التواصل الاجتماعي لإخماد نظريّات المؤامرة، هم أنفسهم من ينشرون معظم نظريّات المؤامرة في الواقع؟ على سبيل المثال، لو عدنا إلى الوراء عدة أشهر، كانت هناك جلسة استماع مع أقطاب تقنيين أمام الكونغرس، والمشرعون يشتكون من كثرة نظريّات المؤامرة الموجودة عبر الإنترنت. فسألوهم: ماذا يحدث لو أراد السياسيون مشاركة معلومات مضللة على فيسبوك؟ ولكنَّ سؤالي كان: إن كانت النخبة السياسية حقًّا هي من تشارك هذه الأفكار، فهل هو خطأ فيسبوك حقًّا؟ لمَ لا يستطيع الكونغرس والأحزاب ضبط أمنهم إن كانوا قلقين إلى هذه الدرجة؟ فالسياسيون سينشرون معلومات مضللة بكل حال حتى من دون وسائل التواصل الاجتماعي، وستنتشر بسبب الأفراد في الكونغرس والبيت الأبيض. صحيح أننا في حاجة إلى القيام بأمور لردع السياسيين عن مشاركة نظريّات المؤامرة، ولكن ربما لا تكون وسائل التواصل الاجتماعي هي المشكلة.
أساليب قديمة الطراز
لكلٍّ منا دور ليؤديه، ولكنْ، يجب أن ندرك أن الأساليب التي تنتشر فيها المعلومات المضللة لا تزال أساليب قديمة الطراز. ويقود التفكير الموجه والميول الأفرادَ إلى معتقداتهم. ربما لا يكون الإنترنت عاملَ نشرٍ مؤثرًا كما نظن. ولشرح السبب، دعونا نتكلم عن بعض هذه المفاهيم المغلوطة الموجودة لدى البعض. السبب الرئيس وراء ضبط وسائل التواصل الاجتماعي أن الناس أصبحوا، على ما يبدو، أكثر تآمرًا اليوم مما كانوا عليه في الماضي، وأن هذا التأثير، هو نتيجة وسائل التواصل الاجتماعي.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو: هل يصدق الأمريكيون نظريّات المؤامرة اليوم أكثر من الماضي؟ ستجعلك العناوين الرئيسة تظنّ ذلك. فعناوين الصحف لدينا تشي بأننا الآن في العصر الذهبي لنظريّات المؤامرة. وسأغفر لك إن اعتقدت أن هذا صحيح. ولكن المشكلة، هي أنك لو بحثت في عناوين الصحف في السنوات الستين الماضيّة، ستجد أن الصحفيين يقولون هذا في كل سنة تقريبًا، ولا يمكن أن يكون هذا صحيحًا دائمًا، وإلا لكنا قد سقطنا من فوق جرف المؤامرة في هذا الوقت، ولكننا لم نسقط.
ماذا تقول البيانات؟ أولًا: لم يتزايد الإيمان بكثير من نظريّات المؤامرة. على سبيل المثال، تراجع الاعتقاد بنظريّة مؤامرة اغتيال الرئيس (جون كينيدي) إلى النصف عما كان عليه في سبعينيات القرن العشرين.
في الواقع، شكّلت هذه المعتقدات نحو 80% لعقود. وبدأت بالتراجع منذ ظهور الإنترنت. في استطلاعي الأخير في شهر مارس، وصلت حتى نحو 44%. ولعلها المرة الأولى التي لم تكن فيها هذه المعتقدات سائدة منذ عقود.
عندما نجري استطلاعًا عن التفكير التآمري مع مرور الوقت، نجد أنه لم يتزايد. فقد كنت أجري استطلاعات عن هذا الأمر منذ عام 2012م، ولم نجد أن الأمريكيين أصبحوا أكثر تآمرًا عما قبل. كما لم نجد أنهم يصدقون نظريّات المؤامرة اليوم أكثر من ذي قبل. إن البيانات لا تشير إلى ذلك، على الأقل حتى الآن. فإن كان لديك الانطباع بأن وسائل التواصل الاجتماعي قد حوّلت الجميع إلى منظرين تآمريين، فتأكد من أننا لم نصل إلى هناك بعد.
أعتقد أن أفضل مثال يمكنني طرحه، هو نظريّة مؤامرة: كيو آنون QAnon، وهي نظرية مؤامرة ثانوية نوعًا ما، ولكنها متطرّفة أيضًا بمعنى أن المعتقدات متطرّفة، وهي تدَّعي أن الرئيس ترمب يحارب الدولة العميقة، المكونة من تجار ومتحرّشين بالأطفال من عبدة الشياطين.
يدعي كثير من التقارير الآن أن المزيد من الناس يؤمنون بنظرية المؤامرة هذه. نعم، صحيح أن بعض أولئك المؤمنين بها مرشحون للكونغرس، ومن المحتمل أن يفوز واحد أو اثنان منهم. ولكنها لن تتفاقم أكثر.


لو نظرت إلى العناوين الرئيسة، سيخيل إليك أن تيار كيو آنون مخيف. وأنه كبير ويزداد تضخمًا، وهذه المعتقدات تنمو بقوة على فيسبوك. حسنًا، مخيف، نعم، ولكن كبير، من ناحية نسبية؟ لا. ماذا تقول البيانات؟ بعد شهر من التغطيّة الإعلاميّة المطوّلة في عام 2018م، أجرينا استطلاعًا عنه في فلوريدا، وسألنا الناس عما يعتقدونه عن كيو آنون بمقياس من صفر حتى 100. وبمعدل متوسط، جاء تقييم الناس بشكل ضعيف، بنحو 24. وعلى سبيل المقارنة، سألنا أيضًا عن فيدل كاسترو. وإن كنت تعلم أي شيء عن فلوريدا، ستعلم أن أبناءها لا يحبون كاسترو. أخذ كيو آنون نقاطًا أعلى بقليل من كاسترو، غير المحبوب على الإطلاق.
لقد أعدت هذه الاستطلاعات في الأشهر القليلة الماضية، في فلوريدا وفي أرجاء الولايات. لم تزدد شعبية كيو آنون. وتشير استطلاعات أخرى تحدثت عنه إلى أن معظم الأمريكيين لا يعلمون حتى الآن ما هو. وهناك نحو %6 فقط في بعض الاستطلاعات يدعمونه أو يوافقون عليه. إنه ليس كبيرًا، إنما دعمه أعمق من حجمه.
ما دور الإنترنت؟ كثيرًا ما نسمع أن الإنترنت ينشر نظريّات المؤامرة. أولًا، علينا أن نكون حذرين من كلمة ينشر. فعندما نقول إنه ينشر، هل هذا يعني أنه يغيّر الآراء؟ أم هل نقصد أنه يمكن الوصول إليه في أنحاء أخرى من العالم؟ لأننا إن كنا نقصد المعنى الأخير، فنعم، من الواضح أننا نستطيع الوصول إلى أشياء على الإنترنت لم نستطع الوصول إليها قبلًا. ولكن هل يغير الآراء؟ هذا أمر مختلف تمامًا.
لم تزدد الاعتقادات بنظريّات المؤامرة في العقود الأخيرة. والقوى الموجهة إلى وضع نظريّات المؤامرة موجودة بغض النظر عن الإنترنت. ومن الممكن جدًّا أن تكون نظريّات المؤامرة قد انتشرت بشكل أسرع، أو كان لها عواقب أسوأ، في العقود والقرون السابقة. فإن عدت في هذه البلاد إلى الوراء 400 سنة، تجدنا كنا نُغرق الساحرات ونسحقهن لتواطئهن مع الشيطان. كما كان هناك ذعر بين الطبقة المستنيرة قبل 200 عام.
وبُعيد ذلك بقليل، كانت هناك نزوة الماسونيّة في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين. وكانت هناك فترتان من الخوف الأحمر في القرن السابق. من غير الواضح إن كان الناس متحصنين ضد وضع نظريّات المؤامرة في تلك الأيام الجميلة الغابرة. ولكنْ، من الواضح أنها موجودة اليوم، إلا أنه ليس من الواضح إن كانت موجودة أكثر أم إن تأثيرها أكبر الآن. وحتى وإن كانت كذلك، فليس من الواضح أنها نتيجة الإنترنت.
الأمر الآخر الذي يجدر التفكير فيه، هو أننا نملك مكتبات نحملها معنا إلى أي مكان في جيوبنا، أصبحت الآن قابلة للوصول إليها باستخدام أجهزة الهواتف النقالة، وأصبحت معارف العالم بأسره متوفِّرة بين أيدينا على بُعد ضغطة زر. ولكن يبدو أننا نعتقد أنه عبر الإنترنت، فإن نظريّات المؤامرة فقط لها تأثير فينا، وأننا بطريقة ما، عندما ندخل إلى الإنترنت، نجده مستنقعًا من نظريات المؤامرة. وهذا غير صحيح على الإطلاق.
أضف إلى ذلك، ثمة بحث يمتدّ على نطاق مئة عام عن تأثير وسائل الإعلام، ويبيّن أن الأخبار، والحملات، والإعلانات السياسيّة ليس لها ذلك التأثير القوي في الناس كما نظن.
في الحقيقة، تشير الدراسات الأحدث إلى أن تأثير الحملات الصافي هو صفر تقريبًا. أعتقد أن كثيرًا من الناس، بمن فيهم هذا الجمهور، لن يتأثروا بإعلام الحملات هذه السنة. فأنت تعلم من ستنتخب منذ وقت طويل. وهذه هي الحال في العديد من الانتخابات.


لسنا مجرد قوارض
نحن نقرر كثيرًا من خياراتنا السياسيّة قبل أن نعرف حتى من هم المرشحون؛ لأن ميولنا طويلة الأمد، هي ما يوجهنا في هذه الأمور. وعندما ندخل الإنترنت، نحن لسنا مجرد قوارض نتعرض للرمي ذات اليمين وذات الشمال بمجموعة من المعلومات المختلفة التي تغير آراءنا عدة مرات؛ بل نحن نختار ونصطفي. ونميل إلى البحث عن أمور نؤمن بها مسبقًا؛ لأنها تجعلنا نشعر بالراحة. لذلك، نحن لا نغير آراءنا كثيرًا. وفي نهاية اليوم، لا يهمّ فعلًا ما هو موجود في الإنترنت. فلا نزال نضطر إلى اختيار دخول الإنترنت، ولا نزال نضطر إلى تقبله، ولا يزال في حاجة إلى أن يتوافق مع الأشياء التي نؤمن بها مسبقًا. لذا، نعم، صحيح أن هناك مشكلات في المعلومات الموجودة في الإنترنت، ونحن في حاجة إلى تنظيفها. ولكن، ربما لا يكون مؤثرًا كبيرًا كما هو شائع.
ظن كثيرون أن انتخابات عام 2016م تقررت على أيدي روبوتات روسيّة أو شيء من هذا القبيل. بينما تُبيّن الدراسات التي ظهرت أن التأثير لم يكن كبيرًا كما قد يعتقد بعض الناس، ولم يكن للأخبار المزيفة التأثير الذي ظنه كثيرون في البداية.
الادعاء الآخر الشائع والمرجح أن يؤمن الجمهوريون والمحافظون بنظريّات المؤامرة. حتمًا هناك أسباب وجيهة لتصديق ذلك. قد تجد سيناتور يدخل مجلس الشيوخ ومعه كرة ثلج، ويقول -لأنه استطاع أن يصنع كرة ثلج-: إن التغيُّر المناخي أمر لا وجود له. بينما تجد شخصًا في البيت الأبيض يختلق كل أنواع ادعاءات المؤامرة، ومنها أن والد تيد كروز Ted Cruz، هو من كان خلف اغتيال الرئيس كينيدي. ولكن إليك الأمر. إنهما اثنان من النخبة، ولا يمثلان كثيرًا من عامة الجمهوريين.
ماذا تقول البيانات؟ أولًا، عدد متساوٍ تقريبًا من الحزبين اليميني واليساري يصدق نظريّات المؤامرة. وباستطلاعاتي الأخيرة، سألت إن اغتيل جيفري إبستين Jeffrey Epstein لإخفاء ما كان يعلمه. فوجدت أن عددًا مساويًا تقريبًا من الجمهوريين والديمقراطيين يجيبون بالإيجاب. كما أن عددًا متساويًا من اليمينيين واليساريين يؤمنون بنظريّة مؤامرة اغتيال الرئيس كينيدي. كذلك يؤمن عدد متساوٍ من كلا الحزبين بنظريّات مؤامرة جانبية، مثل نظرية الماسونية أو نظرية ابتكار مرض الإيدز في المخابر. غير أن هناك نظريّات مؤامرة يؤمن بها اليساريون أكثر، مثل نظريات تآمر ترمب مع روسيا، أو أن 1% من المؤسسات تتحكم بكل شيء لأغراض شريرة. يصدق اليساريون هذه الأفكار أكثر من اليمينيين.
ثمة أسباب وجيهة لهذا. فالقوى التي تدفع الناس إلى الإيمان بنظريّات المؤامرة، سواء أكان التفكير الموجه أم آليات أخرى، تعمل على كلا الحزبين اليميني واليساري. وعندما نقيس التفكير التآمري عند الجمهور العام، نجد أنه موجود لدى الحزبين اليميني واليساري بشكل متكافئ.
كما نسمع ادعاءً آخر في وسائل الإعلام يفيد بأن نظريّات المؤامرة هي للمتطرفين السياسيين. حسنًا، هذا يعتمد، في الواقع، على ما نقصده بكلمة متطرف، وما نعنيه بكلمة سياسي. بعض نظريات المؤامرة سيصدقها المتطرفون السياسيون، وهم الحزبيون والمحافظون الموالون، ما دامت المؤامرة مرتبطة – بطريقة ما – بالمحافظين، أو أن النخبة من الجمهوريين والمحافظين هم من يقومون بدفعها. على سبيل المثال، وجدنا أن من يميل إلى كونه جمهوريًا مواليًا أكثر عرضة لتصديق نظريات مؤامرة التغيُّر المناخي فقط لأنه يستمع إلى ما تقوله نخبة الجمهوريين، ولأن نخبة الجمهوريين لا تنفك تقول: إن التغيُّر المناخي ما هو إلا خدعة. ولكن لا يصل هذا إلى التطرف، بل على الأكثر، هو الاستماع إلى قادة الحزب. بعد كل انتخاب، دائمًا ما تظن الجهة الخاسرة أن الجهة الأخرى غشَّت في الانتخابات. وهذا له علاقة بالتفكير الموجه، فلا أحد يود أن ينظر في المرآة ويقول: حسنًا، يا إلهي، أفكارنا ليست جيدة بما يكفي، أو قائدنا ليس جيدًا عوضًا عن ذلك، لا بد أن الطرف الآخر أقدم على الغش. كذلك أجد هذا في فكرة تضخيم فيروس كورونا المستجد؛ لأن نخبة إعلام الرئيس والحزب المحافظ قالت: إن الفيروس التاجي، هو حيلة الدولة العميقة، أو حيلة الحزب الديمقراطي، أو، كما قال راش ليمباو Rush Limbaugh: إن الطبيب فاوسي Fauci ليس طبيبًا حقيقيًّا حتى. كما غرد بعض الشخصيات من فوكس نيوز عن ضرورة تصوير الناس للمستشفيات لعدم وجود مرضى حقيقيين هناك. حسنًا، سيدفع هذا الأمر المحافظين والجمهوريين المهتمين إلى تصديق هذه النظريّات.


ولكنْ، بعيدًا عن أن لهذه النظريات مناصرين، أو محتوى أيديولوجي، أو توجيهات، أو ظروف، إلا أنك لن تجد متطرفًا سياسيًّا يؤمن بها. في الحقيقة، ستجد أن أشخاصًا من كلا الحزبين ومن المستقلين يؤمنون بها. في الواقع، ليس هناك تكافؤ حزبي أو أيديولوجي قوي مع نظريّات مؤامرة روتشيلد، أو نظريّات مؤامرة الماسونيّة، أو نظريات تضخيم فكرة التطعيم، أو الكائنات المعدلة وراثيًا، لأن ليس لها علاقة وثيقة بالسياسة الرئيسية، أو بالجمهوريين أو الديمقراطيين.
عندما نجري استطلاعًا عن كيو آنون، نجد أن قلة من الناس يحبونه. ولكننا نجد، كذلك، أن عددًا متماثلًا من الديمقراطيين والجمهوريين يدعمونه.
وعلى الرغم من أنه يُعرف دائمًا بنظريّة مؤامرة الجناح اليميني المتطرف، إلا أنه لا يمت إلى الجناح اليميني بصلة. ولا يتعلق بالحزب المحافظ بأي شكل من الأشكال؛ بل يعود مناصروه إلى مختلف الأطياف السياسيّة. فما يجمع بين هؤلاء الأشخاص، هو احتقارهم للمؤسسة السياسيّة وللمستويات العاليّة من التفكير التآمري.
الأمر ليس كما لو أن أحدًا ما بدأ بإجراء بحث عن جورج بوش (الابن)، وقاده ذلك إلى قراءة خطاب رونالد ريغان، ثم قرأ عن ميلتون فريدمان، ومن ثم، وعلى حين غرّة، وجد أنهم أكلة الأطفال من عبدة الشياطين.
الأمر لا يجري بهذا الشكل. إن كنت جمهوريًّا مواليًا أو ديمقراطيًّا مواليًا، فقد أصبحت متأصلًا في الجهاز السياسي، ولن تصدق كثيرًا من نظريّات المؤامرة السخيفة هذه؛ لأنك مستريح بدورك في الجهاز. ولكنَّ الأفراد المنفصلين عن المؤسسة السياسيّة سيصدقون نظريّات المؤامرة هذه.
نحن في مواجهة الآخرين
نحن نميل إلى الاعتقاد بأن وضع نظريّات المؤامرة، هو ديناميكية قائمة على نحن في مواجهة الآخرين، بمعنى أننا نحن العقلانيون والجميع سوانا هم مجانين مؤامرات. حسنًا، الحقيقة، هي أن الأمر ليس نحن في مواجهة الآخرين. فهناك عدد لا يحصى من نظريّات المؤامرة الموجودة.
ولا أستطيع أن أسأل عنها جميعها في استطلاع معين؛ لأنه ثمة كثير منها. ولكنَّ ما اكتشفناه، هو أنه كلما سألنا عن نظريّات مؤامرة أكثر في الاستطلاع، وجدنا عددًا أقل من الناس لا يؤمنون بأي منها. في شهر مارس، سألت عن 21 نظريّة مؤامرة، ووجدت أن 91% يصدقون واحدة منها على الأقل. فتخيّل لو أنني سألت عن نحو 50 أو 100 نظرية مؤامرة. ربما سأجد الجميع يصدق واحدة على الأقل، إن لم يكن عدة منها.
هذا، من جديد، جزء من الحالة الإنسانيّة، وجميعنا سنسقط ضحايا لنظريّة مؤامرة ما من وقت لآخر. ولا خطأ في ذلك أو مرض. ولكننا نريد أن نتأكد من أن معتقداتنا مقيّدة بأدلة.
الفكرة المغلوطة ما قبل الأخيرة التي أود الحديث عنها، هي: هل هذه المعتقدات مجرد محاولة لإيجاد قضيّة كبرى من أجل حدث كبير. إنه مجرد خداع بصري. هناك نظريّات مؤامرة تتعلّق بالأحداث الكبرى، مثل أحداث 11 سبتمبر، أو اغتيال الرئيس كينيدي، أو فيروس كورونا. ولكن جميع الأحداث تجذب نظريّات مؤامرة بدرجات متفاوتة. فهناك نظريّات مؤامرة تتعلّق بكل شيء، مهما كبر أو صغر.
ما يجدر التفكير به، هو حقيقة أن الحدث الكبير هو فكرة نسبيّة تختلف من شخص إلى آخر، تمامًا كما هي القضيّة الكبرى. حتى وإن كنا نتطلع جميعًا إلى أن نربط القضايا الكبرى بأحداث كبرى، ذلك لا يعني أننا سنصل إلى نظريّة مؤامرة معينة حول حدث معين. على سبيل المثال، صدق نحو 80% من الأفراد نظريّات مؤامرة اغتيال الرئيس كينيدي عدة عقود.
ولكن يصدق كثيرون نظريّات مؤامرة اغتيال الرئيس كينيدي أكثر من تصديقهم نظريّات مؤامرة أحداث 11 سبتمبر. هل كان حدث اغتيال الرئيس كينيدي أكبر من حدث 11 سبتمبر حقًا؟ أكبر بثلاثة أضعاف؟ أم نظريّة مؤامرة الهبوط على القمر؟
عندما أجرينا استطلاعات عنهم، وجدنا نحو 5% يؤمنون بذلك. ونظريّات مؤامرة الدولة العميقة، عندما أجريت استطلاعًا عنها في مارس، حصلنا على %50 ممن يؤمنون بوجود الدولة العميقة.
فما الحدث الذي يحاول الناس تفسيره؟ أو عندما يقولون: إن الكائنات الفضائيّة هبطت في روزويل، وقامت الحكومة بإخفاء الأمر؟ هل كان هذا حدثًا كبيرًا حقًّا إن رأى أحدهم صفيحة معدنية وعيدانًا في الصحراء؟ والآن 30% من الأمريكيين يصدقون ذلك.
لم يبدُ هذا حدثًا كبيرًا. ثم ما هي الأحداث وراء نظريّات مؤامرة الكائنات المعدلة وراثيًّا، أو نظريّات مؤامرة التطعيم؟ أعود إلى فكرة أن ميولنا الداخليّة، هي فعلًا ما يدفعنا إلى هذه الاعتقادات، وليس البحث عن ضرب معين من القضايا أو التفسيرات.
إن نظريّات مؤامرة الفيروس التاجي جديدة. ويبدو أن هذه الأفكار خطيرة ومخيفة؛ لأن كثيرًا منها غير عقلانيّ. ولكن إليك ما سأقوله: لقد سمعت كثيرًا من نظريات المؤامرة حتى سئمتها كلها. تمامًا كما يقول الناس اليوم إن كورونا هو سلاح بيولوجي، كذلك قالوا عن فيروس زيكا: إنه سلاح بيولوجي، وعن إنفلونزا الخنازير، والإيدز أيضًا. وكل مرض جديد هو سلاح بيولوجي. إنها نظريّة واحدة تستخدم عدة أسماء.
يقول الناس اليوم إن بيل غيتس، هو من وراء هذا الفيروس. ولكن كان قبله جورج سوروس، والإخوة كوك. وقبلهم كانت عائلة روتشيلد، أو الماسونية، أو عائلة كينيدي. دائمًا ما تكون شخصية شهيرة وثرية خلف كل شيء. حقًا ما من شيء جديد هنا. ما يقوم به الأمريكيون، هو استمرار ومتابعة أكثر منه تغيير في وضع نظريات المؤامرة.
في الواقع، يمكن أن تكون نظريّات المؤامرة مزعجة. ويجدر بنا أن نعمل على إبقاء معتقداتنا مقيّدة بالحقيقة وبالأدلة قدر استطاعتنا؛ لأن السلوك السيئ قد ينطلق من المعتقدات الخاطئة. وهذا صحيح بشكل خاص في أثناء الجائحة؛ لذلك، ينبغي أن نتأكد من أننا نتبع إرشادات منظمة الصحة العالمّية، ومركز السيطرة على الأمراض، وليس شخصًا مجهولاً يغرّد في تويتر.
بعد قول هذا، هنالك أسباب لنكون متفائلين ومؤمنين بالإنسانية. فهناك استمرارية أكثر من تغيير. واعتقادنا بنظريّات المؤامرة أمر ليس بالجديد، وليس بالضرورة أسوأ. فلا يجدر بنا أن نلقي مسؤولية المشكلات الإنسانية القديمة على عاتق التقنيّات الجديدة. بل يجب أن نلقي باللائمة على أنفسنا! ويجب أن نقود المؤمنين لكي يؤمنوا باعتقادات أفضل عن التعاطف والرحمة. ولكنَّ الآليات التي تقود إلى نظريات المؤامرة مستمرة وباقية، وهي جزء من كوننا بشرًا.


المراجع
Clear Thinking about Conspiracy Theories
in Troubled Times
Skeptical Inquirer Volume 45, No. 1
January / February 2021
Joseph E. Uscinski