بعد‭ ‬الكوارث‭ ‬الكبرى‭ ‬تزدهر‭ ‬المعارف‭. ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬التجربة‭ ‬التي‭ ‬تخوضها‭ ‬البشريّة‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬الكارثة‭ ‬تمدّها‭ ‬بمزيد‭ ‬من‭ ‬الخبرات،‭ ‬وتقودها‭ ‬إلى‭ ‬خوض‭ ‬مغامرات‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬النجاة،‭ ‬غير‭ ‬أنها‭ ‬تصبح‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬مرجعًا‭ ‬يمدّ‭ ‬المعرفة‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬البيانات‭ ‬التي‭ ‬يتولّد‭ ‬عنها‭ ‬الازدهار‭. ‬وهذا‭ ‬تمامًا‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬المواجهة‭ ‬التي‭ ‬نعاصرها‭ ‬بين‭ ‬البشر‭ ‬والفيروس‭ ‬الشرس‭ ‬كوفيد‮١٩‬‭. ‬

أجمع‭ ‬العالم‭ ‬خلال‭ ‬هذه‭ ‬الجائحة‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬اللقاح‭ ‬الفعّال‭ ‬لأغلبية‭ ‬سكان‭ ‬العالم،‭ ‬هو‭ ‬سبيلنا‭ ‬الوحيد‭ ‬للخروج‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الأزمة‭ ‬العالمية،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬اللقاحات‭ ‬كانت‭ ‬منذ‭ ‬الأزل‭ ‬أحد‭ ‬أهم‭ ‬أسلحة‭ ‬البشر‭ ‬الطبية‭ ‬للوقاية‭ ‬من‭ ‬الأمراض‭ ‬المعديّة‭ ‬والأوبئة‭. ‬

وتسليمًا‭ ‬بمبدأ‭ ‬الوقاية‭ ‬خير‭ ‬من‭ ‬العلاج،‭ ‬فقد‭ ‬استثمر‭ ‬العلم‭ ‬في‭ ‬اللقاحات،‭ ‬حتى‭ ‬استطاع‭ ‬أن‭ ‬يقضي‭ ‬على‭ ‬أحد‭ ‬أشهر‭ ‬الأمراض‭ ‬المعدية،‭ ‬وهو‭ ‬الجدري‭. ‬

ويكاد‭ ‬اليوم‭ ‬أن‭ ‬يقضي‭ ‬على‭ ‬مرض‭ ‬معدٍ‭ ‬آخر،‭ ‬وهو‭ ‬شلل‭ ‬الأطفال‭. ‬وغير‭ ‬هذا‭ ‬وذاك،‭ ‬تشير‭ ‬الإحصاءات‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬اللقاحات‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬نجحت‭ ‬في‭ ‬منع‭ ‬ما‭ ‬يزيد‭ ‬على‭ ‬‮٣‬‭ ‬ملايين‭ ‬حالة‭ ‬وفاة‭ ‬سنويًا،‭ ‬كما‭ ‬ساهمت‭ ‬بتوفير‭ ‬ما‭ ‬يزيد‭ ‬على‭ ‬مليار‭ ‬دولار‭ ‬تكلفة‭ ‬علاج‭ ‬متوقعة‭. ‬

وهنا‭ ‬يأتي‭ ‬السؤال،‭ ‬ما‭ ‬القوة‭ ‬التي‭ ‬تمتلكها‭ ‬اللقاحات،‭ ‬والتي‭ ‬مكنتها‭ ‬من‭ ‬القضاء‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬الأمراض،‭ ‬وبفضلها‭ ‬صارت‭ ‬سببًا‭ ‬لتخفيض‭ ‬تكاليف‭ ‬العلاج،‭ ‬وتجعلها‭ ‬أفضل‭ ‬الأسلحة‭ ‬الطبيّة‭ ‬الممكنة‭ ‬لتحسين‭ ‬الصحة‭ ‬العامة؟‭ ‬ببساطة،‭ ‬فإن‭ ‬الإجابة‭ ‬أن‭ ‬اللقاح‭ ‬هو‭ ‬محاكاة‭ ‬للمناعة‭ ‬التي‭ ‬يكتسبها‭ ‬الجسد‭ ‬من‭ ‬المرض‭ ‬بعد‭ ‬الإصابة‭ ‬به،‭ ‬إذ‭ ‬يقوم‭ ‬الجسم‭ ‬بعد‭ ‬الإصابة‭ ‬بفيروس‭ ‬معدٍ‭ ‬بمقاومته،‭ ‬ومحاولة‭ ‬التعافي‭ ‬منه‭ ‬عبر‭ ‬إنتاج‭ ‬وتحفيز‭ ‬اجسام‭ ‬مناعية‭ ‬تعرف‭ ‬بالأجسام‭ ‬المضادة‭.‬ ‬

‭ ‬إلى‭ ‬عام‭ ‬‮٢٠٢٠‬م،‭ ‬أي‭ ‬حين‭ ‬ظهور‭ ‬جائحة‭ ‬كورونا‭ ‬كوفيد‭ ‬‮١٩‬،‭ ‬لم‭ ‬يُرخص‭ ‬أي‭ ‬لقاح‭ ‬من‭ ‬لقاحات‭ ‬الجيل‭ ‬الثالث‭ ‬للاستخدام‭ ‬البشري‭. ‬لكن‭ ‬الظرف‭ ‬الذي‭ ‬شهده‭ ‬العالم‭ ‬خلال‭ ‬الجائحة‭ ‬كان‭ ‬سببًا‭ ‬في‭ ‬التسريع‭ ‬لنقل‭ ‬هذا‭ ‬الجيل‭ ‬من‭ ‬اللقاحات‭ ‬من‭ ‬خانة‭ ‬التجربة‭ ‬إلى‭ ‬خانة‭ ‬التطبيق‭. ‬

حين‭ ‬نتحدث‭ ‬عن‭ ‬الجيل‭ ‬الثالث‭ ‬من‭ ‬اللقاحات،‭ ‬فنحن‭ ‬نتحدث‭ ‬عن‭ ‬المستقبل‭ ‬الذي‭ ‬انقدحت‭ ‬شرارته‭ ‬الآن‭. ‬حيث‭ ‬يقدم‭ ‬لنا‭ ‬العلم‭ ‬وعودًا‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬الإنجازات‭ ‬العلاجية‭ ‬والطبية‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬لتقنيّات‭ ‬الجيل‭ ‬الثالث‭ ‬من‭ ‬اللقاحات‭ ‬تحقيقها‭. ‬

بدءًا‭ ‬من‭ ‬إمكانية‭ ‬تطوير‭ ‬لقاحات‭ ‬في‭ ‬مدة‭ ‬زمنية‭ ‬قصيرة‭ ‬مقارنة‭ ‬بالأجيال‭ ‬السابقة،‭ ‬وصولًا‭ ‬إلى‭ ‬وعود‭ ‬بتوفير‭ ‬لقاحات‭ ‬علاجية‭ ‬لكثير‭ ‬من‭ ‬الأمراض‭. ‬يجري‭ ‬تطوير‭ ‬هذا‭ ‬الجيل‭ ‬من‭ ‬اللقاحات‭ ‬في‭ ‬المختبر،‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬الفيروس،‭ ‬إذ‭ ‬يجري‭ ‬تطويره‭ ‬بالاعتماد‭ ‬فقط‭ ‬على‭ ‬معلومات‭ ‬التسلسل‭ ‬الجيني‭ ‬للفيروس‭ ‬المراد‭ ‬مواجهته‭. ‬

بعد‭ ‬ذلك،‭ ‬يجري‭ ‬تطعيم‭ ‬الجسم‭ ‬بهذه‭ ‬المادة‭ ‬عبر‭ ‬نواقل‭ ‬مصممة‭ ‬بشكل‭ ‬خاص‭ ‬لتوصيل‭ ‬المادة،‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬الغالب‭ ‬نواقل‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬تقنية‭ ‬النانو،‭ ‬فيتمكّن‭ ‬الجسم‭ ‬من‭ ‬قراءة‭ ‬المادة‭ ‬الوراثية‭ ‬وإنتاج‭ ‬الأجسام‭ ‬المضادة‭ ‬لكونه‭ ‬يواجه‭ ‬جسمًا‭ ‬غريبًا‭. ‬

ومن‭ ‬أجل‭ ‬هذه‭ ‬الميزة،‭ ‬أي‭ ‬السرعة‭ ‬في‭ ‬تطوير‭ ‬اللقاح‭ ‬وابتكاره،‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬المنصة‭ ‬هي‭ ‬أول‭ ‬ما‭ ‬تمّ‭ ‬التوجه‭ ‬إليه‭ ‬حين‭ ‬التفكير‭ ‬بتطوير‭ ‬لقاح‭ ‬لفايروس‭ ‬كوفيد‮١٩‬‭. ‬هذا‭ ‬بالفعل‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يتنبأ‭ ‬به‭ ‬العلم‭ ‬منذ‭ ‬ما‭ ‬يقارب‭ ‬العقدين‭ ‬من‭ ‬الزمن،‭ ‬إذ‭ ‬نشر‭ ‬جيفري‭ ‬آلمير‭ ‬وآخرون‭ ‬مقالًا‭ ‬علميًا‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬نيتشر‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬‮٢٠٠٦‬م،‭ ‬كان‭ ‬المقال‭ ‬الذي‭ ‬لاقى‭ ‬صدى‭ ‬في‭ ‬الأوساط‭ ‬المتخصّصة‭ ‬يتنبأ‭ ‬بظهور‭ ‬هذا‭ ‬الجيل‭ ‬من‭ ‬اللقاحات‭ ‬كحل‭ ‬لمواجهة‭ ‬الأوبئة‭ ‬العالمية‭. ‬

وقد‭ ‬ساعد‭ ‬ظهور‭ ‬الجائحة‭ ‬على‭ ‬الدفع‭ ‬تجاه‭ ‬تطبيق‭ ‬تقنيّات‭ ‬الجيل‭ ‬الثالث‭ ‬من‭ ‬اللقاحات‭ ‬بشكل‭ ‬عاجل‭ ‬لمواجهة‭ ‬الأزمة‭. ‬هكذا‭ ‬كانت‭ ‬جائحة‭ ‬كورونا‭ ‬وظهور‭ ‬فيروس‭ ‬كوفيد‭ ‬‮١٩‬‭ ‬هي‭ ‬نقلة‭ ‬نوعية‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬صناعة‭ ‬اللقاحات،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬الابتكارات‭ ‬الطبيّة‭ ‬عمومًا‭. ‬

منذ‭ ‬اليوم،‭ ‬انتقلت‭ ‬تقنيات‭ ‬الوقاية‭ ‬واللقاحات‭ ‬باستخدام‭ ‬الحمض‭ ‬النووي‭ ‬من‭ ‬مرحلة‭ ‬الخيال‭ ‬العلمي‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬الواقع‭ ‬الذي‭ ‬جرى‭ ‬تطبيقه،‭ ‬ويمكن‭ ‬تطويره‭. ‬

وما‭ ‬نعيشه‭ ‬اليوم‭ ‬هو‭ ‬مرحلة‭ ‬انتقالية،‭ ‬ستتسبب‭ ‬بتطور‭ ‬هائل‭ ‬في‭ ‬الأدوات‭ ‬العلاجية‭ ‬والوقائية‭ ‬التي‭ ‬يمتلكها‭ ‬العلم‭ ‬لمواجهة‭ ‬الأمراض‭ ‬والأوبئة‭. ‬حين‭ ‬بدأت‭ ‬هذه‭ ‬الجائحة،‭ ‬كانت‭ ‬سرعة‭ ‬انتشار‭ ‬الوباء‭ ‬غير‭ ‬المسبوقة،‭ ‬ومدى‭ ‬انتشاره‭ ‬الجغرافي،‭ ‬إضافة‭ ‬الى‭ ‬الجهود‭ ‬والأموال‭ ‬الطائلة‭ ‬التي‭ ‬بذلت‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬التصدي‭ ‬له،‭ ‬سببًا‭ ‬لضخ‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأموال‭ ‬عالميًا‭ ‬للاستثمار‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬صناعة‭ ‬الأدوية‭ ‬البيولوجية‭ ‬واللقاحات‭. ‬وهكذا‭ ‬انتعشت‭ ‬شركات‭ ‬التقنية‭ ‬الحيوية‭ ‬الناشئة،‭ ‬وحصلت‭ ‬على‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الدعم‭ ‬الحكومي‭ ‬وغير‭ ‬الحكومي،‭ ‬كما‭ ‬حدث‭ ‬لشركة‭ ‬موديرنا‭ ‬في‭ ‬ماساتشوستس‭ ‬التي‭ ‬حصلت‭ ‬على‭ ‬دعم‭ ‬يقدر‭ ‬بمليارين‭ ‬ونصف‭ ‬المليار‭ ‬دولار‭ ‬من‭ ‬مؤسسة‭ ‬المعاهد‭ ‬الوطنية‭ ‬للصحة‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬وهي‭ ‬الدعم‭ ‬الحكومي‭ ‬الأكبر‭ ‬للبحوث‭ ‬الطبيّة‭. ‬

كما‭ ‬اتجهت‭ ‬كبريات‭ ‬شركات‭ ‬الأدوية‭ ‬إلى‭ ‬عقد‭ ‬اتفاقيات‭ ‬مع‭ ‬شركات‭ ‬التقنيّة‭ ‬الحيوية‭ ‬الناشئة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬ضمان‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬حصة‭ ‬في‭ ‬سوق‭ ‬اللقاحات‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الواضح‭ ‬أنه‭ ‬سوف‭ ‬ينمو‭ ‬بشكل‭ ‬هائل‭ ‬وغير‭ ‬مسبوق‭. ‬

كانت‭ ‬اتفاقية‭ ‬شركة‭ ‬الادوية‭ ‬الامريكية‭ ‬العملاقة‭ ‬فايزر‭ ‬وشركة‭ ‬التقنية‭ ‬الحيوية‭ ‬الناشئة‭ ‬بيونتك‭ ‬الألمانية،‭ ‬هي‭ ‬الأشهر‭ ‬على‭ ‬الإطلاق،‭ ‬إذ‭ ‬نتج‭ ‬منها‭ ‬أول‭ ‬لقاح‭ ‬من‭ ‬لقاحات‭ ‬الجيل‭ ‬الثالث‭ ‬يجري‭ ‬اعتماده‭ ‬للاستخدام‭ ‬البشري‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية،‭ ‬وهو‭ ‬كذلك‭ ‬أول‭ ‬لقاح‭ ‬معتمد‭ ‬لفيروس‭ ‬كوفيد‮١٩‬‭. ‬

وبطبيعة‭ ‬الحال،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تظهر‭ ‬الحلول‭ ‬كاملة‭ ‬وبغير‭ ‬نقص‭. ‬وكان‭ ‬أكبر‭ ‬العيوب‭ ‬التي‭ ‬نعرفها‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الجيل‭ ‬من‭ ‬اللقاحات‭ ‬يتمثّل‭ ‬في‭ ‬أنها‭ ‬لقاحات‭ ‬متعددة‭ ‬الجرعة،‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬استخدام‭ ‬جرعتين‭ ‬قبل‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬المناعة‭ ‬المطلوبة،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يضعنا‭ ‬أمام‭ ‬مخاوف‭ ‬من‭ ‬مشكلات‭ ‬الامداد‭ ‬والتوزيع‭ ‬عالميًا‭. ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬التزام‭ ‬الأشخاص‭ ‬بتلقي‭ ‬الجرعة‭ ‬الثانية،‭ ‬وعدم‭ ‬التهاون‭ ‬في‭ ‬ذلك،‭ ‬مما‭ ‬يبطل‭ ‬الجهود‭ ‬العالميّة‭ ‬لمواجهة‭ ‬الوباء‭.‬

‭ ‬ويظل‭ ‬الاعجاب‭ ‬مشتعلًا‭ ‬بالتقدم‭ ‬العلمي‭ ‬الذي‭ ‬أحرزته‭ ‬البشرية‭ ‬اليوم‭ ‬بالتمكّن‭ ‬من‭ ‬تطوير‭ ‬لقاح‭ ‬فعّال‭ ‬خلال‭ ‬سنة‭ ‬واحدة،‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬قبل‭ ‬اليوم‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬تطوير‭ ‬اللقاح‭ ‬في‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬عدة‭ ‬سنوات‭. ‬

‭ ‬تعمل‭ ‬هذه‭ ‬الاجسام‭ ‬المضادة‭ ‬على‭ ‬حماية‭ ‬الجسم‭ ‬لأشهر،‭ ‬وربما‭ ‬لسنوات‭ ‬من‭ ‬تكرر‭ ‬المرض‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭. ‬وهكذا،‭ ‬يكون‭ ‬اللقاح‭ ‬هو‭ ‬محاولة‭ ‬إثارة‭ ‬هذه‭ ‬الاستجابة‭ ‬المناعيّة،‭ ‬وإنتاج‭ ‬الأجسام‭ ‬المضادة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬الإصابة‭ ‬بالمرض‭ ‬إطلاقًا‭. ‬

بدأت‭ ‬ممارسات‭ ‬التطعيم‭ ‬واللقاحات‭ ‬في‭ ‬مراحل‭ ‬مبكرة‭ ‬من‭ ‬التاريخ‭ ‬البشري،‭ ‬وبطرائق‭ ‬بدائيّة،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬اكتساب‭ ‬البشريّة‭ ‬لأدوات‭ ‬العلم‭ ‬ساهم‭ ‬في‭ ‬تطوير‭ ‬تقنيات‭ ‬التطعيم‭. ‬فاليوم،‭ ‬أصبح‭ ‬العلم‭ ‬يعرف‭ ‬ثلاثة‭ ‬أجيال‭ ‬من‭ ‬اللقاحات‭ ‬المستخدمة‭ ‬في‭ ‬مقاومة‭ ‬الأمراض‭ ‬المعدية‭. ‬والجيل‭ ‬الأخير‭ ‬منها‭ ‬لا‭ ‬يكتفي‭ ‬بتقديم‭ ‬نفسه‭ ‬كأداة‭ ‬مقاومة‭ ‬للأمراض،‭ ‬بل‭ ‬تمتد‭ ‬الآمال‭ ‬لتطويره؛‭ ‬ليصبح‭ ‬قادرًا‭ ‬على‭ ‬معالجة‭ ‬بعض‭ ‬الأمراض‭ ‬المعديّة‭ (‬مثل‭ ‬الملاريا‭ ‬والايدز‭) ‬وغير‭ ‬المعديّة‭ (‬مثل‭ ‬الأورام‭)‬،‭ ‬فما‭ ‬الذي‭ ‬استجد‭ ‬وكيف‭ ‬وصلنا‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة؟‭ ‬

بدأت‭ ‬صناعة‭ ‬اللقاحات‭ ‬بالجيل‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬اللقاحات،‭ ‬وهي‭ ‬اللقاحات‭ ‬المكوّنة‭ ‬من‭ ‬الفيروس‭ ‬في‭ ‬صورته‭ ‬الضعفية‭ ‬أو‭ ‬الميتة‭. ‬إذ‭ ‬يجري‭ ‬عزل‭ ‬الفيروس‭ ‬في‭ ‬مزارع‭ ‬مخصّصة‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬إضعافه‭ ‬أو‭ ‬قتله‭ ‬بالحرارة‭ ‬أو‭ ‬المواد‭ ‬الكيميائيّة‭ ‬كي‭ ‬يخسر‭ ‬خواصه‭ ‬المعديّة،‭ ‬ويبقي‭ ‬على‭ ‬خواصه‭ ‬المحفزة‭ ‬للمناعة‭.‬

‭ ‬قدم‭ ‬هذا‭ ‬الجيل‭ ‬من‭ ‬اللقاحات‭ ‬خدمة‭ ‬كبيرة‭ ‬للبشرية‭ ‬بمساعدتها‭ ‬على‭ ‬القضاء‭ ‬على‭ ‬مرض‭ ‬الجدري،‭ ‬والمساهمة‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬القضاء‭ ‬على‭ ‬مرض‭ ‬شلل‭ ‬الأطفال‭. ‬ما‭ ‬يميز‭ ‬هذا‭ ‬الجيل‭ ‬من‭ ‬اللقاحات‭ ‬هو‭ ‬أنه‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬إنتاج‭ ‬مناعة‭ ‬طويلة‭ ‬الأمد،‭ ‬بإضافة‭ ‬إلى‭ ‬سهولة‭ ‬إنتاجه،‭ ‬وانخفاض‭ ‬تكلفة‭ ‬الإنتاج،‭ ‬مقارنة‭ ‬بالأجيال‭ ‬اللاحقة‭ ‬من‭ ‬اللقاحات‭. ‬

إلا‭ ‬أن‭ ‬عملية‭ ‬ابتكار‭ ‬وتطوير‭ ‬لقاح‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الجيل‭ ‬تستغرق‭ ‬خطوات‭ ‬معقدة،‭ ‬وقد‭ ‬تستغرق‭ ‬سنوات‭ ‬لضمان‭ ‬سلامته،‭ ‬إذ‭ ‬يكون‭ ‬من‭ ‬الضروري‭ ‬اختبار‭ ‬اللقاح‭ ‬على‭ ‬نطاق‭ ‬واسع‭ ‬جدًا‭ ‬للتأكد‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬الفيروس‭ ‬المتضمن‭ ‬ضعيف‭ ‬بما‭ ‬يكفي‭ ‬ليكون‭ ‬آمناً،‭ ‬ولا‭ ‬يسبب‭ ‬العدوى‭. ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬العيب‭ ‬الأكبر‭ ‬في‭ ‬الجيل‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬اللقاحات،‭ ‬إذ‭ ‬من‭ ‬المستحيل‭ ‬استخدام‭ ‬منصّة‭ ‬الجيل‭ ‬الأول‭ ‬لابتكار‭ ‬لقاحات‭ ‬تساهم‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬الأوبئة‭ ‬المستجدة‭ ‬مثل‭ ‬انفلونزا‭ ‬الخنازير‭ ‬كوفيد‮١‬؛‭ ‬بسبب‭ ‬اشتراطات‭ ‬السلامة‭ ‬التي‭ ‬تستغرق‭ ‬وقتًا‭ ‬طويلًا‭. ‬رغم‭ ‬ذلك،‭ ‬لا‭ ‬زلنا‭ ‬نستخدم‭ ‬بعض‭ ‬أنواع‭ ‬اللقاحات‭ ‬التي‭ ‬طوّرت‭ ‬عبر‭ ‬منصّة‭ ‬الجيل‭ ‬الأول‭ ‬لليوم،‭ ‬ولا‭ ‬تزال‭ ‬تمثل‭ ‬الخيار‭ ‬الأفضل‭ ‬للوقاية‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬الأمراض‭. ‬

لكن‭ ‬تطور‭ ‬أدوات‭ ‬العلم‭ ‬وظهور‭ ‬تقنيات‭ ‬البيولوجيا‭ ‬الجزيئية‭ ‬ساعد‭ ‬في‭ ‬تجاوز‭ ‬عيوب‭ ‬الجيل‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬اللقاحات،‭ ‬وظهر‭ ‬الجيل‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬اللقاحات‭ ‬ليقدم‭ ‬نفسه‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬الحل‭ ‬لمشكلة‭ ‬السلامة‭ ‬التي‭ ‬يعاني‭ ‬منها‭ ‬الجيل‭ ‬الأول‭. ‬ففي‭ ‬الجيل‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬اللقاحات‭ ‬يتم‭ ‬عزل‭ ‬مسببات‭ ‬العدوى‭ ‬في‭ ‬الفيروس‭ ‬واستبعادها،‭ ‬وذلك‭ ‬إما‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬تفكيك‭ ‬الفيروس،‭ ‬والحصول‭ ‬على‭ ‬الجزء‭ ‬المطلوب‭ ‬لإحداث‭ ‬المناعة‭ ‬واستخدامه،‭ ‬أو‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬استخدام‭ ‬التركيبة‭ ‬الكاملة‭ ‬للفيروس‭ ‬بعد‭ ‬إزالة‭ ‬المادة‭ ‬الوراثية‭ ‬منه،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يجعله‭ ‬غير‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬التكاثر‭ ‬والإصابة‭ ‬بالعدوى‭. ‬

وقد‭ ‬نجحت‭ ‬منصّة‭ ‬الجيل‭ ‬الثاني‭ ‬في‭ ‬تطوير‭ ‬لقاحات‭ ‬مثلت‭ ‬ثورة‭ ‬في‭ ‬الإنجازات‭ ‬الطبية‭ ‬مثل‭ ‬لقاح‭ ‬فيروس‭ ‬الورم‭ ‬الحليمي‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬أكبر‭ ‬مشكلة‭ ‬عانى‭ ‬منها‭ ‬العلم‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المنصة‭ ‬كانت‭ ‬تعقيد‭ ‬عملية‭ ‬تطوير‭ ‬اللقاح‭ ‬التي‭ ‬تستغرق‭ ‬فترة‭ ‬طويلة‭ ‬نسبيًا،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬محدودية‭ ‬قدرتها‭ ‬وعجزها‭ ‬عن‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬بعض‭ ‬أنواع‭ ‬الفيروسات‭ ‬العنيدة،‭ ‬ومنها‭ ‬الملاريا‭ ‬والايدز‭. ‬

الجيل‭ ‬الثالث‭: ‬حلم‭ ‬يتحقق‭ ‬

كان‭ ‬الجيل‭ ‬الثالث‭ ‬من‭ ‬اللقاحات‭ ‬حلمًا‭ ‬علميًا‭ ‬ينظر‭ ‬إليه‭ ‬بوصفه‭ ‬أمل‭ ‬المستقبل،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬الأوساط‭ ‬العلمية‭ ‬والمتخصصة‭ ‬تتخيّل‭ ‬أن‭ ‬تطبيق‭ ‬هذا‭ ‬الجيل‭ ‬من‭ ‬اللقاحات‭ ‬ممكنًا‭ ‬على‭ ‬الأمد‭ ‬القريب‭. ‬

بدأت‭ ‬قصة‭ ‬الجيل‭ ‬الثالث‭ ‬من‭ ‬اللقاحات‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬‮١٩٨٩‬م،‭ ‬حين‭ ‬دخل‭ ‬العلم‭ ‬مرحلة‭ ‬مدهشة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬نشر‭ ‬معهد‭ ‬سالك‭ ‬التابع‭ ‬لجامعة‭ ‬سانديغو‭ ‬في‭ ‬كاليفورنيا‭ ‬بحثًا‭ ‬يوضح‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬استخدام‭ ‬تقنيات‭ ‬النانو‭ ‬لإرسال‭ ‬جزيء‭ ‬mRNA‭ ‬المصمم‭ ‬في‭ ‬المختبر‭ ‬بالهندسة‭ ‬الحيوية‭ ‬الى‭ ‬مناطق‭ ‬محددة‭ ‬من‭ ‬الجسم،‭ ‬مما‭ ‬يتنبأ‭ ‬بإمكانيات‭ ‬علاجية‭ ‬هائلة‭ ‬توفرها‭ ‬هذه‭ ‬التقنية‭ ‬الحيوية‭. ‬

بعد‭ ‬ذلك‭ ‬بعام‭ ‬واحد،‭ ‬أي‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬‮١٩٩٠‬م،‭ ‬أعلنت‭ ‬جامعة‭ ‬ويسكونسن‭ ‬أنها‭ ‬قد‭ ‬اختبرت‭ ‬هذه‭ ‬الفرضية‭ ‬في‭ ‬الفئران،‭ ‬وحصلت‭ ‬على‭ ‬نتائج‭ ‬ايجابية‭ ‬تؤكد‭ ‬هذه‭ ‬الفكرة‭. ‬عندها،‭ ‬انبهر‭ ‬المجتمع‭ ‬العلمي‭ ‬بهذه‭ ‬التقنية‭ ‬والإمكانيات‭ ‬النظرية‭ ‬التي‭ ‬تتيحها‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬أحدًا‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يتصور‭ ‬أن‭ ‬التطبيق‭ ‬لهذه‭ ‬التقنية‭ ‬سوف‭ ‬يتحقق‭ ‬بعد‭ ‬‮٣٠‬‭ ‬عامًا‭ ‬فقط‭. ‬كانت‭ ‬شركات‭ ‬التقنية‭ ‬الحيوية‭ ‬الناشئة‭ ‬والقائمة‭ ‬على‭ ‬الأبحاث‭ ‬تسعى‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬إيجاد‭ ‬علاجات‭ ‬للأمراض‭ ‬المزمنة‭ ‬والأورام‭ ‬عبر‭ ‬هذه‭ ‬التقنية،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬محاولات‭ ‬إيجاد‭ ‬لقاحات‭ ‬لبعض‭ ‬الفيروسات‭ ‬العنيدة‭ ‬والمستجدة‭.‬

 

Share This