بعد الكوارث الكبرى تزدهر المعارف. ذلك أن التجربة التي تخوضها البشريّة في مواجهة الكارثة تمدّها بمزيد من الخبرات، وتقودها إلى خوض مغامرات في سبيل النجاة، غير أنها تصبح فيما بعد مرجعًا يمدّ المعرفة بكثير من البيانات التي يتولّد عنها الازدهار. وهذا تمامًا ما يحدث اليوم في المواجهة التي نعاصرها بين البشر والفيروس الشرس كوفيد١٩.
أجمع العالم خلال هذه الجائحة على أن اللقاح الفعّال لأغلبية سكان العالم، هو سبيلنا الوحيد للخروج من هذه الأزمة العالمية، غير أن اللقاحات كانت منذ الأزل أحد أهم أسلحة البشر الطبية للوقاية من الأمراض المعديّة والأوبئة.
وتسليمًا بمبدأ الوقاية خير من العلاج، فقد استثمر العلم في اللقاحات، حتى استطاع أن يقضي على أحد أشهر الأمراض المعدية، وهو الجدري.
ويكاد اليوم أن يقضي على مرض معدٍ آخر، وهو شلل الأطفال. وغير هذا وذاك، تشير الإحصاءات إلى أن اللقاحات كانت قد نجحت في منع ما يزيد على ٣ ملايين حالة وفاة سنويًا، كما ساهمت بتوفير ما يزيد على مليار دولار تكلفة علاج متوقعة.
وهنا يأتي السؤال، ما القوة التي تمتلكها اللقاحات، والتي مكنتها من القضاء على بعض الأمراض، وبفضلها صارت سببًا لتخفيض تكاليف العلاج، وتجعلها أفضل الأسلحة الطبيّة الممكنة لتحسين الصحة العامة؟ ببساطة، فإن الإجابة أن اللقاح هو محاكاة للمناعة التي يكتسبها الجسد من المرض بعد الإصابة به، إذ يقوم الجسم بعد الإصابة بفيروس معدٍ بمقاومته، ومحاولة التعافي منه عبر إنتاج وتحفيز اجسام مناعية تعرف بالأجسام المضادة.
إلى عام ٢٠٢٠م، أي حين ظهور جائحة كورونا كوفيد ١٩، لم يُرخص أي لقاح من لقاحات الجيل الثالث للاستخدام البشري. لكن الظرف الذي شهده العالم خلال الجائحة كان سببًا في التسريع لنقل هذا الجيل من اللقاحات من خانة التجربة إلى خانة التطبيق.
حين نتحدث عن الجيل الثالث من اللقاحات، فنحن نتحدث عن المستقبل الذي انقدحت شرارته الآن. حيث يقدم لنا العلم وعودًا بكثير من الإنجازات العلاجية والطبية التي يمكن لتقنيّات الجيل الثالث من اللقاحات تحقيقها.
بدءًا من إمكانية تطوير لقاحات في مدة زمنية قصيرة مقارنة بالأجيال السابقة، وصولًا إلى وعود بتوفير لقاحات علاجية لكثير من الأمراض. يجري تطوير هذا الجيل من اللقاحات في المختبر، ومن دون الحاجة إلى الفيروس، إذ يجري تطويره بالاعتماد فقط على معلومات التسلسل الجيني للفيروس المراد مواجهته.
بعد ذلك، يجري تطعيم الجسم بهذه المادة عبر نواقل مصممة بشكل خاص لتوصيل المادة، وهي في الغالب نواقل تعتمد على تقنية النانو، فيتمكّن الجسم من قراءة المادة الوراثية وإنتاج الأجسام المضادة لكونه يواجه جسمًا غريبًا.
ومن أجل هذه الميزة، أي السرعة في تطوير اللقاح وابتكاره، كانت هذه المنصة هي أول ما تمّ التوجه إليه حين التفكير بتطوير لقاح لفايروس كوفيد١٩. هذا بالفعل ما كان يتنبأ به العلم منذ ما يقارب العقدين من الزمن، إذ نشر جيفري آلمير وآخرون مقالًا علميًا في مجلة نيتشر في عام ٢٠٠٦م، كان المقال الذي لاقى صدى في الأوساط المتخصّصة يتنبأ بظهور هذا الجيل من اللقاحات كحل لمواجهة الأوبئة العالمية.
وقد ساعد ظهور الجائحة على الدفع تجاه تطبيق تقنيّات الجيل الثالث من اللقاحات بشكل عاجل لمواجهة الأزمة. هكذا كانت جائحة كورونا وظهور فيروس كوفيد ١٩ هي نقلة نوعية في عالم صناعة اللقاحات، بل في الابتكارات الطبيّة عمومًا.
منذ اليوم، انتقلت تقنيات الوقاية واللقاحات باستخدام الحمض النووي من مرحلة الخيال العلمي إلى مرحلة الواقع الذي جرى تطبيقه، ويمكن تطويره.
وما نعيشه اليوم هو مرحلة انتقالية، ستتسبب بتطور هائل في الأدوات العلاجية والوقائية التي يمتلكها العلم لمواجهة الأمراض والأوبئة. حين بدأت هذه الجائحة، كانت سرعة انتشار الوباء غير المسبوقة، ومدى انتشاره الجغرافي، إضافة الى الجهود والأموال الطائلة التي بذلت في سبيل التصدي له، سببًا لضخ كثير من الأموال عالميًا للاستثمار في مجال صناعة الأدوية البيولوجية واللقاحات. وهكذا انتعشت شركات التقنية الحيوية الناشئة، وحصلت على كثير من الدعم الحكومي وغير الحكومي، كما حدث لشركة موديرنا في ماساتشوستس التي حصلت على دعم يقدر بمليارين ونصف المليار دولار من مؤسسة المعاهد الوطنية للصحة في الولايات المتحدة، وهي الدعم الحكومي الأكبر للبحوث الطبيّة.
كما اتجهت كبريات شركات الأدوية إلى عقد اتفاقيات مع شركات التقنيّة الحيوية الناشئة من أجل ضمان الحصول على حصة في سوق اللقاحات الذي كان من الواضح أنه سوف ينمو بشكل هائل وغير مسبوق.
كانت اتفاقية شركة الادوية الامريكية العملاقة فايزر وشركة التقنية الحيوية الناشئة بيونتك الألمانية، هي الأشهر على الإطلاق، إذ نتج منها أول لقاح من لقاحات الجيل الثالث يجري اعتماده للاستخدام البشري في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو كذلك أول لقاح معتمد لفيروس كوفيد١٩.
وبطبيعة الحال، لا يمكن أن تظهر الحلول كاملة وبغير نقص. وكان أكبر العيوب التي نعرفها عن هذا الجيل من اللقاحات يتمثّل في أنها لقاحات متعددة الجرعة، أي أن هناك حاجة إلى استخدام جرعتين قبل الوصول إلى المناعة المطلوبة، وهذا ما يضعنا أمام مخاوف من مشكلات الامداد والتوزيع عالميًا. إضافة إلى التزام الأشخاص بتلقي الجرعة الثانية، وعدم التهاون في ذلك، مما يبطل الجهود العالميّة لمواجهة الوباء.
ويظل الاعجاب مشتعلًا بالتقدم العلمي الذي أحرزته البشرية اليوم بالتمكّن من تطوير لقاح فعّال خلال سنة واحدة، إذ لم يكن قبل اليوم من الممكن تطوير اللقاح في أقل من عدة سنوات.
تعمل هذه الاجسام المضادة على حماية الجسم لأشهر، وربما لسنوات من تكرر المرض مرة أخرى. وهكذا، يكون اللقاح هو محاولة إثارة هذه الاستجابة المناعيّة، وإنتاج الأجسام المضادة من دون الإصابة بالمرض إطلاقًا.
بدأت ممارسات التطعيم واللقاحات في مراحل مبكرة من التاريخ البشري، وبطرائق بدائيّة، إلا أن اكتساب البشريّة لأدوات العلم ساهم في تطوير تقنيات التطعيم. فاليوم، أصبح العلم يعرف ثلاثة أجيال من اللقاحات المستخدمة في مقاومة الأمراض المعدية. والجيل الأخير منها لا يكتفي بتقديم نفسه كأداة مقاومة للأمراض، بل تمتد الآمال لتطويره؛ ليصبح قادرًا على معالجة بعض الأمراض المعديّة (مثل الملاريا والايدز) وغير المعديّة (مثل الأورام)، فما الذي استجد وكيف وصلنا إلى هذه المرحلة؟
بدأت صناعة اللقاحات بالجيل الأول من اللقاحات، وهي اللقاحات المكوّنة من الفيروس في صورته الضعفية أو الميتة. إذ يجري عزل الفيروس في مزارع مخصّصة ومن ثم إضعافه أو قتله بالحرارة أو المواد الكيميائيّة كي يخسر خواصه المعديّة، ويبقي على خواصه المحفزة للمناعة.
قدم هذا الجيل من اللقاحات خدمة كبيرة للبشرية بمساعدتها على القضاء على مرض الجدري، والمساهمة في حرب القضاء على مرض شلل الأطفال. ما يميز هذا الجيل من اللقاحات هو أنه قادر على إنتاج مناعة طويلة الأمد، بإضافة إلى سهولة إنتاجه، وانخفاض تكلفة الإنتاج، مقارنة بالأجيال اللاحقة من اللقاحات.
إلا أن عملية ابتكار وتطوير لقاح من هذا الجيل تستغرق خطوات معقدة، وقد تستغرق سنوات لضمان سلامته، إذ يكون من الضروري اختبار اللقاح على نطاق واسع جدًا للتأكد من أن الفيروس المتضمن ضعيف بما يكفي ليكون آمناً، ولا يسبب العدوى. وهذا هو العيب الأكبر في الجيل الأول من اللقاحات، إذ من المستحيل استخدام منصّة الجيل الأول لابتكار لقاحات تساهم في مواجهة الأوبئة المستجدة مثل انفلونزا الخنازير كوفيد١؛ بسبب اشتراطات السلامة التي تستغرق وقتًا طويلًا. رغم ذلك، لا زلنا نستخدم بعض أنواع اللقاحات التي طوّرت عبر منصّة الجيل الأول لليوم، ولا تزال تمثل الخيار الأفضل للوقاية من بعض الأمراض.
لكن تطور أدوات العلم وظهور تقنيات البيولوجيا الجزيئية ساعد في تجاوز عيوب الجيل الأول من اللقاحات، وظهر الجيل الثاني من اللقاحات ليقدم نفسه على أنه الحل لمشكلة السلامة التي يعاني منها الجيل الأول. ففي الجيل الثاني من اللقاحات يتم عزل مسببات العدوى في الفيروس واستبعادها، وذلك إما عن طريق تفكيك الفيروس، والحصول على الجزء المطلوب لإحداث المناعة واستخدامه، أو عن طريق استخدام التركيبة الكاملة للفيروس بعد إزالة المادة الوراثية منه، وهذا ما يجعله غير قادر على التكاثر والإصابة بالعدوى.
وقد نجحت منصّة الجيل الثاني في تطوير لقاحات مثلت ثورة في الإنجازات الطبية مثل لقاح فيروس الورم الحليمي. غير أن أكبر مشكلة عانى منها العلم في هذه المنصة كانت تعقيد عملية تطوير اللقاح التي تستغرق فترة طويلة نسبيًا، إضافة إلى محدودية قدرتها وعجزها عن التعامل مع بعض أنواع الفيروسات العنيدة، ومنها الملاريا والايدز.
الجيل الثالث: حلم يتحقق
كان الجيل الثالث من اللقاحات حلمًا علميًا ينظر إليه بوصفه أمل المستقبل، ولم تكن الأوساط العلمية والمتخصصة تتخيّل أن تطبيق هذا الجيل من اللقاحات ممكنًا على الأمد القريب.
بدأت قصة الجيل الثالث من اللقاحات في عام ١٩٨٩م، حين دخل العلم مرحلة مدهشة بعد أن نشر معهد سالك التابع لجامعة سانديغو في كاليفورنيا بحثًا يوضح أنه من الممكن استخدام تقنيات النانو لإرسال جزيء mRNA المصمم في المختبر بالهندسة الحيوية الى مناطق محددة من الجسم، مما يتنبأ بإمكانيات علاجية هائلة توفرها هذه التقنية الحيوية.
بعد ذلك بعام واحد، أي في عام ١٩٩٠م، أعلنت جامعة ويسكونسن أنها قد اختبرت هذه الفرضية في الفئران، وحصلت على نتائج ايجابية تؤكد هذه الفكرة. عندها، انبهر المجتمع العلمي بهذه التقنية والإمكانيات النظرية التي تتيحها. غير أن أحدًا لم يكن يتصور أن التطبيق لهذه التقنية سوف يتحقق بعد ٣٠ عامًا فقط. كانت شركات التقنية الحيوية الناشئة والقائمة على الأبحاث تسعى في سبيل إيجاد علاجات للأمراض المزمنة والأورام عبر هذه التقنية، إضافة إلى محاولات إيجاد لقاحات لبعض الفيروسات العنيدة والمستجدة.