اللقاحات‭:‬ أجيال‭ ‬تتمايز

صورة‭ ‬للصيدلي‭ ‬أبراهام‭ ‬فرانسين‭ ‬رامبرانت‭ ‬فان‭ ‬رين،‭ ‬1807‭-‬1808

حنان‭ ‬القرني‭ – ‬اختصاصية‭ ‬بالتقنيّة‭ ‬الحيويّة – – 29 مارس 2021م

أجمع العالم خلال هذه الجائحة على أن اللقاح الفعّال لأغلبية سكان العالم، هو سبيلنا للخروج من هذه الأزمة العالمية، ذلك أن اللقاحات كانت، منذ القدم، أحد أهم أسلحة البشر الطبية للوقاية من الأمراض المعدية والأوبئة.

وتسليمًا بمبدأ الوقاية خير من العلاج، استثمر العالم في اللقاحات، حتى استطاع أن يقضي على أحد أشهر الأمراض المعدية، وهو الجدري. كما يكاد اليوم يقضي على مرض معدٍ آخر، هو شلل الأطفال. وغير هذا وذاك، تشير الإحصاءات إلى أن اللقاحات كانت قد نجحت في منع ما يزيد على 3 ملايين حالة وفاة سنويًّا، كما ساهمت في توفير ما يزيد على المليار دولار تكلفة علاج متوقعة.

وهنا يأتي السؤال: ما القوة التي تمتلكها اللقاحات، ومكَّنتها من القضاء على بعض الأمراض، وبفضلها صارت سببًا لتخفيض تكاليف العلاج، وجعلتها أفضل الأسلحة الطبيّة الممكنة لتحسين الصحة العامة؟ ببساطة، فإن الإجابة، هي أن اللقاح هو محاكاة للمناعة التي يكتسبها الجسد من المرض بعد الإصابة به، إذ يقوم الجسم بعد الإصابة بفيروس معدٍ بمقاومته، ومحاولة التعافي منه عبر إنتاج وتحفيز أجسام مناعية تُعرف بالأجسام المضادة.

تعمل هذه الاجسام المضادة على حماية الجسم لأشهُر، وربما لسنوات. وهكذا، يكون اللقاح هو محاولة إثارة هذه الاستجابة المناعيّة، وإنتاج الأجسام المضادة من دون الإصابة بالمرض إطلاقًا.

بدأت ممارسات التطعيم واللقاحات في مراحل مبكرة من التاريخ البشري، وبطرائق بدائيّة، إلا أن اكتساب البشريّة أدوات العلم ساهم في تطوير تقنيات التطعيم. فاليوم، أصبح العلم يعرف ثلاثة أجيال من اللقاحات المستخدمة في مقاومة الأمراض المعدية. والجيل الأخير منها لا يكتفي بتقديم نفسه كأداة مقاومة للأمراض، بل تمتد الآمال لتطويره؛ ليصبح قادرًا على معالجة بعض الأمراض المعديّة (مثل الملاريا والإيدز) وغير المعديّة (مثل الأورام). فما الذي استجد، وكيف وصلنا إلى هذه المرحلة؟

\

إدوارد‭ ‬جينر‭ (‬1749‭-‬1823‭) ‬،‭  ‬قام‭ ‬بتلقيح‭ ‬جيمس‭ ‬فيبس‭ ‬البالغ‭ ‬من‭ ‬العمر‭ ‬8‭ ‬سنوات‭ ‬ضد‭ ‬جدري‭ ‬البقر،‭ ‬1796

(01  الجيل الأول: طول الأمد وانخفاض التكلفة

بدأت صناعة اللقاحات بالجيل الأول منها، وهي اللقاحات المكوّنة من الفيروس في صورته الضعيفة أو الميتة. إذ يجري عزل الفيروس في مزارع مخصّصة، ومن ثمَّ، إضعافه أو قتله بالحرارة أو المواد الكيميائيّة كي يخسر خواصه المعدية، ويُبقي على خواصه المحفزة للمناعة.

قدم هذا الجيل من اللقاحات خدمة كبيرة للبشرية بمساعدتها على القضاء على مرض الجدري، والمساهمة في حرب القضاء على مرض شلل الأطفال. ما يميز هذا الجيل من اللقاحات، هو أنه قادر على إنتاج مناعة طويلة الأمد، بالإضافة إلى سهولة إنتاجه، وانخفاض تكلفة الإنتاج، مقارنة بالأجيال اللاحقة من اللقاحات.

إلا أن عملية ابتكار وتطوير لقاح من هذا الجيل تقتضي خطوات معقدة، وقد تستغرق سنوات لضمان سلامته، إذ يكون من الضروري اختبار اللقاح على نطاق واسع جدًّا للتأكد من أن الفيروس المتضمن ضعيف بما يكفي ليكون آمناً، ولا يسبب العدوى. وهذا هو العيب الأكبر في الجيل الأول من اللقاحات، إذ من المستحيل استخدام منصّة الجيل الأول لابتكار لقاحات تساهم في مواجهة الأوبئة المستجدة، مثل إنفلونزا الخنازير؛ بسبب اشتراطات السلامة التي تستغرق وقتًا طويلًا. رغم ذلك، لا زلنا نستخدم بعض أنواع اللقاحات التي طُوِّرت عبر منصّة الجيل الأول حتى اليوم، ولا تزال تمثل الخيار الأفضل للوقاية من بعض الأمراض.

02  الجيل الثاني: ثورة طبية، ولكن!

تطور أدوات العلم وظهور تقنيات البيولوجيا الجزيئية ساعد على تجاوز عيوب الجيل الأول من اللقاحات، وظهر الجيل الثاني من اللقاحات ليقدم نفسه على أنه الحل لمشكلة السلامة التي يعاني منها الجيل الأول. ففي الجيل الثاني من اللقاحات يتم عزل مسببات العدوى في الفيروس واستبعادها، وذلك إما عن طريق تفكيك الفيروس، والحصول على الجزء المطلوب لإحداث المناعة واستخدامه، أو عن طريق استخدام التركيبة الكاملة للفيروس بعد إزالة المادة الوراثية منه، وهذا ما يجعله غير قادر على التكاثر ونقل العدوى.

وقد نجحت منصّة الجيل الثاني في تطوير لقاحات مثلت ثورة في الإنجازات الطبية، مثل لقاح فيروس الورم الحليمي. غير أن أكبر مشكلة عانى منها العلم في هذه المنصة كانت تعقيد عملية تطوير اللقاح التي تستغرق فترة طويلة نسبيًّا، إضافة إلى محدودية قدرتها وعجزها عن التعامل مع بعض أنواع الفيروسات العنيدة، ومنها الملاريا والإيدز.

03  الجيل الثالث: حلم يتحقق

كان الجيل الثالث من اللقاحات حلمًا علميًّا يُنظر إليه بوصفه أمل المستقبل، ولم تكن الأوساط العلمية والمتخصصة تتخيّل تطبيق هذا الجيل من اللقاحات ممكنًا على المدى القريب.

بدأت قصة الجيل الثالث من اللقاحات في عام 1989م، حين دخل العلم مرحلة مدهشة بعد أن نشر معهد سالك التابع لجامعة ساندييغو في كاليفورنيا بحثًا يوضح أنه من الممكن استخدام تقنيات النانو لإرسال جزيء (mRNA) المصمم في المختبر بالهندسة الحيوية إلى مناطق محددة من الجسم، مما يتنبأ بإمكانيات علاجية هائلة توفِّرها هذه التقنية الحيوية.

بعد ذلك بعام واحد، أي في عام 1990م، أعلنت جامعة ويسكونسن أنها اختبرت هذه الفرضية في الفئران، وحصلت على نتائج إيجابية تؤكد هذه الفكرة. عندها، انبهر المجتمع العلمي بهذه التقنية والإمكانيات النظرية التي تتيحها. غير أن أحدًا لم يكن يتصور أن التطبيق لهذه التقنية سوف يتحقق بعد 30 عامًا فقط. كانت شركات التقنية الحيوية الناشئة والقائمة على الأبحاث تسعى في سبيل إيجاد علاجات للأمراض المزمنة والأورام عبر هذه التقنية، إضافة إلى محاولات إيجاد لقاحات لبعض الفيروسات العنيدة والمستجدة.

إلى عام 2020م، أي حين ظهور الفيروس التاجي: كورونا المستجد، لم يُرخَّص أي لقاح من لقاحات الجيل الثالث للاستخدام البشري. لكن المعاناة التي شهدها العالم خلال الجائحة كانت سببًا في التسريع لنقل هذا الجيل من اللقاحات من خانة التجربة إلى خانة التطبيق.

حين نتحدث عن الجيل الثالث من اللقاحات، فنحن نتحدث عن المستقبل الذي انقدحت شرارته الآن. حيث يقدم لنا العلم وعودًا بكثير من الإنجازات العلاجية والطبية التي يمكن لتقنيّات الجيل الثالث من اللقاحات تحقيقها.

بدءًا من إمكانية تطوير لقاحات في مدة زمنية قصيرة مقارنة بالأجيال السابقة، وصولًا إلى وعود بتوفير لقاحات علاجية لكثير من الأمراض؛ يجري تطوير هذا الجيل من اللقاحات في المختبر، ومن دون الحاجة إلى الفيروس، إذ يجري تطويره بالاعتماد فقط على معلومات التسلسل الجيني للفيروس المراد مواجهته.

بعد ذلك، يجري تطعيم الجسم بهذه المادة عبر نواقل مصممة بشكل خاص لتوصيل المادة، وهي، نواقل تعتمد على تقنية النانو غالبًا، فيتمكّن الجسم من قراءة المادة الوراثية وإنتاج الأجسام المضادة لكونه يواجه جسمًا غريبًا.

وصول‭ ‬أول‭ ‬لقاح‭ ‬ضد‭ ‬شلل‭ ‬الأطفال‭ ‬في‭ ‬سانت‭ ‬لويس‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1955

ومن أجل هذه الميزة، أي السرعة في تطوير اللقاح وابتكاره، كانت هذه المنصة هي أول ما تمّ التوجه إليه حين التفكير في تطوير لقاح لفيروس كورونا المستجد. هذا بالفعل ما كان يتنبأ به العلم منذ ما يقارب العقدين من الزمن، إذ نشر جيفري آلمير وآخرون مقالًا علميًّا في مجلة نيتشر في عام 2006م، وهو المقال الذي لاقى صدى في الأوساط المتخصّصة كونه يتنبأ بظهور هذا الجيل من اللقاحات كحلٍّ لمواجهة الأوبئة العالمية.

وقد ساعد ظهور الفيروس على الدفع تجاه تطبيق تقنيّات الجيل الثالث من اللقاحات بشكل عاجل لمواجهة الأزمة. هكذا كان ظهور فيروس كورونا وجائحة كوفيد- 19، نقلةً نوعيةً في عالم صناعة اللقاحات، بل في الابتكارات الطبيّة عمومًا.

وبذلك، انتقلت تقنيات الوقاية واللقاحات باستخدام الحمض النووي من مرحلة الخيال العلمي إلى مرحلة الواقع الذي جرى تطبيقه، ويمكن تطويره.

إعجاب ومخاوف

ما نعيشه اليوم، هو مرحلة انتقالية، سوف تسبب تطورًا هائلًا في الأدوات العلاجية والوقائية التي يمتلكها العلم لمواجهة الأمراض والأوبئة. حين بدأت هذه الجائحة، كانت سرعة انتشار الوباء ومداه الجغرافي غير المسبوقين، إضافة إلى الجهود والأموال الطائلة التي بُذلت في سبيل التصدي له، سببًا لضخ كثير من الأموال عالميًّا للاستثمار في مجال صناعة الأدوية البيولوجية واللقاحات. وهكذا انتعشت شركات التقنية الحيوية الناشئة، وحصلت على كثير من الدعم الحكومي وغير الحكومي، كما حدث لشركة موديرنا في ماساتشوستس التي حصلت على دعم يقدر بمليارين ونصف المليار دولار من مؤسسة المعاهد الوطنية للصحة في الولايات المتحدة، وهو الدعم الحكومي الأكبر للبحوث الطبيّة.

كما اتجهت كبريات شركات الأدوية إلى عقد اتفاقيات مع شركات التقنيّة الحيوية الناشئة من أجل ضمان الحصول على حصة في سوق اللقاحات الذي كان من الواضح أنه سوف ينمو بشكل هائل وغير مسبوق.

كانت اتفاقية شركة الأدوية الأمريكية العملاقة فايزر وشركة التقنية الحيوية الناشئة بيونتيك الألمانية، هي الأشهر على الإطلاق، إذ نتج منها أول لقاح من لقاحات الجيل الثالث يجري اعتماده للاستخدام البشري في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو كذلك أول لقاح معتمد لفيروس كورونا المستجد.

وبطبيعة الحال، لا يمكن أن تظهر الحلول كاملة بغير نقص. وقد تمثَّل أكبر العيوب التي نعرفها عن هذا الجيل من اللقاحات في أنها لقاحات متعددة الجرعة، أي إن هناك حاجة إلى استخدام جرعتين قبل الوصول إلى المناعة المطلوبة، وهذا ما يضعنا أمام مخاوف من مشكلات الإمداد والتوزيع عالميًّا. إضافة إلى التزام الأشخاص بتلقِّي الجرعة الثانية، وعدم التهاون في ذلك، مما يبطل الجهود العالميّة لمواجهة الوباء.

ويظل الإعجاب مشتعلًا بالتقدم العلمي الذي أحرزته البشرية اليوم بالتمكُّن من تطوير لقاح فعّال خلال سنة واحدة، إذ لم يكن قبل اليوم من الممكن تطوير اللقاح في أقل من عدة سنوات.

\

لاجئون من الأمريكيين من أصل أفريقي تم تلقيحهم ضد التيفوئيد في معسكر لويزيانا بالقرب من فيكسبيرغ كان كثيرون قد انضموا إلى “الهجرة الكبرى” إلى المدن الشمالية.

Share This