اللقاحات‭:‬‭ ‬قصة‭ ‬حرب‭ ‬العلماء‭ ‬على‭ ‬الأوبئة

تطعيم‭ ‬فقراء‭ ‬مدينة‭ ‬نيويورك‭ ‬ضد‭ ‬الجدري‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1872

حمدان‭ ‬العجمي‭ – ‬اختصاصي‭ ‬صيدلة‭ ‬صناعية –  – 29 مارس 2021م

الصينيون ومحاولة التطعيم الأولى

ذكر العالم جوزيف نيدام Joseph Needham المتخصص في تاريخ العلوم، في كتابه المعروف (العلم والحضارة في الصين)، أن الصينيين هم أول من استخدم التطعيم، وأن الرسومات الصينية تشرح كيف كانت تؤخذ عينات من القيح الخارجي لبثور المرضى المصابين بالجدري، وتُعطى للأطفال حتى يصابوا بالمرض، ما يجعلهم يكتسبون مناعة منه طوال العمر.

وأشار نيدام إلى أن المريض يظل يشعر بأعراض طفيفة مدة أسبوعين، وبعد ذلك لا يصاب بالمرض مرة أخرى.

ويُرجع بعض المؤرخين هذه الممارسة إلى سنة 200 قبل الميلاد، واستمرت هذه الطريقة في التطعيم موجودة في الصين وحدها، ثم انتقلت منها إلى الهند، ثم إلى الشرق الأوسط، حتى شاعت، خصوصًا في تركيا.

اللقاح العثماني وقصة الليدي ماري مونتاغيو

كانت الليدي ماري مونتاغيو Lady Mary Wortley Montagu زوجة للسفير البريطاني في إسطنبول، كما كانت كاتبة وشاعرة. ويذكرها التاريخ لسببين: أشعارها، وقصة نقلها آلية التطعيم ضد الجدري إلى الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس في عام 1720م.

جربت ماري اللقاح على ابنها إدوارد في الآستانة (إسطنبول)، وبذلك أصبح إدوارد أول مواطن غربي يتلقى اللقاح، وانتشرت هذه الممارسة بعد ذلك في الغرب.

أبو علم المناعة

على الرغم من نجاح الطريقة الصينية في التطعيم، إلا أن نسبة من المرضى ظلت تعاني أعراضاً شديدة؛ وهذا ما جعل الطريقة الصينية تحتاج إلى تطوير.

عندما توفيت الليدي ماري في إنجلترا عام 1762م كان إدوارد جينر Edward Jenner، الملقب بـ (أبي علم المناعة) في الثالثة عشرة من عمره، وقد أصبح فيما بعد طبيبًا معروفًا.

علم جينر أن سارة نيلمس، التي كانت تعمل حلابة للبقر، قد أصيبت سابقًا بمرض جدري الأبقار، بأعراض خفيفة، ولم تُصب بمرض الجدري الذي يصيب الإنسان، فاستنتج أنه بالإمكان أخذ عينات من البقرة المصابة، وتلقيح البشر بها.

كان لهذا الاكتشاف أثر كبير في إنقاذ حياة الملايين من البشر، وقد جرى تطعيم 100 ألف شخص بهذه الطريقة في عام 1801م، وصُنع اللقاح بشكل صناعي في إيطاليا عن طريق الأبقار في عام 1810م.

سُنّ قانون التطعيم الإجباري للمواليد الجدد ضد الجدري في بريطانيا في عام 1850م، وكان السجن عقوبة الوالدين الذين لا يُطَعِّمُون أبناءهم، وقد أعلنت منظمة الصحة العالمية في عام 1980م استئصال مرض الجدري من العالم، وإسدال الستار عليه.

أول معمل للقاحات

لم يكن مفهوم إنتاج اللقاح في المعمل ممكنًا قبل أن يأتي العالم الفرنسي لويس باستور Louis Pasteur، الذي أطلق ثورة في علم المناعة واللقاحات عبر اكتشاف جاء مصادفة، حين قام بإضعاف بكتيريا بالخطأ، وحقنها في دجاج، ليكتشف فيما بعد أن الدجاج كوّن مناعةً ضد هذه البكتيريا المُضَعَّفَة.

واصل باستور البحث، واستطاع خلال فترة وجيزة إطلاق ثورة، وتسجيل براءات اختراع للقاحات تعمل بشكل ممتاز ضد الجمرة الخبيثة، وداء الكلب.

وفتح باستور المجال للعلماء لإيجاد لقاحات مختلفة لأمراض كثيرة، بتوظيف مبدأ البكتيريا المضعفة بالمعمل، ومنهم العالم الإسباني خايمي فيران Jaime Ferran الذي اكتشف تطعيم الكوليرا، والطاعون، وداء الكلب، والتيفوس.

اللقاحات عبر السموم المضعفة

كان إميل فون بيرنج Emil von Behring أول حائز على جائزة نوبل في الطب على الإطلاق؛ وذلك بسبب تقديمه مبدأ جديداً في التطعيم، هو حقن المصابين بالسموم المُضَعَّفَة التي تنتجها البكتيريا، والتي نجحت في إعطاء مناعة ضد مرض الدفتريا.

وتواصل النجاح إلى أبعد من ذلك باكتشاف العلاج بالأمصال، أو ما يُطلق عليه الآن الأجسام المضادة عبر أخذها من الحيوانات التي لديها مناعة، وحقنها في الحيوانات التي لا تمتلكها.

اللقاحات ضد الفيروسات

على الرغم من تطور المجاهر في بداية القرن العشرين، إلا أن بعض الأمراض ظلّ مستعصيًا على الفهم، كالإنفلونزا التي كان العلماء متأكدين بأن أجساماً أصغر من البكتريا تسببها.

لم يستطع العلماء عزل هذه الأجسام حتى الخمسينيات، حين استطاعوا رؤيتها عبر المجهر الإلكتروني. وبعد عزلها، ومعرفة ماهيتها، أصبح الطريق ممهدًا لاصطناع لقاحات للأمراض الفيروسية، كالإنفلونزا وشلل الأطفال.

مثّل ذلك فتحًا علميًّا، وحصل كل عالم شارك في هذا الفتح على نصيبه من جوائز نوبل في الطب، وساهم هذا في اكتشاف لقاحات جديدة، ومن تلك: اللقاحات ضد التهاب الكبد الوبائي (أ)، والتهاب الكبد الوبائي (ب)، والسعال الديكي، والحصبة، وفيروس عنق الرحم.

Share This