‭ ‬أ‭. ‬د‭ ‬خالد‭ ‬قطب‭ – ‬أستاذ‭ ‬فلسفة‭ ‬العلوم‭ – ‬جامعة‭ ‬قطر- 29 مارس 2021م

جائحة كوفيد-19

وغياب‭ ‬المسؤولية‭ ‬الأخلاقية

قد يرى بعضنا أنه حديث في غير موضعه. بل ربما يتعرض المتحدث به إلى سخرية وتهكم القارئ أو المستمع، خصوصًا أن الحديث عن المسؤولية الأخلاقية القيمية والدعوة إلى مبادئ ومعايير أخلاقية جديدة – في وقت يهتمّ العالم كله بالتعرُّف إلى طرائق نقل العدوى، ووسائل الوقاية من فيروس كورونا المستجد، والقلق من الزيادة المتسارعة في عدد الإصابات والوفيات اليومية التي تُقدر بالملايين، والانشغال بالسلالات الجديدة المتحوّرة التي تظهر في صور أكثر غموضًا وشراسة وفتكًا بالبشر، وحضور نظرية المؤامرة بقوة في خطاب بعض وسائل الإعلام، وهو الخطاب الذي يزعم أن فيروس كورونا المستجد قد صُنّع من لدن هيئات ومنظمات تنتمي إلى دولة أو أخرى للإخلال بالنظام الاقتصادي للعالم، أو للتحكم في البشر إلكترونيًا، حاولت بعض وسائل الإعلام إثارة الرعب والفزع في نفوس المشاهدين والمستمعين والمتابعين لوسائل التواصل الاجتماعي من إمكانية تصنيع بعض الجماعات الإرهابية لفيروسات تكون أكثر فاعلية مقارنة بالطرائق التقليديّة التي تتبعها هذه الجماعات في الوقت الحاضر، خصوصًا عندما أدرك العالم كله الآثار الخطيرة التي نجمت عن هذه الجائحة على السياسة والاقتصاد والأمن.

يؤكد هذا الخطاب أن تصنيع الفيروسات أصبح أمرًا ممكنًا خصوصًا بعد ما أتاحت تقنيّات الهندسة الوراثيّة وتكنولوجيا النانو تغيير الحمض النووي (DNA) للكائنات الحيّة عن طريق تغيير كل وظائف الجينات أو بعضها؛ لتعزز قدرتها على البقاء مدة طويلة من الزمن، الأمر الذي يؤدّي إلى احتمالية صناعة هذه الجماعات أسلحة بيولوجية.

أقول: إن مثل هذا الحديث يفتقر لدى بعض الناس إلى المنطق والعقلانية. فهل من المنطق قبول خطاب يتحدث عن الأزمة الوجوديّة والأخلاقيّة للإنسان في زمن جائحة كوفيد- 19! أو يطرح تساؤلات ميتافيزيقية عن المصير والموت والنهاية والأبديّة في ظلّ حالة الحزن من فقد الأحبة والأصدقاء! أو أن يطالب بعض الفلاسفة والمفكرين والمثقفين بإعادة النظر في الأسس النظريّة المعرفيّة لأخلاق الرعاية الصحيّة التي يمارسها مقدمو هذه الخدمة، من الأطباء وهيئات التمريض والمشافي، نتيجة الانتهاكات الصريحة لهذه الأسس جراء الجائحة! أو هل يمكن التساؤل عن حالة القلق على مصير المنظومات القيميّة التي يعتقدها الناس ويمارسونها في حياتهم اليومية، والتي تأثرت كثيرًا جراء هذا الفيروس التاجي؛ في الوقت الذي تسعى فيه الدول والمنظمات الصحية العالمية إلى الاهتداء إلى لقاح ينقذ البشرية، ويعيد الحياة إلى طبيعتها قبل انتشار هذا الفيروس!

كشف انتشار فيروس كورنا غياب قيمة المسؤوليّة الأخلاقيّة في كثير من القطاعات الخدميّة على مستوى العالم في أثناء الجائحة، على الرغم من أن المواثيق الأخلاقيّة العالميّة تؤكد قيم المساواة والعدالة وعدم التمييز بين الناس على أساس العرق أو اللون عند تلقيهم خدمة ما، غير أن الجائحة أظهرت انتهاكًا صريحًا لهذه القيم. فقد أظهرت الجائحة عدة مستويات من عدم المساواة، منها، على سبيل المثال، وضع بعض الدول الرأسمالية سياسات ماليّة توسّع الفجوة بين الأغنياء والفقراء من خلال جني الحكومات ضرائب من العاملين أصحاب الطبقات الوسطى، أو تخفيض رواتبهم، أو إعادة التعاقد مع الموظفين والمهنيين والعمال بشروط جديدة تحملّهم أعباءً فوق أعبائهم. إضافة إلى تخلي كثير من الشركات والمؤسسات عن موظفيها وعمالها، أو إبقائهم دون مظلة تأمينية طبية مناسبة.

لا سبيل إلى إنكار أن أزمة فيروس كورونا قد كشفت عدم جاهزيّة بعض الأنظمة الاقتصاديّة والسياسيّة والصحيّة والتعليميّة، في كثير من دول العالم، لمواجهة هذه الأزمة بنجاح، ورغم ذلك، وجدنا بعض الأنظمة السياسيّة تتغطرس وتتمادى في غطرستها إلى أبعد الحدود دون أن تعترف بعجزها عن إدارة الأزمة التي تسبب في تفاقمها انتشار فيروس كورونا، الأمر الذي نتج عنه عدد كبير من الوفيات والإصابات تُقدَّر بملايين الناس على مستوى العالم، وهذا الذي دفع عددًا من الفلاسفة والسياسيين وعلماء الاجتماع والنفس والاقتصاديين إلى التفاعل مع هذا الأزمة التي خلفتها الجائحة، فطرحوا أفكارًا حول الحرية والعولمة والرأسمالية والنظام الكوني الجديد، والحياة، والعنصرية، وأعادوا النظر في العديد من القيم الأخلاقية، وطرحوا مفاهيم جديدة تتناسب مع الآثار التي تركتها الجائحة في العالم، كمفهوم التقدم والعلاقة بين الهامش والمركز في قضية العولمة، إضافة إلى إعادة النظر في مفهوم الوجود البشري نفسه.

ولا ينكر إلا مكابر أن التحديات التي واجهت القيم الأخلاقيّة جراء جائحة كوفيد- 19، خصوصًا في مجال الرعاية الصحية، كثيرة ومتنوعة، منها، على سبيل المثال، الإجراءات المتبعة لإنتاج اللقاحات المضادة للفيروس، وتجنيد العديد من الفقراء في بعض الدول للمشاركة في التجارب السريرية لاختبار فاعلية اللقاح تمهيدًا لإقراره أو تعديله أو رفضه نظير مبالغ زهيدة من المال (استغلت بعض الشركات المنتجة للقاح المضاد لفيروس كورونا فقراء بعض الدول المنخفضة والمتوسطة الدخل لإجراء التجارب السريرية ضاربة بعرض الحائط المعايير الأخلاقية التي يجب مراعاتها في أثناء إجراء التجارب، ومستغلة غياب نظام تشريعي يتعلق بهذا النوع من التجارب في هذه الدول)؛ إضافة إلى حالات نقص الأدوات والمعدات والإمدادات والمستلزمات الطبيّة في دور الرعاية الصحيّة نتيجة عدم استجابة حكومات بعض الدول لمطالب المؤسسات الطبية بضرورة توفير التمويل اللازم لسد هذا النقص.

لم تقتصر التحدّيات التي تواجه القيم الأخلاقية على مجال الرعاية الصحية فحسب، بل امتدت هذه التحدّيات إلى مجال التكنولوجيا، وخاصة تطبيقات الهواتف الذكية التي تم استحداثها نتيجة انتشار فيروس كورونا والحدّ من انتشاره في المجتمعات، إذ جرى ابتكار وسائل تسمح بتتبُّع تحركات الأفراد في أثناء انتشار الجائحة وإجراءات الحظر والحجر الأمر الذي انتهك قيمة الخصوصيّة الفرديّة.

ولا يمكن أن نتغافل عن تراجع قيم اجتماعية كثيرة نتيجة رفع شعار التباعد الاجتماعي وفرض عقوبات على المخالفين لهذا التباعد تصل في بعض الأحيان إلى الغرامة والحبس، فسادت حالة من الفتور العاطفي والتباعد بين الأفراد، وهو ما تسبب في مشكلات اجتماعية ونفسية متعددة؛ ناهيك عن غياب قيمة الشفافية في إعلان بعض الدول عن الأعداد الحقيقية المصابة والمتوفاة جراء الجائحة، فغابت الثقة في الإجراءات التي تتخذها بعض حكومات الدول.

أزمة كورونا.. أزمة معرفيّة

عندما يفتقر الإنسان إلى قدرة التحكم في مجريات الأحداث وفقًا للآليات والأدوات والمناهج السائدة في لحظة زمنية ما، فإن هذا الافتقار من شأنه أن يولّد أزمة. أو بعبارة أخرى: ينشأ الشعور الواعي بالأزمة عندما يدرك الإنسان أن ثمة خللًا ما قد حدث داخل نظام سائد، فيؤدّي هذا الخلل إلى نتائج تؤثر في مصير أفراد أو مجتمعات أو دول، أو حتى حضارات.

وتحمل الأزمة حالة من عدم اليقين نتيجة الشعور باختلال التوازن ورغبة العقل البشري في تجاوز الواقع المأزوم والتطلع إلى مستقبل خال من آثار الأزمة وعواقبها. إضافة إلى أن الأزمة تعمل على تقسيم المجتمعات إلى فرق وجماعات متناقضة، ويظهر هذا التناقض جليًّا عندما يجري تشخيص الأزمة والوقوف على أسبابها واقتراح الحلول التي من شأنها أن تتجاوزها وتزيل آثارها وتداعياتها. وتنشأ أي أزمة نتيجة النقص المعرفي أو الفجوة المعرفية التي تفصلنا – نحن البشر – عن الأسباب التي أدت إلى اختلال التوازن وافتقاد القدرة على حل المشكلات بالمنهجية السائدة وفقًا للنظام المعرفي الذي يحرك هذه المنهجية وينتج عنه حدوث الأزمة وتفاقمها. إذ من شأن هذا النقص المعرفي أن يولّد اضطرابًا في الفكر وعجزًا عن الفهم. ومرجع هذا العجز، هو محاولة الإنسان الواعي بالأزمة الوصول إلى حلول وفقًا لمنهجيّة تقليديّة أثبت الواقع خطأها، وهذا الذي يُعمّق الفجوة المعرفية ويُؤذن بسيادة العشوائيّة في التفكير واتخاذ القرار. وتتطلب أي أزمة حلولًا مبتكرة ومرنة وسريعة، بشرط أن ينظر مبتكرو الحلول بعين الاعتبار، إلى تداخل السياقات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والأخلاقية. وهكذا يمثل انتشار فيروس كورونا أزمة بهذا المعنى السابق، لوجود نقص معرفي مؤقت لدى مجتمع العلماء يحول دون وقوفهم على طبيعة هذا الفيروس والأسباب التي أدت إلى انتشاره بهذه السرعة وتحوُّره إلى أشكال وسلالات مختلفة، بهدف تقديم اللقاحات المناسبة لتجنُّب الإصابة به في المستقبل. غير أن كل أزمة لها جانبها الإيجابي، وأعني بالجانب الإيجابي، أن الأزمة التي تسبب فيها انتشار الفيروس (حتى كتابة هذه السطور) أعادت النظر في مفهوم الإنسان وعلاقته بالآخر المختلف في اللون والجنس والعرق والثروة، وأيضًا علاقة الإنسان بالبيئة الطبيعيّة المحيطة به بما تشمله من ظواهر طبيعيّة وكائنات حيّة وفيروسات، بل أدت الأزمة الناتجة من الجائحة إلى إعادة النظر في مفهوم الحياة والموت، إضافة إلى طرحها سؤالًا عن الكيفية التي من خلالها يمكن خلق طريق النجاة للبشرية قاطبة، وهو الدور الذي يمكن أن تضطلع القيام به الفلسفة الخلقية إلى جانب العلم للخروج من الأزمة، بعدما تسبب فيروس كورونا – الذي لا يملك تاريخًا يمكن القياس عليه عند وضع طرائق العلاج – في حيرة الإنسان الذي تساقطت أمامه اليقينيات. إذن، تزداد الأزمة التي نعيشها حدّة عندما يسود عدم اليقين وتكثر التكهنات والتفسيرات غير المعقولة أو الزائفة، والتي سرعان ما تفقد صلاحيتها، أو قل عمرها الافتراضي، لهشاشة الفكرة التي انطلقت منها، والتغيُّر المتسارع للمعطيات التي يمكن الركون إليها في عمليات الفهم والتفسير والتنبؤ. وهكذا، عكست التساؤلات المثارة من قبل المجتمعات العلمية والفضاء العمومي حالة عدم اليقين التي أصابت الدول والمجتمعات جراء الخشية من استمرار هذه الحالة التي عليها العالم، والتي على إثرها يمكن أن نفقد الحياة نتيجة الخوف من مغامرة الخروج من المنازل؛ هذا الخوف الذي جعل حدائق العالم ومتنزهاته وشواطئه وساحاته العامة وشوارعه الشهيرة، ومدارسه وجامعاته ومعاهده خالية بصورة أذهلتنا جميعًا. لقد طُلب من نصف سكان العالم البقاء في المنازل وعدم ارتياد الأماكن التي اعتادوا ارتيادها؛ فتغيرت طريقة تفكيرنا وسلوكنا، وتلاشى كثير من عاداتنا وروتيننا اليومي، وأصبحت مفاهيم كالتكيف وإعادة صياغة الأهداف والمقاصد موضع اهتمام المفكرين والفلاسفة والسياسيين وعلماء الاجتماع وغيرهم. وطرح كثير من الباحثين تساؤلات مستقبلية تتعلق بنظرتنا إلى العالم وإلى قيم الحرية والعدالة وأخلاق الرعاية والحقوق والواجبات ومصير الفئات الأكثر احتياجًا في هذا العالم؛ كالأقليات العرقيّة وكبار السن والمعوَّقين والأطفال والفقراء، إضافة إلى تغيُّر مفاهيم الصحة والمرض وتقويض مفاهيم الثبات والحتمية والضرورة.

فيروس كورونا والمسؤولية الأخلاقية

شكّل انتشار فيروس كورونا تحدّياتٍ غيرَ مسبوقةٍ للدول وحكوماتها ولسكان العالم كافة، غير أن قطاع الرعاية الصحية يظل هو القطاع الذي تحمّل العبء الأكبر نتيجة النقص في معدات الرعاية الصحية والإمدادات الطبية، وخصوصًا تلك المستخدمة مع الحالات الحرجة، مثل نقص أجهزة التنفس الصناعي التي يحتاج إليها أولئك الذين يعانون من أسوأ آثار الوباء. وهكذا، واجه هذا القطاع تحدّياتٍ كثيرةً لعل أبرزها تلك التحدّيات الأخلاقية، حيث أُثيرت إشكاليات أخلاقية، مثل أخلاق الرعاية والمساواة والعدالة وغيرها كثير. فعلى سبيل المثال أُثيرت مشكلة أخلاقية في إيطاليا عندما تم العناية بصغار السن كونهم – في زعم المؤسسة الطبيّة الرسميّة – أكثر عرضة للبقاء على قيد الحياة. لقد تم إهمال علاج كبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة بحجة أنهم يمثلون حالاتٍ ميؤوسًا من شفائها. وأيضًا حرمان بعض دور الرعاية الصحية في الولايات المتحدة الأمريكية تقديم العناية الطبية المناسبة للأمريكيين السود.

تعكس هذه الممارسة وجود أزمة متغلغلة في المجتمع الأمريكي، منذ زمن طويل، أعني العنصرية التي كشفت جائحة كوفيد- 19 عن ممارستها داخل مجال الرعاية الصحية الأمريكية. وهي الممارسات التي تُذكِّرنا بالتصرفات المنافية للأخلاق والمبادئ والأعراف التي حدثت في عام 1932م، وعُرفت بتجارب توسكيجي السريرية؛ تلك التجارب المتعلقة بمرض الزهري، والتي أجراها بعض الأطباء في خدمة الصحة العامة الأمريكية على مجموعة من الفقراء والأميين الذكور من الأمريكيين السود الذين كانوا يعملون في مجال الزراعة، وهي التجارب التي استمرت أربعين عامًا (من 1932 إلى 1972م) في ولاية ألاباما الأمريكية التي كان معظم قاطنيها من الأمريكيين السود. كان مرض الزهري أكثر انتشارًا في مجتمعات السود مقارنة بالمجتمعات التي يقطنها البيض، الأمر الذي جعل الأطباء يستغلون هؤلاء السود لإجراء تجارب لملاحظة التطور الطبيعي لمرض الزهري دون تقديم العلاج لهم، وحجب المعلومات عنهم. فمعظم الأفراد الذين اشتركوا في دراسة، أو تجربة توسكيجي لمرض الزهري، لم يتم تنويرهم بحقيقة المرض، أو عملية التشخيص، بل أخبرهم الأطباء أنهم يعانون فقط من مشكلة ما في الدم، وأنهم سيتلقون العلاج مجانًا، ودفع تأمين لأسرهم في حالة موتهم مقابل المشاركة في التجارب، فتم نقلهم إلى العيادات وتوفير الوجبات الساخنة المجانية لهم، حيث تم تجريب البنسلين كعلاج لمرض الزهري وملاحظة تأثير هذا الدواء على هؤلاء المرضى، الأمر الذي أدى إلى موت العديد منهم دون علم المجتمع، حتى تم تسريب خبر هذا التجارب للصحافة عام 1972م.

يمثل استغلال الأطباء لهؤلاء السود من سكان توسكيجي، الذين لم يتحملوا تكاليف الرعاية الصحية نتيجة فقرهم، مظهرًا من مظاهر العنصرية، وما زال هؤلاء السود، هم ضحية جائحة كوفيد- 19؛ حيث يعكس عدد الموتى والإصابات في الولايات المتحدة الأمريكية بين هؤلاء شكلًا آخر من أشكال عدم المساواة أو الظلم المبرر من قبل العلم الزائف؛ أعني تأكيد الاختلافات البيولوجية والعقلية والجسدية والمعرفية بين الأمريكيين البيض ونظرائهم من السود. فقد ادَّعى بعض العلماء أن ثمة اختلافاتٍ واضحةً بين القدرات العقلية والمعرفية للناس على اختلاف أجناسهم وأعراقهم، والمثال الأبرز في هذا الصدد، هو كتاب: منحنى الجرس: الذكاء وبنية الطبقة في الحياة الأمريكية، لريتشارد هيرنشتاين وتشارلز موراي. يزعم مؤلفا الكتاب أن معظم الفروق بين السود والبيض في اختبارات معامل الذكاء ترجع إلى أسباب وراثية، ولا يوجد أي برنامج تربوي يمكنه أن يغير الوضع الاجتماعي للسود والبيض، ومن الأفضل للسود أن يتعلموا أداء الأعمال التي يغلب عليها الطابع الميكانيكي، حيث إن جيناتهم مهيئة لأداء مثل هذه الأعمال.

لا شك في أن مثل هذه الأبحاث تكون ممولة لأغراض سياسية أيديولوجية تحمل نتائج جاهزة، وهي أن مُعامل الذكاء للأفراد المتحدرين من عرق أسود أقل مقارنة بالأفراد المتحدرين من العرق الأبيض، وهذا ما جعل بعض الحكومات الأمريكية لا تتعامل مع الأمريكي الأسود كما تتعامل مع الأمريكي الأبيض، ويبدو هذا واضحًا في أن أكثر العاملين في الخطوط الأمامية في الرعاية الصحية، هم من الأمريكيين السود، الأمر الذي جعلهم عرضة أكثر من غيرهم للإصابة بفيروس كورونا المستجد. ولكن، يبرر بعض العلماء والمفكرين – ويا للأسف – الزعم القائل بأن السبب وراء زيادة عدد الوفيات بين الأمريكيين السود جراء الإصابة بفيروس كورونا، هو التركيبة الجينية غير المعروفة التي تجعل هؤلاء عرضة أكثر من غيرهم لهذه الإصابة، دون أن يلتفت الزاعمون إلى أن هذه الأعداد المتزايدة من الوفيات راجعة إلى غياب قيمة المساواة في المجتمع الأمريكي نتيجة العنصرية المتغلغلة في بعض المناطق والعقول في الولايات المتحدة الأمريكية؛ ولهذا سارع بعض المؤسسات الحقوقية إلى التشديد على قيمة المسؤولية الأخلاقية في قطاع الرعاية الصحية، هذه القيمة التي تؤكد وجوب عدم التمييز بين المرضى أو من يحتاجون إلى مساعدة طبية على أساس بيولوجي أو ثقافي أو سياسي أو ديني. إذ إن الفكرة المحركة لهذه القيمة، هي أن الناس جميعا متساوون بغض النظر عن السن ولون البشرة والعرق والنوع والنفوذ والسلطة، ويجب أن يحظى الجميع بالفرصة المتساوية للاستفادة من كل الموارد والخدمات المقدمة في مجال الرعاية الصحية.

تشدد قيمة المسؤوليّة الأخلاقيّة على أخلاق العناية أو الرعاية التي تظهر بوضوح في أوقات الحروب والكوارث الطبيعية والأوبئة. ولا ننكر أن كثيرًا من مقدمي خدمة الرعاية الصحية على مستوى العالم قد بذلوا جهودًا عظيمة – ولا يزالون – في أثناء أزمة الجائحة لتعزيز هذه القيمة عندما ابتكروا وسائل جديدة غير تقليدية بموارد محدودة لتقديم خدماتهم (كتقديم الرعاية الصحية في صورة استشارات ووصفات طبية عن بعد عبر برامج الفيديو والهاتف). وقد حملت قيمة المسؤولية الأخلاقية معاني جديدة مع الجائحة، فعلى سبيل المثال أصبحت قيمة الكفاءة موضوع اهتمام مقدمي خدمة الرعاية الصحية لما لهذه القيمة من علاقة وثيقة باتخاذ القرار الأخلاقي، خاصة مع حالات الطوارئ التي يتوجب اتخاذ قرار فيها مستند إلى المعايير الأخلاقية. وكان لقيمة المسؤولية الأخلاقية حضورها الواضح في مجال الطب النفسي والصحة العقلية، خاصة بعد غلق العيادات العامة والخاصة، وما صاحب هذا الغلق من عدم تقديم الرعاية النفسية والعقلية اللازمة لمن يحتاج إليها. إضافة إلى حضور هذه القيمة عند التعامل مع حالات الغضب والقلق والاكتئاب والضغط والحزن والاضطرابات وانعدام الأمن التي يعاني منها كثير من الناس على مستوى العالم؛ نتيجة بقائهم في منازلهم فترات طويلة وصلت في بعض الدول إلى حظر تجوال كلي وإغلاق مداخل ومخارج مدن وقرى بأكملها.

الخلاصة

توجه قيمة المسؤولية الأخلاقية سلوك مقدمي الرعاية الصحية نحو الإجراءات الواجب اتباعها عند التعامل مع الحالات المصابة بفيروس كورونا المستجد، أو عند إجراء التجارب السريريّة لاختبار لقاح مضاد يقي الناس هذا الفيروس.

غير أن غياب هذه القيمة عن بعض قطاعات الرعاية الصحيّة، أثار قضايا خطيرة كالعنصريّة التي تصنف الشعوب والدول وفق قوالب نمطية محددة، وتستدعي شكلًا من أشكال العلم الزائف لتبرير تصنيف الشعوب وفقًا للون بشرتها ودرجة ذكائها. وقد بات من الضروري أن تتصدر المسؤولية الأخلاقية المشهد خاصة في ظل الانتهاكات التي حدثت، ولا تزال تحدث، في قطاع الرعاية الصحية. ولعل نقطة البداية الأهم، هي مساءلة مصدر الأفكار الذي يبث الجراثيم في المجتمعات لتطوير آليات تحقق أكبر قدر من الربح استغلالًا للنقص المعرفي أو الجهل عند بعض الأفراد.

لقد أصبح إرساء قيمة المسؤولية الأخلاقية، بوصفها جوهر الأخلاق، ذا أولوية في ظلّ انتشار فيروس كورونا، وأول شيء ينبغي أن تؤكده هذه القيمة، هو الحفاظ على حياة مقدمي خدمة الرعاية الصحية وأيضًا طالبي هذه الخدمة من الناس على حد سواء. فلا يمكن بأي حال من الأحوال، أن يتعرض مقدمو خدمة الرعاية الصحية لخطر الإصابة بفيروس كورونا أو لآثاره الجانبية الخطيرة، أو التعرض المباشر للمرض، ولهذا كان من الضروري خلق بيئة آمنة لهم ولمستقبلهم. بالمثل، تتطلب المسؤولية الأخلاقية عدم تعريض الأشخاص الذين يعانون من أمراض خطيرة أو كبار السن، أو ممن يعانون من إعاقات ذهنية، أو المضللين، أو من تمنعهم الحواجز اللغوية من فهم طبيعة إجراءات التجارب السريرية (تستخدم بعض الدول الأُمِّيين في إجراء مثل هذه التجارب)، أو الضغط على مجموعة عرقية ما أو ابتزاز اللاجئين إلى أراضي دولة ما لإجراء التجارب السريرية استغلالًا للظروف القاسية التي يعيشونها.

لقد كشفت الجائحة عن انتهاك قيمة الشفافية عند نقل المسؤولين لبعض المعلومات المتعلقة بفيروس كورونا المستجد وعدد المصابين والوفيات الفعلي، الأمر الذي يجعل التشديد على قيمة المسؤولية الأخلاقية أمرًا مهمًّا. باختصار، تعني المسؤولية الأخلاقية في مجال الرعاية الصحية تقدير مقدمي الخدمة لقيمة صحة الأفراد وتخفيف معاناتهم وآلامهم، والاهتمام بالعواقب التي قد تترتب نتيجة انتهاك هذه القيمة. إن أي انتهاك لقيمة المسؤولية الأخلاقية، راجع إلى عدم تقدير قيمة التعامل مع المرضي بطريقة عادلة، بمعنى عدم النظر إلى جميع المرضي بالقدر نفسه من الأهمية.

تقول القاعدة الأخلاقية الحاكمة للمسؤولية الأخلاقية في مجال الرعاية الصحية: إن على مقدمي خدمة الرعاية الصحيّة البحث عن أفضل النتائج لطالبي هذه الخدمة، ومنع الضرر عنهم بكل أشكاله، وعدم الانتقاص من قيمة حياة المرضى، لأن غاية المسؤولية الأخلاقية، هي المحافظة على حياة المرضى والتعامل معهم بعدالة، واحترام حق المريض في الحصول على الرعاية الصحية التي يحتاج إليها، وإعطاء الأولوية للالتزامات الأخلاقية عند اتخاذ القرارات أكثر من إعطاء الأولوية للالتزامات القانونية.  

Share This