النموذج المعياري المثير للإرباك
بول جاكسون – COSMOS – العدد 91
بول جاكسون بروفيسور في الفيزياء في جامعة آديلايد، يقوم بقياس اللبنات الأساسية للطبيعة في المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية باستخدام تجربة (Atlas)، ويقيس في اليابان في تجربة (Belle Ii) انحلال كوارك-ب.
نحن نجد أنفسنا على شفا ما يمكن وصفه في الفيزياء بنقطة انعطاف. فخلال أسابيع فقط تفصل بينهما، أعلنت تجربة (G-2) في مختبرات فيرميلاب (Fermilab) في الولايات المتحدة الأمريكية، وتجربة (Lhcb) في المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية (Cern)، في سويسرا، عن نتائج مرتقبة بلهفة، جعلت علماء فيزياء الجسيمات يشتعلون إثارةً وحماسًا.
تقوم التجربتان باختبار النموذج المعياري لفيزياء الجسيمات بطرائق مختلفة ولكنها متكاملة. وتشير النتائج إلى أنه حان الوقت لنربط أحزمة الأمان استعدادًا لرحلة وعرة فيما يمكن تسميته أتوستراد النموذج المعياري متزايد التعطّل.
بادئ ذي بدء، ما “النموذج المعياري”؟ من المثير للإرباك، أنه ليس نموذجًا، وليس معياريّاً، ولكنه في الحقيقة نظرية مثيرة: إنه مجموعة من القوانين الرياضية التي تصف عمل الكون، والتفاعلات الأساسية بين الجسيمات الأولية، والقوى التي تربطها على وجه الخصوص.
وعلى الرغم من روعة هذه النظرية، إلا أنها تفتقد إلى بعض الأجزاء – فهي لا تفسّر نفسها ومصمّمة نوعًا ما لغرض معين بحدِّ ذاته. إنها أشبه بالعبقري المثير للإحباط في المدرسة، الذي يجيب دائمًا الإجابات الصحيحة دون أن يشرح لماذا أو كيف توصل إليها. لقد صمد النموذج المعياري أمام وابل من التدقيق والتمحيص لعدة قرون، ومهما فعلنا – من مصادمة جسيمات، أو التحديق في الفضاء، أو العبث بالذرات – يبدو أنه ينجح، أو هل هو ينجح فعلاً؟
إنَّ الميونات التي تسبب كل هذه الجلبة ما هي إلا إلكترونات بدينة لعوب: فهي أضخم بنحو 200 مرة، وبعمر يصل إلى واحد من مليون جزء من الثانية. ومثل كل الجسيمات الأساسية، تتمتع الميونات بسمة “الدوران”: وهي سمة في ميكانيكا الكم، أشبه بما نفكر فيه عن الدوران بمعناه التقليدي. ومثل الإلكترونات أيضًا، تتمتع الميونات بشحنات كهربائية؛ وعندما تتحرك تولّد تيارًا، ومن ثَمَّ تولّد حقلاً مغناطيسيّاً. وعندما توضع في حقل مغناطيسي خارجي، تدور حركة الميونات البدارية (أي عندما يبدأ المحور بالميلان مثل خذروف دوّار يبدأ بالتباطؤ) بمعدل يمكننا حسابه وتوقّعه بدقة. تُعرَف هذه القيمة بالمعدل الجيرومغناطيسي (G) وكان مقدَّرًا في البداية أنه يكافئ 2 (بالوحدات المناسبة)، إلا أنَّ التذبذبات الكمية تسببت في اختلاف القيمة الحقيقية بنحو طفيف جدّاً – بتقدير 0.1% – من 2، وهذا ما منح “تجربة الميون (G-2) اسمها، ويُعرف هذا بالعزم المغناطيسي الشاذ للميون.


بول جاكسون
مع أنَّ الانحراف الثانوي مقبول، إلا أنّ الخطب الجلل حقّاً هو في اختبار مدى دلالة توافق النتائج التجريبية مع التوقعات النظرية. فقد تم التنبؤ بنتائج تجربة (Fermilab) لنحو 20 سنة. خلقت تجربة سميت (E821) – جرت بشكل أولي في مختبر بروكهافن الوطني في أبتون، نيويورك، بين عامي1997 – 2001م – اضطرابًا عندما أنتجت مقاييس للعزم المغناطيسي الشاذ للميون لم تتوافق مع النموذج المعياري. أثار هذا الأمر فضول المجتمع الفيزيائي، إلا أنه تعامل مع النتائج ببعض الريبة: من دون أي دعم، وبانقسام الفيزيائيين النظريين للوصول إلى أفضل طريقة لاحتساب القيمة المقدرة، لقد كان من الصعب كبح الحماس والإثارة.


وفي عام 2013م، جرت متابعة التجربة ونقلها إلى فيرميلاب في إلينويز، في رحلة استغرقت خمسة وثلاثين يومًا، ومسافة 5000 كيلومتر تحت ظروف استثنائية. حينها – بعد ثلاث سنوات أخرى من أخذ البيانات، وبعد أن تحقّق الفريق الدولي من كل جزئية من التجربة – تمَّ “الاستئناس” باستخدام قيمتين مختلفتين في ظرفين مختومين، فُتِحا في وقت واحد للتأكد من أنهما متماثلتين. كان هذا هو الرقم الواجب إدخاله في الحساب، وهذا ما أثمر عن نتائج خاطفة للأنفاس. توافقت نتائج فيرميلاب مع المقاييس السابقة، مع ارتياب أقل. استمرَّ الشذوذ وازدادت الدلالة حتى أصبح من غير المرجّح الاعتقاد بأن هذا مجرد ضرب من المصادفة.
وجرت مناقشات حامية في المجتمع الفيزيائي حول التنبؤات النظرية الدقيقة (وهي حسابات مربكة)، ولكنَّ فريقًا مؤلفًا من 100 فيزيائي في علم الجسيمات عمل على التقديرات الحالية لعدة سنوات، وكانت النتائج مثيرة حقّاً.

ولكن هناك المزيد! نشرت تجربة (Lhcb) في مصادم الهدرونات الكبير في (Cern) نتائج حديثة لم تتوافق مع النموذج المعياري، وقد اشتملت على الميونات أيضًا. يركز (Lhcb) على مصادمة البروتونات عالية الطاقة لدراسة تولُّد وانحلال الجسيمات التي تحتوي على كواركات الجمال (أو الكواركات القعرية). تندمج هذه الكواركات مع الكواركات الأخف التي تؤلف البروتونات والنيوترونات لتشكل الميزونات. وعندما يتلف ميزون يحتوي على كوارك-ب، من الممكن أن يلحق مجموعة مختلفة من سلاسل الانحلال المحتملة. وتنطوي طريقة نادرة على تحلل كوارك-ب إلى ميزون يحتوي على كوارك غريب وإما إلكترون وبوزيترون، وإما المكافئ من الميونات (انظر الشكل).
يتنبأ النموذج المعياري أنه في هذا التحلل النادر يجب أن تتولد الإلكترونات والميونات بشكل متكافئ في الغالب، والذي يمكن احتسابه بحسب النظرية بدقة عالية. ولكن تدلّ النتائج الحديثة أنه يبدو هناك ميونات أكثر من المتوقّع! حيث تناقضت المقاييس مع النموذج المعياري بدلالة 3.1 انحراف معياري، أو نحو 1 في 400 احتمال من كونه محض مصادفة.

يقترح هذا الأمر احتمالات مذهلة، فهل من الممكن اكتشاف قوة خامسة، أو جسيم أو جسيمات جديدة؟ بدأت تبدو احتمالية أن تكون هذه التجارب “مخطئة” بعيدة عن الواقع، ولا يزال المزيد من المقاييس الشاذة قيد الدراسة حاليّاً.
في مرحلة ما، يمكن أن يبدو النموذج المعياري أشبه بعلاقة تعلم أنها غير ناجحة، ولكنك تعمل على ترميمها والتمسّك بها على أيّ حال، لأنّ المضي قدُمًا يبدو مخيفًا ومثيرًا للألم نوعًا ما. ربما قد تلوح في الأفق مجموعة كاملة من الاكتشافات التي يمكن أن تثير حماس الموجة التالية من العلماء، لاستخدام التكنولوجيا والأفكار الجديدة لتصميم تجارب تكشف عن طريقة لإصلاح النموذج المعياري.