برنار سابلونيير: أسرار المُعمِّرين
ترجمة أ.د. محمد احمد طجو – أستاذ جامعي ومترجم، كلية اللغات والترجمة، جامعة الملك سعود
كان الديموغرافيون يحاولون، في بداية دراستهم المُعمِّرين، الإجابة عن السؤال المتعلّق بساعة موتنا: لماذا يموت بعض الناس في عمر 60 سنة؟ وبعضهم الآخر في عمر 80 سنة، وغيرهم في عمر 100 سنة؟ لماذا يزداد منذ نحو ثلاثين عامًا عدد التسعينيين والمُعمِّرين بسرعة كبيرة؟ لقد غيَّر البحثُ، والحالُ هذه، مجالَ الاستكشاف: لم يعد السؤال معرفة متى ولماذا نشيخ، وإنما لماذا نبقى على قيد الحياة فترةً أكثر فأكثر طولًا؟ وهكذا، يمثّل انخفاضُ الوفيات، ولاسيما بعد عمر 65 سنة، المَعْلَمَ الرئيسَ للزيادة في طول العمر.
مُعمِّرون بصحة جيدة
لفهم الأشخاص المُعمِّرين، دعونا ننظر في خصائصهم؛ هل يشير التباطؤ المفاجئ في معدل البقاء على قيد الحياة الذي يُلاحَظ ما بين 100 و105 سنوات من العمر إلى أنَّ سرعة التقدّم في السن تغيّرت فجأة؟ يمس انخفاض معدل الوفيات في الواقع الذين يتمتعون ببنية أكثر مقاومة، في حين أنَّ الناس الأكثر ضعفًا لا يعيشون 100 سنة.
ينتج من ذلك أنَّ عدد الأشخاص الأكثر مقاومة وقوة في مواجهة التقدّم في السن يزداد. ويعدّ المُعمِّرون مخلوقات مدهشة، وهذا الأمر يثير اهتمام علماء الشيخوخة؛ لأنَّ عددهم يزداد أكثر فأكثر، ويمكّنهم من دراسة ميزاتهم وخصائصهم.
يدور الكلام حاليًّا حول معدل الحياة النشطة، والتقدم الواعد في السن، وحتى الناجح للإشارة إلى مدى التفاؤل الذي تجري فيه دراسة هؤلاء المُعمِّرين دراسة جيدة.
والأمر الأكثر وضوحًا على ما يبدو لدى هؤلاء المُعمِّرين هو أنهم لا يعانون من معظم الأمراض المرتبطة بالعمر حتى عمر 90 سنة أو أكثر، ولا يعانون من أيِّ إعاقةٍ رئيسة.
وما يثير الدهشة، ويُشاع لدى معظم المُعمِّرين، هو على وجه التحديد صحتهم العامة الجيدة. فالدراسات التي أجراها توماس بيرلس (Thomas Perls) في هذا المجال جمعت خصائص 32 مُعمِّرا فائقًا من الولايات المتحدة بين عامي 1997 و2005م. كان عمر هؤلاء الأشخاص يراوح بين 110 و119 سنة، وكان 40٪ منهم مستقلًا أو معتمدًا بشكل ضئيل على غيره.
وقد عولج سبعة منهم فقط بأدوية ارتفاع ضغط الدم، وتماثل أربعة منهم للشفاء من مرض السرطان. كانت هذه العينة تتضمن مريضًا بالسكري ومصابًا بمرض باركنسون. وكان أربعة أشخاص قد أصيبوا بحادثة وعائية قبل إجراء الدراسة بأكثر من عشر سنوات، وكانت عواقبها قليلة. وكان 7 أشخاص يعيشون بشكلٍ مستقلٍّ ومن دون مساعدة يوميِّة، وكان 20 شخصًا يتلقون مساعدة منزليِّة، و5 يستفيدون من المساعدة الطبيِّة اليوميِّة.
المُعمِّرون: الناجون من الظروف الشديدة
يجنِّب الحظُّ المُعمِّرين معظم الأمراض التي تقلل من مدة البقاء على قيد الحياة بعد عمر 65 سنة: السرطان، وأمراض القلب والأوعية الدموية، والنزيف الدماغي أو مرض الزهايمر. وهم أقوياء في مواجهة التقدُّم في السن، ولا يظهرون علامات التبعية، ويحافظون في الوقت نفسه على نشاطهم البدني وتفاؤلهم الذي يتكيّف مع حياتهم اليومية. فمن هم هؤلاء الناجون من الظروف الشديدة؟ كيف نميزهم من أقاربهم وأصدقائهم الذين توفوا في عمر 80 أو 90 سنة الذي لا ينبغي أن يُستهانَ به؟
فحص الباحثون عن طريق تشريح الجثة ما يحدث في جسمهم. ولم يلاحظوا أيَّ علامة تدلّ على السرطان، وعلى تلفٍ كبيرٍ في الشرايين والأوعية الدموية، والضمور الدماغي. وبالمقابل، غالبًا ما تجلَّت مقاومة تقلبات الحياة بوجود ندوب على الأعضاء: تكلس القلب والرئة، والزوائد العظميّة وتخلخل العظام، أو أيضًا ضغط الفقرات الذي لا يضر بمركزهم وديناميتهم.
نجاح المُعمِّرين
لم تُثبِت أيُّ دراسة وجود وصفة مُعجزة أو نمط شكلي محدّد بين المُعمِّرين .فبعضهم كان ولا يزال رشيقًا مدى الحياة، وبعضهم بدينٌ قليلًا، وحافظ على امتلائه.
وكان آخرون يدخنون بانتظام أو لا يتبعون حميةً خاصة. فما الذي يميز التقدُّم الناجح في السن؟ يناقش هذا التعريف كثيرون من علماء الشيخوخة، ولا سيَّما في مواجهة ارتفاع معدل البقاء على قيد الحياة الذي يمسُّ عددًا كبيرًا من سكان الدول، بعد عمر 65 سنة. يجمع علماء الشيخوخة على زعم أنَّ نجاح طول العمر يمرّ عبر حياة مشرقة ومستقلّة، إذ يبقى الشخصُ المسنُّ الذي يصل إلى سنِّ 90 عامًا مستقلًا و متفائلًا، وراضيًا عن أنشطته، وإن كان مصابًا في كثير من الأحيان باضطرابات صحيَّة.
درس ياسويوكي غوندو (Gondo Yasuyauki)، وهو طبيب الشيخوخة في معهد طول العمر في طوكيو، هذه الخصائص لدى 305 مُعمِّرين في عام 2000م. ففي هذه الدراسة، يملك 20٪ من المُعمِّرين معيار التقدّم الناجح في السن، منهم 2٪ في حالة استثنائية؛ ولدى 55٪ منهم إعاقة جسديّة أو معرفيّة (اضطرابات المشي التي تحدّ من الاستقلال الذاتي أو اضطرابات الذاكرة)؛ ويجمع 25٪ منهم بين الإعاقة البدنيّة والاضطرابات المعرفيّة، ما يؤدي إلى اللجوء إلى طلب مساعدة الآخرين يوميًّا. ما الذي يحدث في المناطق الزرقاء التي جرت فيها ملاحظة عدد كبير من المُعمِّرين؟
المُعمِّرون في أوكيناوا
تابع فريق برادلي ويلكوكس (Bradley Willcox)، من جامعة هاواي، الحالة الصحية لنحو ألف مُعمِّر بعد أن عاش في جزيرة أوكيناوا في اليابان بين عامي 1975 و2015م ودرسها.
يتعلّق الأمر، إجمالًا، بأشخاص هِيف ومفرطي النشاط يستمرّون في تفضيل نظام غذائي تقليدي غني بالخضراوات، وفقير باللحوم والأطباق الصناعيّة. ويمارسون عادةً، فضلًا عن ذلك، تقييدًا للسعرات الحرارية فيتناولون طعامًا يقلّ عن حدّ الإشباع. ولديهم، في عمر 100 سنة، استقلال ذاتي في الأنشطة اليوميّة المماثلة لمتوسط أنشطة اليابانيين الذين يبلغ عمرهم 90 سنة.
وتبلغ نسبة المستقلين كليًّا لدى الرجال 25٪، ويبقى معدل البقاء على قيد الحياة مرتفعًا؛ فيصل إلى 105 سنوات، وهذا ما يشير إلى معدل وفيات يقلّ 20٪ عن متوسط السكان اليابانيين.
ويُظهرون كثيرًا من الأمراض المزمنة، مثل: الروماتيزم والزهايمر والسكري، ولكن تفشيها محدود مقارنة بالسكان اليابانيين في العمر نفسه.
ويظهرون فضلًا عن ذلك عددًا قليلًا جدًّا من أمراض القلب والأوعية الدمويّة. ويلاحظ لديهم عند التشريح عددٌ قليل جدّا من حالات تكلُّس الأوعية الدمويّة، وانخفاض ضئيل في كثافة العظام، وقلّة علامات الالتهاب .ويقلّ العمر البيولوجي لديهم جميعًا نحو عشر سنوات عن عمرهم الزمني.
المُعمِّرون في نوورو
يتعلّق الأمر بمنطقة في سردينيا جرى تعيينها في عام 2004م منطقة زرقاء، إذ يلاحظ ارتفاع نسبة المُعمِّرين. وتقع في شرق سردينيا، وهي منطقة جبلية ومنعزلة يسكنها نحو 50 ألف نسمة، ونسبة المُعمِّرين فيها مقارنة بمتوسط العمر في إيطاليا أعلى بنحو 2 إلى 3 أضعاف.
يحافظ السكان المعزولون على التقاليد الرعويّة منذ أكثر من ثلاثة قرون، مع معدَّل هجرة منخفض، ومعدَّل مرتفع إلى حدٍّ ما من قرابة العصب. ومعدل الوفيات بعد سنِّ الستين منخفضٌ، ولا سيَّما بين الرجال.
وتبلغ نسبة المُعمِّرات بين النساء في هذه المنطقة نحو 60٪، وهي نسبة منخفضة في هذا العصر. وأمَّا درجة الاستقلال الذاتي فهي في حدود 25٪ في عمر 90 سنة.
ويتكوّن الطعام من أطباق تقليديّة من مطبخ البحر الأبيض المتوسط، الغني بالحبوب والفواكه والخضراوات وزيت الزيتون والفقير باللحوم، يرافقه نشاط بدني منتظم وأعلى مما هو عليه لدى سكان مدن الساحل الشرقي لسردينيا.
العمر الرابع في جزيرة إيكاريا
ثمة منطقة زرقاء أخرى تتعلق بجزيرة إيكاريا في اليونان، التي تقع شرق بحر إيجة. يبلغ عدد سكانها نحو 8 آلاف نسمة، ويلاحظ أيضًا أنَّ نسبة المُعمِّرين تبلغ الضعف في هذه المنطقة مقارنةً بمتوسط العمر في معظم الدول الأوروبية. وفي دراسة أُجريت على نحو 200 من كبار السن من عمر 80 سنة وما فوق في عام 2009م، أحصى ديموستين باناجيوتاكوس (Demosthène Panaglotakos)، أخصائي أمراض القلب في جامعة أثينا، الخصائص المتعلقة بنمط الحياة، إلا أنَّ ما يؤخذ على هذه الدراسة أنها شملت 19٪ فقط من عمر 90 سنة وما فوق، وأنها لا تشمل، من ثَمَّ، المُعمِّرين.
ومع ذلك، يلاحظ تطابق بين الاتجاهات في هذه الدراسة والدراسة التي أُجريت في سردينيا. فنسبة كبار السن من الرجال مرتفعة، ونسبة الاستقلال الذاتي لدى الأشخاص شملتهم الدراسة لافتة للنظر.
ويبقى مستوى النشاط مرتفعًا حتى في عمر متقدِّم، ويتبع معظمهم نظامًا غذائيًّا فقيرًا باللحوم (مرة إلى مرتين في الأسبوع) وغنيًّا بالخضراوات والفواكه الطازجة أو المطبوخة، وليس هناك إفراط في استهلاك التبغ والكحول، ويبقى وارد السعرات الحرارية معتدلًا لدى معظم الأشخاص الذين أُجريت عليهم الدراسة. ويُعد انتشار مرض السكري وأمراض القلب والأوعية الدموية أقل بكثير من المتوسط الملحوظ في اليونان.
مزاج المُعمِّرين
يؤثر الطبع وبعض سمات الشخصيّة، إلى جانب البيئة والغذاء والوراثة والبنية البدنية، تأثيرًا واضحًا في سلوك المسنين جدًّا. وقد أحصت الدراسات حول هذا الموضوع ثلاث سمات أساسية للمزاج بنسب عالية.
تقوم السمة الأولى على كون الشخص معتدلًا ودقيقًا ومراعيًا للانضباط الذاتي. وترتبط هذه السمة ارتباطًا جيدًا بالحالة الصحيّة للبالغين حتى عمر متقدِّم. فالأشخاص المعتدلون أكثر اهتمامًا بصحتهم، ويشجعون العادات والسلوكيات التي تحسِّن صحتهم الجيدة، وتجنّبهم السلوكيات الخطرة، مثل: استهلاك التبغ والإفراط في شرب الكحول.
وتتعلّق السمة الثانية للمزاج بالتفاعل العاطفي أوالعصابيّة أو حتى العصبيّة. ويتضح هذا المزاج بالقلق، والضعف العاطفي، لا بل الاكتئاب. فإذا كانت درجة العصابيّة عالية جدًّا، يضعف المزاج، ويمكن أن يؤدي إلى الانطواء على الذات، وخطر الاكتئاب، وهذا ما يزيد من خطر الموت في عمر متقدِّم.
وأما السمة الثالثة التي تؤثر في طول العمر، فتتعلّق بالانبساط. ويتضح هذا المزاج بموقف نشط جدًّا في كثير من الأحيان، وبالعواطف الإيجابية والمتفائلة، وبالتعاطف مع الآخرين.
وإذا كانت هذه السمة واضحة، فإنها تؤثر في معدل البقاء على قيد الحياة، وتحدّ من التوتر على النحو الأمثل. ففي دراسة أجراها في عام 2006م نوبويوشي هيروس (Nouyoshi Hirosee) في معهد علم الشيخوخة بطوكيو، تم قياس سمتين شخصيتين أخريين: الانفتاح على الآخرين، والود.
تشير النتائج المقيسة لدى 70 مُعمِّرًا مقارنة بمجموعة مرجعية إلى قدرة جيدة على الانفتاح على الآخرين لدى الرجال والنساء، وسلوكًا معتدلًا ومنبسطًا واضحًا لدى النساء المُعمِّرات في هذه الدراسة.
السلوك المعتدل جدًّا الذي يزداد في الشيخوخة يؤثر في الحفاظ على اللياقة البدنية والحالة الصحية جيدة. ويبقى السلوك المنفتح على الآخرين السمة الثانية الأكثر فعالية في الحفاظ على معدل البقاء على قيد الحياة.
وعندما تحدّ سمات الانفتاح والتفاؤل والانبساط من إفراز هرمونات الإجهاد في الدماغ وفي جميع أعضاء الجسم بشكل مباشر، فإنها تسهم في طول العمر.
تلاحظ في دراسة علماء الشيخوخة اليابانيين زيادة طفيفة في العصابيّة لدى النساء المُعمِّرات. هذا الاتجاه يسهل حقيقة أنَّ هؤلاء النسوة أقل إهمالًا، وأكثر انتباهًا إلى المحافظة على صحتهن. ولا ريب أنَّ نطاق هذه الدراسة محدودٌ، لأنه كان يتعلق بعدد قليل من المُعمِّرين، الذين كانوا جميعًا تقريبًا في حالة صحيّة بدنيّة وعقليّة جيدة جدًّا.
انبساط كبار السن
يمثل الانفتاح على البيئة والآخرين، غالبًا، سمة شخصيّة ضروريّة خلال الحياة النشطة، تسهل التواصل والتبادل والتكيّف مع الحياة المهنيّة والعائليّة. فخلال التقدّم في السن وفي مرحلة التقاعد، تبدأ حياة ثانية تتميّز بفرص مختلفة وغير معروفة. وتشكّل القدرة على الانفتاح، والتخيّل، والانبساط، والتفاؤل، سمات شخصية جدًّا مفيدة لبقاء الشخص قدر الإمكان متكيفًا مع الحياة اليومية.
في مواجهة التحدّيات الراهنة التي تواجهها الشبوبية، يسهل المزاج المنبسط والمنفتح، والمائل قليلًا للعصابيّة وللانطواء على الذات المحافظة على العلاقة الاجتماعية، أيًّا كان فارق السن مع الآخرين، وإذا كان هذا الطبع لا يمنع ظهور التدهور الجسدي والأمراض المتعلّقة بالعمر، فإنه يسهل بوضوح الشعور بالقيود وتكييف الرعاية الصحيّة.
المرونة النفسيّة وطول العمر
المرونة النفسية سمة نفسيّة تبني ببطء الأحداث المعيشة لدى كل شخص، وتسمح لنا بالتكيّف بشكل إيجابي مع الشدائد.
تختلف القدرة على تحمّل اللحظات السيئة في الحياة على وجه الخصوص وفقًا للأشخاص، وتقترن، عادةً، بوظيفة معرفيّة جيدة، وبالمحافظة على الصحة البدنيّة. ففي كثير من الدراسات حيث يتم البحث عن سمة الطبع هذه، يُلاحظ وجودها، غالبًا، لدى كبار السن الذين يشعرون بأنَّ شيخوختهم ناجحة إلى حدٍّ ما. وقد أثبتت دراسة سويدية أُجريت في عام 2009م أنَّ درجة المرونة النفسيّة ترتفع لدى الأشخاص الذين تزيد أعمارهم على 85 عامًا، مقارنةً بدرجة المرونة النفسية لدى البالغين الأصغر سنًّا. وقد برهن فريق كه شين (Ke Shen) في بكين، من خلال تحليل نتائج أكثر من 4 آلاف تسعيني و3 آلاف مُعمِّر من الصين، على التأثير الإيجابي الواضح للمرونة النفسيًة في طول العمر، ومعدل البقاء على قيد الحياة لدى التسعينيين .وتتحسّن نتيجة المرونة النفسيّة وفقًا للعمر، وهي الأكثر ارتفاعاً لدى 70٪ من المُعمِّرين مقابل 40٪ لدى الثمانينيين .فالتسعينيون الذين سجلوا نتيجة مرتفعة لديهم فرص ليصبحوا مُعمِّرين آخرين بنسبة تصل إلى أكثر من الضعفين.
وإذا كانت آليات هذه السمة النفسية لا تزال مجهولة، فإنَّ الفرضية الأكثر قبولًا تتعلّق بزيادة القدرة على الشعور بالعواطف الإيجابيّة التي تسهِّل مقاومة الأحداث السلبيّة أو الأحداث الخطيرة وتساعد على الحفاظ على حالة أفضل من الصحة البدنيّة، عن طريق الحدّ من إنتاج هرمونات الإجهاد. ويرى بعض علماء الأحياء أنَّ الإدارة العاطفية المرتبطة بالمرونة النفسية تحافظ على المرونة الجيدة للخلايا المناعية فتساهم في الحفاظ على آليات المقاومة الخليوية لظواهر الهرم.
الرغبة في العيش وطول العمر
الرغبةُ في العيش إدراكٌ شخصيٌّ ذاتيٌّ. وتعتمد على الإدراك الخاص لدلالة حياة الشخص ودوافعه وجودتها. ولا يتأثر هذا الإدراك الأولي عمومًا بالحزن أو اليأس أو الاكتئاب. فالرغبة في الحياة تتأثر بشدة بالدوافع الشخصية لكلِّ فرد، وينبغي تمييزها من الإدراك الشخصي لمعدَّل حياة الفرد الذي يتأثر جدًّا بما يخبرنا به الديموغرافيون، انطلاقًا من المعطيات المنطقية. فقد خمنَّت دراسات كثيرة إدراك الرغبة في العيش في الشهور الأخيرة من حياة المرضى المصابين بالأمراض المستعصيّة المختلفة، ولكن دراسات قليلة اهتمَّت بموضوع الاستقلال الذاتي لدى كبار السن.
الرغبة في العيش: مؤشر جيّد للبقاء على قيد الحياة
هذا ما أظهره فريق هيلينا كاربينن (Helena Karppinen)، في جامعة هلسنكي، من خلال مقابلة 400 خص فوق عمر 75 سنة في عام 2000م.
تقوم الدراسة على استبيان بسيط يطلب معدل الحياة المتوقع. واقُترحت ثلاث إجابات. الإجابة أ: أقل من خمس سنوات؛ والإجابة ب: بين خمس وعشر سنوات؛ الإجابة ج: أكثر من 10 سنوات.
وجرت بعد ذلك متابعة الحالة الصحية ومعدل وفيات المشاركين في هذه الدراسة بدقة وتوثيقها حتى عام 2010م.
توفي في السنوات العشر التي تلت الاستبيان 70٪ من الذين قدموا الجواب أ، و33٪ فقط من أولئك الذين قدموا الجواب ج.
كان متوسط العمر متطابقًا لدى أفراد المجموعات الثلاث، وهو نحو 79 سنة. وفضلًا عن ذلك، كان نحو 50٪ من أفراد المجموعة أ يشعرون بصحة جيدة في مقابل 86٪ من أفراد المجموعة ج.
تم تبرير الأسباب المذكورة للرغبة في العيش حتى 100 سنة في الاستبيان، في الإجابات التي قدَّمها الأشخاص الذين جرت مقابلتهم في دراسة أخرى أجرتها هيلينا كاربينن. تمنى ثلث الأشخاص من أصل 1400 شخص شملهم الاستطلاع أن يكون مُعمِّرًا. كان الدافع الرئيس يرتبط بشرط البقاء مستقلًا.
ويتعلق الدافع الثاني بحب حقيقي للحياة. وأما الدافع الثالث فيتعلّق بمعايير عملية: رعاية الأحفاد ورؤيتهم على قيد الحياة، والانتهاء من نشاط بدأ بالفعل، أو معرفة أنَّ أفراد أسرهم يعيشون فترة طويلة.
وكان الدافع الرئيس لدى ثلثي الأشخاص الذين لا يرغبون في أن يكونوا مُعمِّرين الخوف من المرض أو التدهور الوظيفي الذي يؤدّي إلى الإدمان.
والأمر المثير للدهشة وجود نسبة أكبر من الرجال الذين عبّروا عن رغبتهم في أن يكونوا مُعمِّرين، في حين أنَّ معدل البقاء على قيد الحياة بعد 80 سنة كان أقل مما هو عليه لدى النساء. وأخيرًا، تميّز معظم الدراسات ثلاث سمات تتكرر كثيرًا في شخصية المُعمِّرين: التفاعل العاطفي في مواجهة الأحداث السلبيّة، والطبع المنصف بصفته دليلًا على ذكاء شخصي، والانفتاح على الآخرين والانبساط.
هذه الصفات الثلاث وراثية إلى حدٍّ كبير، وتتحكم باستجابة الجسم للإجهاد، والحفاظ على نظام مناعة في حالة جيدة، وتنظيم عاطفي ممتاز. وفقًا لمعظم علماء الشيخوخة، إذا وُجِد التقدُّم الناجح في السن لدى 20٪ من المُعمِّرين، فإنه يدل على عوامل موضوعية للحالة الصحية، ولكن أيضًا على معايير ذاتية مرتبطة بسمات الشخصية. فالمُعمِّر في صحة جيدة أكثر ندرة من المُعمِّر المستقل. وقد يكون هناك تعريف طبي للتقدم الناجح في السن يقابل الحالة المادية وغياب المرض؛ وتعريف نفسي اجتماعي مع المحافظة على استقلال ذاتي معرفي وتنفيذي؛ وأخيرًا بعد ثقافي يعتمد على القيم التي يسعى إليها أولئك الذين يقتربون من عمر 100 سنة. وهي في الدول الغربية متابعة النشاط البدني والالتزام الشخصي المتجه نحو الحيوية، ولدى السكان الآسيويين قيم الانفتاح على الأسرة وعلى الآخرين، والمتجهة نحو التسامح. ففي نهاية المطاف يشعر الشخص المتقدّم كثيرًا في السن أن تقدمه في السن ناجح إذا شعر أنه بصحة جيدة، وأنه سعيد ويمكن أن يبقى نشيطًا في حياته اليومية.
خاتمة
المُعمِّرون أو الأشخاص الذين تزيد أعمارهم على 90 عامًا ليسوا أشخاصًا خارقين، وخارجين عن المألوف أو باقين فائقين على قيد الحياة. وليس لديهم أيُّ أسرار معينة حتى إذا كان كل منهم يحب أن يفشي وصفته للرفاهية التي تسهم في سعادته الشخصية. ويستفيدون من عدة استعدادات تقترن فيها بالأحرى وراثة مواتية بعد سن 75، وبيئة وتغذية تؤديان إلى مقاومة جيدة للخلايا والأعضاء بمرور الوقت.
ولديهم بنية بدنية تزيد من معدل البقاء على قيد الحياة، ويقلّ خطر إصابتهم بالأمراض المرتبطة بالعمر عن المتوسط لدى أمثالهم. وليسوا محميين أو محظوظين في ظروف حياتهم.
وشهد معظمهم حروبًا وأحداثًا شخصية أو عائلية صعبة، ويظهرون حيوية وانبساطًا يفوق المتوسط، ويملكون استعدادًا ممتازًا للمرونة النفسية في كثير من الأحيان. وباختصار، إنهم يرغبون في مواصلة العيش، والتكيّف مع الظروف ومع تقدُّم الوقت الذي يمضي.