تصورات ممارسة الطب الشخصي
في الرعاية الصحية
أ. زبيدة دمج – تمريض – كلية الإقليم للتمريض – لبنان
ظهر أول دليل للطب الشخصي في العصور القديمة منذ آلاف السنين، حيث تم إنشاء طرق علاجية مختلفة منذ ذلك الحين. ومع ذلك، حتى في الوقت الحاضر، لا تأخذ العلاجات التقليدية في الاعتبار خصوصيات الأفراد وتكوينهم الوراثي، فتكون غير فاعلة في بعض الحالات. ومع مرور الوقت، أدت ضرورة استخدام علاجات أكثر دقة وفاعلية إلى تطوير مجال علمي يُعرف حاليًا باسم «الطب الشخصي».
لقد أدرك التقدم التكنولوجي الطب الشخصي باعتباره الجيل القادم من التشخيص والعلاج، وعلى الرغم من أن الطب الشخصي قد اجتذب الكثير من الاهتمام في السنوات الأخيرة، إلا أنه لا يزال هناك العديد من العقبات التي تعيق تطبيقه في الممارسة السريرية.
ظهر مصطلح الطب الشخصي حرفيا لأول مرة في الأبحاث المنشورة عام 1999، مسلطًا الضوء على كيف يمكن للتقدم التقني تنبؤ المخاطر الصحية، وتتبع تطور المرض والتنبؤ بالاستجابة للعلاج مما قد يفعل أساليب رعاية مختصة بكل حالة مرضية. ومع مرور الوقت، تم استخدام مصطلح الطب الشخصي كمصطلح شامل يستخدم غالبًا بشكل مترادف مع الطب الجيني أو الطب الدقيق. وقد حددت المجموعة الاستشارية (Horizon 2020) الطب الشخصي على أنه نموذج طبي يقوم بتوصيف الأشخاص بناءً على الأنماط الجينية للأفراد من أجل تصميم الإستراتيجية العلاجية المناسبة للشخص المناسب في الوقت المناسب، وتحديد قابليتهم للتعرض للأمراض إلى جانب تقديم الوقاية اللازمة في التوقيت الأفضل. تم اعتماد هذا التعريف من قبل المجلس الأوروبي، والذي حدد أن «الطب الشخصي يتعلق بالرعاية المركزة على المريض، والتي تأخذ في عين الاعتبار أن أنظمة الرعاية الصحية بحاجة إلى الاستجابة بشكل أفضل لاحتياجات المريض».
يشير الطب الشخصي إلى أنه نظرًا لأن الأفراد يمتلكون خصائص دقيقة وفريدة من نوعها على المستويات الجزيئية والفسيولوجية والبيئية والسلوكية، فقد يحتاجون إلى تلقي علاجات طبية مصممة وفقًا لهذه الخصائص الدقيقة والفريدة. فقد تم التحقق من ذلك إلى حد ما من خلال تطبيق التقنيات الناشئة مثل تسلسل الحمض النووي، وبروتوكولات التصوير، وأجهزة مراقبة الصحة اللاسلكية، والتي كشفت عن تباين كبير بين الأفراد. فتحول مفهوم الطب الشخصي مؤخرًا إلى رعاية صحية شخصية، تهدف على سبيل المثال لا الحصر، إلى مقاربة شخصية، تنبؤية، وقائية وتشاركية والمتمحورة حول الفرد من خلال المشاركة المباشرة للمرضى وصناع القرار والأوساط الأكاديمية والصناعات من أجل تخطيط وتنفيذ فعال ومستدام لتقديم خدمات الطب الشخصي.
مع الوقت، أثر انخفاض التكلفة وزيادة إنتاجية تسلسل الحمض النووي إلى جانب نمو أدوات المعلوماتية الحيوية مثل الذكاء الاصطناعي بشكل كبير في إدخال الطب الشخصي في الممارسة السريرية حيث تتيح هذه الأساليب إمكانية استخدام كمية كبيرة من البيانات الطبية لتنبؤ المعلومات المرضية. فيمكن اعتبار علم الوراثة وعلم الجينوم وعلم التخلق (Epigenetics)، بالإضافة إلى التنميط الظاهري السريري (Phenotyping) والمؤشرات الحيوية الرقمية، أدوات مبتكرة لتصنيف الأمراض (الاختبارات التشخيصية) والتنبؤ بالنتائج السريرية المستقبلية (الاختبارات التكهنية) ويمثل الطب الشخصي فرصة لتحسين مستقبل الفرد والرعاية الصحية لجميع المواطنين ويبشر بالكثير من علاج الأمراض والوقاية.
يعتقد الاتحاد الدولي للطب الشخصي أن تقدم العلوم الطبية الحيوية والاجتماعية والاقتصادية، جنبًا إلى جنب مع التطور التكنولوجي، هو القوة الدافعة للطب الشخصي. لذلك فإن الاستثمار القوي في الابحاث والابتكارات شرط أساسي لتنفيذه ويذكر الاتحاد الدولي خمس حاجات أساسية لدعم الطب الشخصي كما التالي:
أولًا: مواطن مطلّع، مفوّض، مشارك، ومسؤول: قادر على المشاركة في البيانات والدراسات الطبية وله الأحقية والامكانية للوصول إلى تلك المعلومات الطبية بسلاسة.
ثانيًا: مقدم رعاية صحية مطلّع، مدعوم، مشارك ومسؤول: يستخدم المعلومات ونتائج الأبحاث اللازمة للطب البشري بشكل آمن للتطبيق الاكلينيكي ويعتمد على العمل ضمن فرقٍ متعددة التخصصات لتطبيقها ويشارك إلى جانب الأطباء والباحثين على تطوير وابتكار أطر جديدة لتطبيق الطب الشخصي.
ثالثًا: تمكين أنظمة الرعاية الصحية وتعزيز الصحة والوقاية من الأمراض، التشخيص والعلاج لما فيه من منفعة للمرضى: عبر الوصول العادل إلى خدمات الطب الشخصي لجميع المواطنين وتحسين خدماته من حيث الفاعلية والإنصاف، وتأمين تدفق البيانات الصحية من المواطنين والرعاية الصحية للسلطات التنظيمية الصحية المعنية.
رابعًا: توفير المعلومات المتعلقة بالصحة لتأمين العلاج الأمثل والرعاية والوقاية والابحاث.
خامسًا: دعم القيمة الاقتصادية من خلال تقديم الجيل الطبي الجديد: عبر توازن معقول بين الاستثمار والربح، والمنفعة المشتركة للمواطن وإرساء مفاهيم ونماذج مناسبة للطب البشري كما وتعزيز المعاينة الطبية وخلق فرص وظائف جديدة في أنظمة الرعاية الصحية.
تتماشى رؤية الاتحاد الدولي للطب الشخصي لعام 2030 مع أهداف خطة الأمم المتحدة 2030 للاستدامة والتنمية، والتي تحدد رؤية لصحة جيدة، وتعزيز أنماط الحياة الصحية، والتدابير الوقائية، والرعاية الصحية الحديثة والفعالة للجميع. للوصول إلى هذه الأهداف والحفاظ على التصورات الخمسة لرؤية الاتحاد الدولي للطب الشخصي يجب أخذ التالي بعين الاعتبار:
البيانات والتكنولوجيا
ستشكل التكنولوجيا الرقمية عامل تمكين في كل جوانب المجتمع، بما في ذلك الصحة حيث تغيرت النظرة تجاه التكنولوجيا والبيانات الرقمية، مدفوعة بجيل جديد دمج بشكل كامل في حياته اليومية التكنولوجيا الرقمية والشبكات الاجتماعية. ويملك هذا الجيل القوة للسيطرة على بياناته الصحية مقارنة بالأجيال السابقة، فهو أكثر انخراطًا في قرارات الرعاية الصحية.
ستكون البيانات الصحية الشخصية الشاملة، متاحة بالسجلات الصحية الإلكترونية. ويسمح الاستخدام الواسع النطاق للأجهزة الذكية والتطبيقات الالكترونية تتبع المعايير الصحية. كما وتسمح الجهود العالمية المبذولة لفهم تباين الجينوم بين ملايين الأفراد بتعريف ملامح المخاطر المرتبطة بالأمراض الشائعة وزيادة التركيز على الوقاية.
التآزر بين القطاعات
إن تآزر الرعاية الصحية والابحاث أمر بالغ الأهمية بالنسبة لتطبيق الطب الشخصي حيث توفر كميات كبيرة من البيانات مصدرًا ثريًا لمواد الأبحاث وتمكن المحاذاة الوثيقة بين مقدمي الرعاية الصحية، الباحثين والمرضى مع تحسن مرونة أنظمة الرعاية الصحية، مستخدم البحوث الطبية الحيوية والسريرية وتدعمه للاستيعاب السريع لنتائج البحوث وتطبيقها. في عام 2030، ستكون أوجه التآزر مع القطاع الخاص محفزة من خلال الحاجة إلى التقدم التكنولوجي السريع الذي سيؤدي حتمًا إلى تحسين مستوى الرعاية المدعومة بنتائج الأبحاث العلمية.
إصلاح نظام الرعاية الصحية
تحول التركيز الأساسي للرعاية الصحية من العلاج إلى تحديد المخاطر، تصنيف المرضى، وتعزيز الصحة الشخصية والوقاية من الأمراض، وإلى إستراتيجيات ذات قيمة خاصة لمجتمعات كبار السن. إن تحسين أنظمة الرعاية الصحية سيعكس ذلك التغيير، فالاستدامة الاقتصادية والفوائد المجتمعية من الطب الشخصي واضحة. لذا نتطلع إلى نموذج نظام صحي عادل اجتماعيًا واقتصاديًا يضمن حق الوصول للرعاية الصحية لجميع فئات المجتمع.
التعليم ومحو الأمية
ستؤدي التغييرات الكبيرة في الخدمات الطبية إلى جيل جديد من مقدمي رعاية صحية الملتزمين والمسؤولين في عدد من التخصصات المشاركة في القرارات السريرية والرعاية الصحية نظرًا لسرعة تغير وتبدل التقنيات التكنولوجية وتأثيرها المحتمل في الرعاية الصحية. فإن التعليم والتدريب المستمر ضروريان لمقدمي الرعاية الصحية من أجل إنتاج قوة عاملة متمكنة من تقديم الرعاية الصحية ذات الجودة العالية ومستندة على أجدد الممارسات المدفوعة بالتقدم التقني.
خلاصة، فإن الطب الشخصي ليس تغييرًا نموذجيًا بقدر ما هو تطور الطب في عصر التكنولوجيا الحيوية والبيانات الوفيرة. هذه التنمية تتطلب تعديلات واسعة النطاق تمكن توفير الرعاية الصحية وتقديمها، بما في ذلك المهارات الجديدة للرعاية الصحية والعاملين بها وأدوات جديدة لتقديمها. يعكس الاتحاد الدولي للطب الشخصي هذا التطور الذي كان مدعومًا من قبل خبراء أوروبيين ودوليين، من جميع القطاعات الرئيسية والذين قدموا تعليقات وتوصيات لتذليل العقبات وتخفيف التحديات أمام الطب الشخصي عبر تحديد المخاوف وعرض الحلول الممكنة.
كما يدعم الاتحاد الدولي للطب الشخصي البحوث الموجهة نحو التنفيذ التدريجي للطب الشخصي وسبق أن طور الاتحاد خطة عمل، محدِّدةً الأنشطة لتحفيز تبني الطب الشخصي في الرعاية الصحية. وقد نجح أعضاء الاتحاد في إنشاء أبحاث الطب الشخصي وبرامجه وإجراءات الرعاية الصحية. أما المفوضية الأوروبية فقد بدأت بالفعل بدعم العديد من المبادرات المتوافقة مع رؤية الاتحاد الدولي. يمكن أن تزيد التصورات الخمسة الأساسية في رؤية الاتحاد الدولي للطب الشخصي من توجيه صانعي القرار ومجتمع الرعاية الصحية في تخطيطهم للبرامج المستقبلية وأنشطة تنفيذ الطب الشخصي. وسيواصل الاتحاد الدولي للطب الشخصي العمل كمنصة اتصال للمبادرات الحالية والمستقبلية، مما يمهد الطريق نحو رؤية الطب الشخصي في عام 2030.