جماليات العلم بين
الذاتية والموضوعية
أ.د. أحمد فؤاد باشا -أستاذ الفيزياء والرياضيّات ومحقق للتراث العلميّ
الجمالُ قيمةٌ يلحظها الإنسان في الأشياء فتبعث في النفس سرورًا ورضًا، و«التذوُّق الجمالي» هو ملكة الحكم على شعور الرضا الحاصل لدى من يتأمَّلُ شيئًا جميلًا. وحبُّ الجمال نزعةٌ فطريةٌ أودعها الله في الإنسان لكى يستشعر هذه القيمة، ويدركها من خلال تعامله مع كل ما هو جميل في هذا الكون، سواء كان مظهرًا من المظاهر الطبيعيّة والحياتيّة، أم كان عملاً من إبداعه وصنعه في مختلف مجالات الفنون والآداب والعلوم والصناعات. ويتحقق الإشباع لإحساسنا الجمالي بمدى قدرتنا على تذوق الوحدة، أو التناغم بين مجموعة العلاقات الشكليّة والتكوينيّة للأشياء التي تدركها حواسنا.
مقدمة في نظرية الجمال
لقد أسفرت التجربة الجماليّة للإنسان عبر مراحل تاريخه الطويل عن تكوين كثير من المفاهيم والأفكار الجماليّة التي أسهمت في صياغة النظريّة العامة للجمال، وحددت الإطار العام لما يسمى بفلسفة الجمال، أو علم الجمال الاستطيقا (Aesthetics)، وهو أحد مباحث «نظرية القيم» أكسيولوجيا (Axiology) حسب الاتجاه التقليدى الشائع في فهمها. ذلك أنَّ نظرية القيم قد نشأت حديثًا لتبحث في المُثُل العليا أو القيم المطلقة، وهي قيمُ الحقِّ والخير والجمال، من حيث ذاتها لا بكونها وسائل إلى تحقيق غايات، وبالمقاييس والقواعد المحددة لفهمها في علوم المنطق والأخلاق والجمال والإلهيات.
والقبحُ (Ugliness)، في المقابل، قيمةٌ جماليّةٌ سالبةٌ أدخلها الفيلسوف الأيرلندي إدموند بيرك (-1729 1797م) ضمن التذوُّق الجمالي، فالجميلُ هو المعبّر، وإن كان قبيحًا، طالما أنه قد أحسن التعبير عمَّا قصد إليه، ومن ثَمَّ فالجمالُ والقبحُ هما قطبا القيمة الكامنة في الأشياء الجميلة، أو التي يخلعها العقل عليها، كما هي الحال بالنسبة إلى الخير والشر في الأخلاق، والحق والباطل في المعرفة.
يقول بيرك: «إنَّ الجمالَ اسمٌ سأطلقه على كلِّ صفات الأشياء التي تثير فينا إحساسًا بالمحبة والحنان، أو أي عاطفة أخرى قريبة الشبه بهما»، وقد رفض ردّ الكلاسيكيين هذه الصفات إلى الانسجام والوحدة والتناسب والتماثل، فكلُّنا نتفق على أنَّ البجعةَ جميلةٌ مع أنَّ عنقها الطويل وذيلها القصير غير متناسبين مع جسمها.
وتناول القديس أوغسطين (354-430م) القبح في الوجود، ولكنه لم يره عنصرًا أساسيًّا فيه، وردّ القبحَ في الأشياء إلى نقصٍ في شكلها عن الشكل الذي لجنسها. لكنَّ هذه الآراء لا يجوز قبولها على إطلاقها، لأنَّ إدراك النقص في الأشياء قد يُعزى إلى ضعفٍ في الذوق الفني لدى المشاهد يحرمه من إدراك الجمال في أشكال الأشياء أو الانفعال بمحتواها الفكري والمعرفي، وهو ما يطلق عليه بعضُنا اسم الجمال المستعصى (Difficult Beauty) ومن هنا يمكن القول إنَّ الوجودَ خالٍ من الأشياء القبيحة؛ لأنها جميعًا معبِّرةٌ، أي جميلة. وهذا ما يميّز خلق الله، وما ينبغي أن تكون عليه فنون البشر.
القديس أوغسطين
العمق الجمالي للبحث العلمي
لما كان حبُّ المعرفة الذي يتميّز به الإنسان هو الذي يدفعه إلى ملاحظة ما يحيط به في هذا الكون، فإنَّ التأمُّل بالنظر والفكر يبدأ بإدراك الجمال. وعادةً ما يستجيب الإنسان للأشياء الطبيعية الموجودة أمام حواسه من ناحية شكلها العام أولاً، ثم من حيث لونها وتناسقها ثانيًّا، ثم يتدرَّج في بحثه المعرفي نحو حقيقة مضمونها وطبيعة جوهرها. ويتحقق من تكامل هذه العناصر المعرفيّة وتناسقها شعور بالرضا وإحساس بالجمال.
أما إذا لم يتحقق هذا التكامل والانسجام في علاقات الأجزاء مع بعضها، شكلًا ومضمونًا، فإنَّ الشعور الحاصل لدينا يتمثّل في عدم الرضا و«الإحساس بالقبح».
ومن الخطأ أن نعدّ الحسَّ الجمالي موجهًا نحو الجانب الشكلي أو المظهري وحده، بل ينبغي أن يكون الحسُّ الجمالي مزدوجُ الاتجاه بالفطرة التي تجعله يدرك الجميل بما فيه من تعبيرٍ، ويميّزه من غير الجميل أو ما ليس بذي موضوع جمالي، ومن دون هذه الازدواجية يظلّ الحسُّ الإنساني عاديًّا وطبيعيًّا في ملامسته للأشياء. ذلك لأنَّ الحسَّ الجمالي يحمل معنى البصيرة في حواسنا العادية من نظر، وسمع، وشمٍّ، وذوق، ولمس، ويضيف إليها عمقًا يشير إلى ملكة مميّزة في إدراك نسق الأشياء، والحكم على درجة جمالها وكمالها.
والواقع أننا ننزع نحو ذلك النسق، ونتطلع إليه لما يحدثه من لذَّةٍ في نفوسنا، ولما ينشأ عنه من صدًى في حياتنا، ولا نلبث أن نستخدم كلَّ إمكاناتنا من أجل تحقيق هذا الاكتشاف، بل لا نلبث أن نستعين بكل مصادر حواسنا وعقلنا التنظيمية بدافعٍ من المؤثرات والمحركات الموجودة في الوسط الخارجي، وفي وعينا بكل أوضاعنا؛ حتى نأخذ، عندئذٍ، دلالاتها ومعناها.
من أجل هذا كان إحساسُ الإنسان بالجمال استجابةً طبيعيةً للعلاقات المتوافقة والمتوازنة بين الأجزاء والظواهر التي يقع عليها بصرُه في جنبات هذا الكون الفسيح، الذي خلقه الله سبحانه وتعالى على أعلى درجة من الترتيب والنظام والجمال.
ومن هنا يمكننا القول إنَّ تذوُّقَ الجمال يشكّل الخطوة الأولى في فنِّ البحث العلمي بوصفه طريقًا رئيسًا للمعرفة العلمية بشقِّيها النظري والتقني.
التذوُّق الجمالي عند العلماء
ربما يندهش بعضُنا من إضفاء صفة الفن على البحث العلمي، والربط بينه وبين غيره من الفنون المتعارف عليها.
ولمَ لا يكون البحثُ العلميُّ فنًّا، وهو يتفق مع غيره من الفنون في أنها جميعًا نشاطات ابتكارية يقوم به كلٌّ من العالم الباحث والفنان منطلقين من مسلَّمات التناسق والإطراد والاتزان والجمال في النظام الكوني، ومستخدمين كلَّ ملكاتهم الحسية والعقلية.
إنَّ القدرةّ على تأمُّل الطبيعة واستخلاص القيم الجمالية التي تغمرها، أمرٌ بالغُ الأهمية لدى العالم والفيلسوف والفنان والأديب على حدٍّ سواء، ليس فقط من ناحيتَيْ تكوين الذوق العام والارتقاء به، وإنما أيضًا من أجل فهمٍ أفضل لطبيعة القوانين التي تحكم سلوك الأشياء في الكون وتكسبها جمالها الذاتي.
بل إنَّ العالم أو الباحث في علوم الكون والحياة يكون أكثر من غيره التزامًا بتحديد علاقته بالعالم الذي يكتشفه، والهدف من هذه العلاقة، بمعنى أنَّ مفهومَه الفكريَّ لفنِّ البحث العلمي يجب أن يقوم على الربط بين «الشكل» و«المضمون»، وبين «الجميل» و«المفيد».
ولعلَّ هذه النظرة العلمية إلى الجمال هي التي جعلت الفيلسوف الألماني كانط (1724-1804م) يبدي رغبته في الارتفاع بأصول علم الجمال إلى مستوى القوانين العلمية، ويفرق بين نوعين من الجمال هما: الجمالُ الحرُّ منعدم الغرض، والجمالُ التابعُ الذي يشير في الجميل إلى غرضٍ خاص. فالوردة شيء يتحقق فيه الجمال الحر ما دمنا لا نعرف شيئًا عن طبيعتها، أما إذا نظر إليها عالم النبات مثلًا، فإنَّ جمالها يتحوّل من كونه جمالاً حرًّا إلى أن يكون جمالاً تابعًا، لأنَّ عالم النبات يعرف طبيعة هذه الوردة وخصائصها.
وإذا كان «كانط» قد عاد فاكتشف أنَّ قواعد الجمال لا يمكن أن تدخل في إطار الموضوعية العلميّة، إلا أنه حاول تقنين الحكم الجمالي بإخضاعه لبعض مقولات المعرفة العلميّة مثل الكم والكيف والعلاقة والاحتمال. ولكنه أخفق في الوصول من هذه المقولات إلى قوانين قادرة على توجيه الذوق في أحكامه، وانتهى إلى صياغة نظريته الجمالية الذاتيّة البحتة في عبارات من الفلسفة المثاليّة المغالية. وذهب إلى حدّ إنكار وجود الشيء الجميل، فالجمال كما يراه ملامح نضفيها من أنفسنا على الفكرة، أو نلحقها من جانبنا إلى الشيء.
جماليّات العلم وفن البحث العلمي
يُعدّ العلم والبحث العلمي من أهم فاعليات النشاط الإنساني وأرقاها، سعيًا إلى إدراك الأشياء على حقيقتها كما هي في الواقع. ولذا فإنَّ العقلَ البشري، بوصفه مناط التكليف وأهم الأدوات في ممارسة هذا النشاط، يحتاج دائمًا إلى تدريبٍ وإعدادٍ وتوجيهٍ، ليس فقط فيما يتعلق بالقواعد والخطوات العملية لمنظومة المنهج العلمي السليم، ولكن أيضًا فيما يتصل بالأسس الفكرية والفنيّة التي تكفل الانتفاع منه إلى أقصى حدٍّ ممكن،
بعد أن يستشعر نشوة التأمل في النواحي الجمالية والجوانب الإنسانية المتعلّقة بقيم الحق والخير والجمال، التي لها قوة التفكير والدفْع إلى الأمام، والتي تجعل من المعرفة البشريّة بعامة، والمعرفة العلميّة والتقنيّة على وجه الخصوص، غايةً ساميةً لخدمة المجتمع الإنساني بأسره.
وإذا قصرنا الحديث في هذا الصَّدد على قيمة الجمال وأثره في تشكيل العقل، وتغذية الوجدان، وتقويم السلوك، نجد أنَّ التجربة الجمالية للإنسان عبر العصور قد أسفرت عن تكوين كثير من المفاهيم والأفكار الجماليّة التي حددت الإطار العام لما يسمَّى بـ«علم الجمال»، وما يتضمنه من مذاهب فلسفيّة وفنّيّة متعددة.
وقد أكّد القرآن الكريم – في مواضعَ كثيرةٍ – أهمية العناصر الجماليّة في الكون العجيب التكوين والتلوين، لكي يتدبره العلماء. ذلك أنَّ الدعوة إلى تأمُّل الجمال الكوني هي في حقيقتها دعوة إلى التفوق في مجال العلوم الكونية المعنية بدراسة ظواهر الكون والحياة للإفادة منها في تطوير حياة البشر، وفهم أسرار الوجود. قال تعالى: أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجۡنَا بِهِۦ ثَمَرَٰتٖ مُّخۡتَلِفًا أَلۡوَٰنُهَاۚ وَمِنَ ٱلۡجِبَالِ جُدَدُۢ بِيضٞ وَحُمۡرٞ مُّخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٞ ٢٧ وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَآبِّ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ مُخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهُۥ كَذَٰلِكَۗ إِنَّمَا يَخۡشَى ٱللَّهَ مِنۡ عِبَادِهِ ٱلۡعُلَمَٰٓؤُاْۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ٌ(فاطر: 27-28).
ومن المنطقي أن يقابلَ هذا الجمال الكوني المقصود قصدًا في خلق الكائنات بُعدٌ جمالي في العلاقة بين الكون والإنسان. فالمتأمِّل في السماء وما يدور فيها من كواكب وشموس وأقمار، وما ينشر فيها من أفلاك، يجب ألا يغفل عن زينتها التي نبَّه إليها الحقُّ في قوله تعالى: وَلَقَدۡ جَعَلۡنَا فِي ٱلسَّمَآءِ بُرُوجٗا وَزَيَّنَّٰهَا لِلنَّٰظِرِينَ (الحجر16).
وعند النظر إلى الأنعام من زاوية فوائدها الماديّة وقيمتها على أساس أنها ثروة حيوانية، يجب أن نحافظ على الصورة الجماليّة التي أشار إليها القرآن الكريم بقوله: وَٱلۡأَنۡعَٰمَ خَلَقَهَاۖ لَكُمۡ فِيهَا دِفۡءٞ وَمَنَٰفِعُ وَمِنۡهَا تَأۡكُلُونَ ٥ وَلَكُمۡ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسۡرَحُونَ (النحل: 5-6).
وعند استقصاء حكمة الخالق في خلق الكون وإنبات النبات، يجب أن نستشعر معنى البهجة التي تشيع في أرجاء النفس عندما نرى منظر الخضرة، مصداقًا لقوله تعالى: أَمَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَنۢبَتۡنَا بِهِۦ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهۡجَةٖ مَّا كَانَ لَكُمۡ أَن تُنۢبِتُواْ شَجَرَهَآۗ أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ بَلۡ هُمۡ قَوۡمٞ يَعۡدِلُونَ (النمل: 60).
والذي يقطف ثمرة ليأكلها ينبغي أن يرى أولًا في جمال منظرها وروعة تكوينها يد الخالق وبديع صنعه.
ٱنظُرُوٓاْ إِلَىٰ ثَمَرِهِۦٓ إِذَآ أَثۡمَرَ وَيَنۡعِهِۦٓۚ (الأنعام: 99).
ولقد ذهب بعض العلماء إلى القول إنَّ التقديرَ القرآنيَّ لقيمة الجمال في الكون على هذا النحو، يجعل من الاعتداء على البيئة ونظافتها وتوازنها، والنظر البليد إلى الأرض والسماء دون إحساس بالجمال، نوعًا من المعصية ينبغي لفاعله أن يتوب عنه.
ولما كان الجمال مقصودًا قصدًا في خلق الكون، وكان البُعدُ الجماليُّ ضروريًا في تعامل الإنسان مع عناصر الكون المختلفة، بما فيها الأرض التي يعيش عليها، والبيئة التي يحيا في كنفها، فإنَّ ما يحدث في عصرنا من أشكال التلوث البيئي المختلفة يجب النظر إليه على أنه اعتداءٌ أثيمٌ على توازن البيئة المُحكمِ، وتشويهٌ متعمَّدٌ لشكلها الجمالي.
هذه الأبعاد تجعل العمل على حماية البيئة من مختلف أشكال التلوث، والإبقاء على الجمال في صفحات الكون، مطلبًا إسلاميًّا عزيزًا تُستثار لأجله الهممُ، وتُستحَثُّ العزائمُ. ولقد شهدت ميادين البحث العلمي خلال العقود الثلاثة الأخيرة ميلاد وتطور ما يسمى «بالعلوم والتقنيّات الخضراء» التي تبحث عن وسائل نظيفة وصديقة للبيئة، للحيلولة دون تردِّي الوضع البيئي، وكانت البداية العملية في أوائل تسعينيات القرن الماضي باعتماد برنامج وسياسات ما يسمَّى «بالكيمياء الخضراء» في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي كيمياء مثالية وجميلة تهدف إلى تحقيق تطبيقات أنيقة للمركبات والعمليات الكيميائية، تترافق فيها الفعالية مع الأمان.
وإذا استعرضنا مواقف بعض الفلاسفة والعلماء من قيمة الجمال ومدى تأثرهم بها، فإننا نجد أنها كانت ولا تزال – على وجه العموم – مبدأً أساسيًا من مبادئ المعرفة وتحصيلها عبر العصور، ودليلًا يهدي العلماء في أبحاثهم، بدرجات متفاوتة في عمق التأثير والتأثُّر. وإن شئنا أمثلة لتوضيح ذلك من تاريخ العلوم وسير العلماء، فلنبدأ بالحسن بن الهيثم (965-1042م) مؤسس المنهج العلمي التجريبي الاستقرائي في عصر الحضارة العربية الإسلامية، إذ كان له أوَّلُ تحليل علمي للجمال في المبصرات، أي المرئيات، تناوله بوصفه عالمَ بصريات ورياضيات، وأيضًا بصفته فيلسوفَ علمٍ يدرك مسائل الشكل والحجم والتناسب، وكلامه مفصَّلٌ في كتابه ذائع الصيت «المناظر»، وفي رسالته المنسيّة المغمورة «ثمرة الحكمة».
ويتلخص رأيُه في أنَّ المرئيات فيها معانٍ جزئية، كلٌّ منها على انفراد «يفعل الحُسْن»، أي يجعل الشيء حسنًا، وهو يفعله أيضًا مقترنًا بغيره، أو في تناسبٍ مع غيره. فهو هنا يقرّ بوجود عمق جمالي في الجسم المرئي ذاته. ثم إنَّ إدراك الحُسن عنده أمرٌ نفسيٌّ، لأنه يقول إنَّ المعاني الجزئية تفعل الحُسن، أي تؤثر في النفس، وهو على حدّ تعبيره «استحسان الصورة المستحسنة».
ويسهب بعد ذلك في تفصيل كثير من المعاني الجزئية للعناصر الجمالية في الأجسام المرئية، من ضوء، ولون، ووضع، وبُعدٍ معيَّن، وتجسُّم وشكل، وحجم مناسب، وحركة، وشفيف، وتماثل (سيمترية)، وخصوصًا التناسب والائتلاف.
وكانت روح ابن الهيثم، شأنه شأن كلِّ عالم حقيقي، تشرئبُّ إلى إدراك الكون وتخيّله على حقيقته، بمنهج علمي رصين، يوصل، فيما يقول، «إلى الحق الذي يثلج به الصدر.. وإلى الغاية التي عندها يقع اليقين.. بقدر ما هو لنا من القوة الإنسانية، ومن الله نستمد المعونة في جميع الأمور».
لكن هناك من لا يرى في المادة إلا خواصها الكميّة، كالوزن والحجم والشكل والعدد، وبما أنَّ الجمال ليس من جملة هذه الخواص، فإنه أقربُ إلى أن يكون خاصَّةً من خواصِّ المراقب أو المشاهد، لا صفة من صفات الأشياء الطبيعيّة في الكون.
وقد كتب الفيلسوف والفيزيائي والرياضياتي الفرنسي رينيه ديكارت (1596–1650)م)، مؤسس الفلسفة الحديثة، يقول: «لا يدلّ الجميل، ولا البهيج، على أكثر من موقفنا في الحكم على الشيء المتكلَّم عنه». ويوافق الفيلسوف الهولندي من أصل يهودي باروخ سبينوزا (632–1677م) على ما قاله «ديكارت» فيقول: «الجمال ليس صفة في الشيء المدروس، بقدر ما هو الأثر الذي ينشأ في الإنسان نفسه الذي يدرس ذاك الشيء».
أينشتاين
وقد أحدث هذان المفكران: ديكارت وسبينوزا، وآخرون غيرهما، تيارًا قويًّا دام زمانًا طويلًا، إلى أن أبان العالم البريطاني تشارلز دارون (1809–1882م) عن موقف النظرة العلميّة آنذاك من الجمال، فكتب يقول: «من الجليّ أنَّ الإحساس بالجمال يتوقف على طبيعة العقل، بصرف النظر عن أي صفة حقيقيّة في الشيء محل الإعجاب». وكان طبيب الأمراض العصبية النمساوي سيجموند فرويد (1856-1939م)، مؤسس طريقة التحليل النفسي، يشعر أنه مضطر إلى حصر الجمال في دائرة الغريزة، قائلًا: «من دواعي الأسف أنَّ التحليل النفسي (Psychoanalysis) ليس عنده ما يقوله عن الجمال، وكل ما يبدو مؤكدًا أنه مستمد من مجال الشعور الجنسي».
ويعقب صاحبا كتاب «العلم في منظوره الجديد» روبرت م. أغروس، وجورج ن. ستانسيو على مثل هذه الآراء ذات الصبغة الماديّة في الجمال، قائلين إنه إذا لم يكن الجمال صفة من صفات الطبيعة، فهناك أمران اثنان يترتبان على ذلك: أولهما أنَّ الجمال، على احتمال كونه متعة شخصيّة، لا يمكن أن يكون موضع جدل علمي، إذ إنه لا يعنينا بتاتًا في اكتشاف حقائق الطبيعة. وثانيهما أنَّ الفنون الجميلة بقدر ما تنشد الجمال، لا يمكن أن يكون بينها وبين العلوم أيُّ شيء مشترك، إذ إنَّ العلوم الطبيعيّة تبدو باردة المشاعر، ولكنها واقعيّة، بينما تصوَّر الفنون على أنها دافئة المشاعر، ولكنها هوائيّة المضمون، بحيث يتوقع من علم الحشرات مثلًا أن يسكت عن جمال الفراشة سكوت الشعر عن خمائرها الهضميّة.
وعلى نقيض ذلك، يجمع أبرز العلماء في القرن العشرين على أنَّ الجمالَ وسيلةٌ من وسائل اكتشاف الحقيقة العلميّة، إن لم يكن هو المقياس الأساسي للحكم عليها. وقد أحرزوا بالفعل كشوفًا ثورية، حسب منطق فيلسوف العلم المعاصـر تومـاس كون (1922-1996م) ، بفضل إحساسهم وإدراكهم قيمة الجمال في البحث العلمي. فها هو الفيزيائي الألماني الشهير فيرنر هايزنبرغ (1901 – 1976م)، الذي مُنِح جائزة نوبل في الفيزياء لعام 1932م، لأبحاثه في الفيزياء النوويّة ونظرية الكم، يعلن «أنَّ الجمال في العلوم البحتة أو الدقيقة، وفي الفنون على حدٍّ سواء، هو أهم مصدر من مصادر الاستنارة والوضوح.. وأنَّ نظريته في ميكانيكا الكم مقنعة بفضل كمالها وجمالها التجريدي». وها هو ألبرت أينشتاين (1879-1955م) أشهر علماء القرن العشرين، والحائز على جائزة نوبل عام 1921م، يشير بنفسه إلى جمال نظريته في النسبيّة العامة بقوله: «لا يكاد أحد يفهم هذه النظرية تمام الفهم.. يفلت من سحرها»، ويشيد بها الفيزيائي النمساوي أروين شرودنجر (1887-1961م) الحائز على جائزة نوبل عام 1933م، وصاحب المعادلة الموجيّة الأساسية في ميكانيكا الكم الحديثة، قائلًا: «إنَّ نظرية أينشتاين المذهلة في الجاذبيّة لا يتأتَّى اكتشافها إلا لعبقري رُزِقَ إحساسًا عميقًا ببساطة الأفكار وجمالها». ويبدو أنَّ القوانين والنظريات العلمية، شأنها شأن كائنات تتفاوت في درجة جمالها، يوجد من بينها ما يرقى إلى أعلى درجات الجمال، إذ يرى كثيرٌ من الفيزيائيين أنَّ نظرية النسبيّة العامة لأينشتاين هي أجمل النظريات الفيزيائيّة الموجودة على الإطلاق. ولهذا فإننا نثق في صاحب هذه النظرية العلميّة الأجمل عندما يلخص عناصر الجمال العلمي بعبارة واحدة يقول فيها: «النظرية العلميّة تكون أدعى إلى إثارة الإعجاب كلَّما كانت مقدماتها أبسط، والأشياء التي تربط بينها أشد اختلافًا، وصلاحيتها للتطبيق أوسع نطاقًا». وهذا يعني أنَّ الجمالَ الذي ينشده العلماء في بحثهم العلمي عن الحقائق الكونية ليس نتاج عاطفة فردية وإنما هو أبعد ما يكون عن الأسلوب غير العلمي وعناصره التي تبثُّ الحياة في العلم لها نظائر موازية في الفنون الجميلة الأخرى.
المراجع
(1) د. عدنان رشيد، دراسات في علم الجمال، دار النهضة العربية للطباعة والنشر والتوزيع، 1985م
(2) د.عبدالفتاح الديدي، فلسفة الجمال، مكتبة فضاءات الفن، القاهرة 1985م.
(3) د. أحمد فؤاد باشا، في فلسفة العلم والتنمية الحضارية، رؤى إسلامية، مكتبة نور 2017م.
(4) روبرت م. أغروس وجورج ن. ستانسيو، العلم في منظوره الجديدن ترجمة د. جمال خلايلي، عالم المعرفة، الكويت 1989م.
(5) المواقع ذات الصلة على الشبكة الدولية “الإنترنت”.