حزم الأمتعة لرحلتنا الأطول
بول دايفس- ترجمة: د.أ –COSMOS– العدد 85 – 21 يونيو 2021م
لعل أهم سؤالين قد يواجههما مسافرو الفضاء من البشر في المستقبل هما:
أين نذهب؟ وكيف نصل إلى هناك؟
ولقد حظي الأخير بالاهتمام الأكبر. فلكي يصبح السفر في الفضاء حقيقة، يتطلّب الأمر كثيرًا من التطورات الهندسية المهمة، التي قد تنطوي ربما على أنظمة دفع مبتكرة وجديدة. ومع أنَّ كثيرًا من الاقتراحات نظرية بشكل كبير، إلا أننا لا نعلم عن أي مبادئ فيزيائية فضائية تمنع السفر في الفضاء؛ وتبقى التكنولوجيا، والتكلفة، والدافع هي الأمور التي ستحدد ما إذا سيصبح السفر حقيقة واقعة أم لا؟
أودُّ أن أناقش السؤال الأول المُهمل غالبًا: المقصد، بعيدًا من النظريات الخيالية عن السفر بسرعة تفوق الضوء، من الجليّ أن التنقُّل بين النجوم يستغرق وقتًا طويلًا، حتى باستخدام التطورات التكنولوجية بأفضل تقديراتها، لذلك فإنَّ السياحة بين النجوم، أو التجارة بشكلها المادي (مقارنة بالمعلومات)، أمر محال.
إنَّ السفر إلى ما وراء المجموعة الشمسية رحلة باتجاه واحد. حينها يبرز احتمالان: الأول أنَّ مسافري الفضاء سيسعون إلى بناء مستعمرات في عوالم أخرى، والثاني أن يصنعوا بيئة اصطناعية دائمة في الفضاء. ولطالما كان الاحتمالان شائعين في الخيال العلمي. سأترك موضوعات الهندسة المعقدة جانبًا، وأغوص عوضًا عن ذلك في مشكلة أكثر إشكالية وأكثر أساسية، ألا وهي المتطلبات البيئية، وخاصة تلك المرتبطة بعلم الأحياء الدقيقة.
إنَّ بقاء الإنسان على الأمد الطويل يعني أكثر من مجرد زراعة المزيد من الغذاء للأكل أو تأمين ما يكفي من الأكسجين للتنفس. بل يتطلب خلق نظام بيئي كامل ذاتي البقاء. على الأرض، تشكل الكائنات الحية متعددة الخلايا (كالحيوانات والنباتات) القمة البارزة لجبل جليد بيولوجي أعمق وأوسع.
إنَّ معظم الأجناس الأرضية هي ميكروبات – البكتيريا، والعتائق، وحقيقيات النوى من وحيدات الخلية – وحتى هذا اليوم، تمكن علماء الأحياء الدقيقة من التعرُّف إلى الجزء اليسير فقط من عالم الأحياء الدقيقة.
رواد الفضاء وميكروبيوماتهم
تنتشر الميكروبات في كل مكان – في التربة، وفي الهواء، وفي الماء، وفي الصخور تحت أقدامنا، وفي القشرة الأرضية حتى عمق عدة كيلومترات. إنَّ هذه المخلوقات الدقيقة جزء حيوي من نظام دعم الحياة على كوكبنا، سواء بنشاطها الأيضي (مثل إعادة تدوير المواد)، أو بتبادل المكونات الجينية. حتى داخل جسم الإنسان، تؤدي الميكروبات دورًا رئيسًا.
يفوق عدد المستعمرات الميكروبية في الأمعاء، والرئة، وغيرها – والمعروفة بالميكروبيوم – عدد خلايا جسم الإنسان، ومن دونها قد يموت الإنسان. لذا لا يمكن إرسال رواد الفضاء إلى النجوم، من دون ميكروبيوماتهم على أقل تقدير.
لكن الأمر لا يتوقف هنا، فالميكروبات لا تعيش في مكان منعزل، بل هي تشكل شبكة متشعبة من التفاعلات البيولوجية التي لا نزال نفتقر إلى فهمها بشكل تام. أصبحت تعدُّ العملية الداروينية البدائية اليوم – الاستنساخ مع الاختلاف بالإضافة إلى الاصطفاء الطبيعي– نظرية غير كاملة عن التطور. ويمكن النظر إلى الداروينية على أنها النقل العمودي للمعلومات (من جيل إلى آخر)، ولكن في الوقت ذاته هناك تدفق أفقي للمعلومات، عبر نقل الجينات، وتأشير الخلية للخلية، والتنظيم الجماعي للخلايا، وغيرها الكثير.
تتضافر مع هذه الشبكة نشاطات الفيروسات، التي تصيب الميكروبات تمامًا كما تصيب الكائنات الأكبر. يشكل التفاعل الدقيق بين الفيروسات والميكروبات والحيوانات متعددة الخلايا (المُتَزوّيات) شبكة بيئية من التعقيد المذهل يكاد العلماء لا يقدرون على كشفه بشكل تام. ولعل زميليّ في جامعة ولاية آريزونا (ASU) هايونيو كيم (Hyunju (Kim وهاريسون سميث (Harrison Smith) استطاعا أن يسلطا القليل من الضوء على المشكلة المهيبة، حيث جمعا بيانات من أكثر من 28,000 جينوم و8,658 تفاعلًا بيوكيميائيًّا لإنشاء خريطة تدفق معلومات يحدث، ليس فقط في نظام بيئي محلي، بل على نطاق الكوكب. ويبدو أنَّ الغلاف الحيوي هو شبكة العالم الواسعة الأصلية.

ماذا نصطفي؟
بما أننا لا نستطيع إرسال الغلاف الحيوي بكاملة إلى عالم آخر، تبرز هنا مشكلة جوهرية: ما هو الحد الأدنى من التعقيد في النظام البيئي ضروريٌّ من أجل البقاء طويل الأمد؟ ومع إخراج المزيد من الأنواع الميكروبية من قائمة الركاب إلى الفضاء، متى يصبح النظام البيئي المتبقي متزعزعًا وقابلًا للانهيار؟ وأي الميكروبات ضرورية وأيها غير ضروري في قائمة ركاب الرحلة، من حيث أهميتها بالنسبة إلى البشر (ولسلسة التوريد الغذائي النباتية والحيوانية).
إنها معضلة سفينة نوح ولكن مع ثأر: ما الأنواع التي يجب اصطفاؤها؟ نحن لا نملك تلميحًا عن الإجابة، بل ليس لدينا فكرة عن حل مشكلة أبسط من ذلك بكثير، ألا وهي تحديد أصغر نظام بيئي ميكروبي صرف ذاتي البقاء. هل يمكننا تجزيئ شبكة الحياة إلى أجزاء، واستخراج مجموعة ثانوية منها، وأن نتوقع من هذه الشبكات الصغيرة أن تعمل في عزلة إلى الأبد؟ لا يمكن لأي خطة إعادة تأهيل أي كوكب للاستعمار البشري أن تنجح من دون فهم أعمق للبيئة الميكروبية.
لنتخيل وضع قائمة مؤلفة من العدد الأدنى من النباتات والحيوانات اللازمة لمرافقة البشر في رحلة باتجاه واحد، ولنترك جانبًا لوجستيات زراعة، وتغذية وتربية هذه الكائنات في الفضاء، التي تتطلب ظروفًا بيئية معينة تختلف تمامًا عن الظروف الملائمة للبشر (كالحرارة، والأس الهيدروجيني، ومستويات الأكسجين، وغيرها).
قد نفكر بالأبقار، والخنازير، والخراف، والدجاج، وبعض الأسماك، والقليل من الخضراوات – التي ستفي بالغرض كبداية. ولكن ما الأنواع الميكروبية التي تعتمد عليها هذه الحيوانات والنباتات، وكم عددها؟ وما الأنواع الميكروبية التي تعتمد عليها هذه الميكروبات التي تخدم تلك الحيوانات والنباتات، وكم عددها؟ وأيها قد يكون ممرضًا للبشر، ولكن جوهري لأجزاء أخرى من النظام البيئي؟ من دون الفهم الكامل لمبادئ عمل الشبكات المعنية، كيف لنا أن نتأكد من أننا قمنا بعملية الحساب البيئية بشكل سليم؟
سيكون من غير المثمر أن نقطع نصف الطريق إلى ألفا سينتوري لنكتشف أننا أغفلنا بكتيريا أساسية وتركناها على الأرض.
التعقيد الإضافي هو أن نشاطات الميكروبات تعتمد على الجينات التي تعبر عنها (أي تنشطها). اكتشفت زميلتي في جامعة ولاية أريزونا (ASU) تشيريل نيكرسون (Cheryl Nickerson) أنَّ البكتيريا تستطيع أن تغير تعبيرها الجيني عند نقطة الجاذبية (0)، وهي تعمل مع وكالة ناسا الآن لدراسة التغيرات في ميكروبيوم رواد الفضاء عندما يذهبون إلى الفضاء. فمن الاهتمامات معرفة ما إذا كانت بكتيريا حميدة نسبيًّا قابلة لأن تتحول إلى سم في الفضاء.
وليست البكتيريا وحدها هي التي تتغيّر في الظروف الفضائية. فقد أجرى مختبر ميتشل ليفين (Michel Levin) في جامعة (Tufts) تجارب على ديدان بلاناريا (المستورقات) التي ذهبت في مركبة فضائية إلى الفضاء. تستطيع البلاناريا أن تجدد نمو رأسها أو ذيلها في حال تم قطعه. اكتشف (ليفين) أنَّ جزءًا من ديدان الفضاء عادت برأسين.

فريمان دايسون عالم فيزياء متبصر يرى النجوم في عينيه
ولد في بريطانيا عام 1923م، وهو فيزيائي أمريكي ومعلم اشتهر بعمله النظري عن الحضارات خارج نطاق الأرض. وهو مناصر عريق لاستكشاف واستعمار المجموعة الشمسية وما وراؤها. درس دايسون أساليب للبحث عن أدلة عن حياة ذكية خارج نطاق الأرض. وفي خمسينات القرن العشرين، كان عضوًا في فريق بحث مشروع أوريون، الذي طور نموذجًا عمليًا لمركبة فضائية مخصصة لنقل البشر إلى كوكب المريخ. كما كتب عددًا من الكتب، من بينها (Origins of Life, 1985)، و (Imagined Worlds, 1998).
نظام ملائم لـ«اللعب» في عالم آخر
ربما يمكن تذليل بعض هذه الصعوبات بالتكنولوجيا الحيوية. فقد أعرب الفيزيائي المتبصر والمستقبلي فريمان دايسون (Freeman Dyson) عن أمله بأننا سنتمكن يومًا ما من استيضاح جينوم الغلاف الحيوي بكامله، ثم استخدام القدرة الحاسوبية الجبارة التي تبصّر أنها ستكون متوافرة في العقود المستقبلية لفهمه بالكامل. ربما سنتمكن عندها من تصميم نظام بيئي يوائم الكوكب المستهدف.
ولكنني أشك بأنه يمكن التقاط سلوك نظام بيئي بهذه الطريقة بمجرد اختزال الأعداد. حتى وإن كان كذلك، لعلَّ الحاسوب الخارق سيخبرنا بأنه ما من حلّ على الإطلاق يتلاءم مع البيئة المحسوسة لمقصدنا المنشود. أو لعله سيحدد أنَّ عشرات ملايين الأنواع ضرورية. وليس هذا فقط، لأنَّ التطور البيولوجي ينطوي على حيِّز كبير من المصادفة، بمعنى أنَّ نظامًا بيئيًا منقولًا لن يستمر إلى الأبد تمامًا كما جرى تصميمه منذ البداية، ولكن قد يتطور بطرق لا تتلاءم مع حياة البشر، مما يتطلب «إصلاحات في منتصف المسار» وما يترافق معها من هندسة بيولوجية على مستوى الكوكب.
من وجهة نظري، تجميع مخزون من الجينات ليس الأمل الأمثل، بل هو اكتشاف القوانين والمبادئ الخفية التي تدير تدفق وتنظيم المعلومات للأنظمة الحيوية – أو ما يمكن أن نسميه «برمجيات الحياة». أنا أعتقد أنَّ هناك أنماطًا أو تصاميم معلوماتية كونية في البيولوجيا، يمكنها أن تكون السمة المميزة للحياة مهما كان أساسها الكيميائي. فإذا فهمنا خواص هذه الأنماط وكيفية تغيُّرها مع الوقت، أو ما الذي يجعلها تتعطل، لعلنا سنتمكن من أن ننشئ نظامًا بيئيًا قابلًا للنقل، صغيرًا بما يكفي لنقله من الأرض، ولكنه متين بما يكفي ليتحمل ظروف الفضاء.
مثلما يستطيع مهندسو البرمجة تصميم لعبة كمبيوتر دون إعداد دارات الكمبيوتر، كذلك ربما يستطيع مهندسو البرمجة البيولوجية إعادة برمجة تنظيم وإدارة المعلومات في النظام البيئي الفضائي من دون كشف كل التفاصيل الجينية، وتقديم نظام ملائم لـ «اللعب» في عالم آخر.
الكائنات الميكروبية هي جزء أساسي واسع وغير مرئي من الحياة على الأرض.

01– طحلب بلانكتوني وحيد الخلية من نوع (Actinocylcus).
02- تعد بكتيريا العصيات اللبنية جزءًا طبيعيًا من أمعاء الإنسان والمهبل. وهي تساعد في الحفاظ على بيئة حمضية معادية للبكتيريا المسببة للأمراض.
03- بكتيريا زرقاء مثبتة للنتروجين – طحلب أزرق مخضر – من نوع (Gloeocapsa).
04- تعد طحالب الدياتوم جزءًا مهمًا من العوالق البحرية.
05- يشتهر التارديغرادا (دب الماء) بأنه نجا من الانفجار في الفضاء الخارجي.
06- تضم بكتيريا حليب الأم كل الأنواع الحميدة الموجودة في أمعاء الرضيع. وجدت الدراسات أن ٪30 من بكتيريا أمعاء الرضيع تأتي من حليب الأم، بينما ٪10 تأتي من الجلد المحيط بحلمة الثدي.
فرصة ضئيلة
لنفترض أنَّ الحلول لنظام بيئي مصغَّر قابل للحياة نجحت ذات يوم، وغادرت مهمة جبارة برحلة باتجاه واحد نحو النجوم، المقصد: كوكب يبعد عدة سنوات ضوئية، حيث سيتمكن مسافرو الفضاء، أو على الأرجح، سلالتهم، من بناء موطن جديد. الفلكيون اليوم شبه متأكدين من أنَّ درب التبانة يحتوي على الملايين، وربما البلايين من الكواكب المشابهة للأرض (وهذا يعتمد نوعًا ما على تعريفك لمصطلح «مشابهة للأرض»)، لذا ثمة كثير من الأراضي التي يمكن أن تختار من بينها.
في عدد من قصص الخيال العلمي، يطأ المغامرون الأبطال على كوكب مستوٍ ومخضوضر، يضم غلافًا حيويًا محليًا غنيًا، ويفضل أنها ليست حضارة عدوانية، ويعيشون هناك حياة رغيدة. للأسف، الأمر ليس بهذه البساطة. هناك فرصة ضئيلة للنظام البيئي الأرضي المصغر المستأصَل بعناية والمكتفي ذاتيًا أن يتعايش بسلام مع نظيره الفضائي (المفترض أنه أكثر تنوعًا)، وأن يتابع عمله كالمعتاد.
ولكن تلقي هذه المشكلة الضوء على عقبة أعمق وأكثر جوهرية لاستعمار الإنسان كواكب أخرى، ألا وهي وجود حياة محلية أو غير ذلك هناك.
تتصور كثيرًا من السيناريوهات الخيالية للإنسان في بحثه عن كوكب غني بحياة وافرة تؤمن حاجاته. والعالم الأمثل للاستعمار الإنساني هو عالم وفير بالأكسجين للتنفس والنباتات والحيوانات المحلية القابلة للاستهلاك البشري. ولكن مثل هذه الصورة تذروها الرياح أمام علم الأحياء الأولي.
تكون المواد العضوية قابلة للأكل فقط عندما تتوافق كيمياؤها الحيوية مع الكيمياء الحيوية للمستهلك. حتى على كوكب الأرض، الغالبية العظمى من الكائنات الحية ليست مناسبة للاستهلاك البشري. وليس هناك أي سبب يدعو إلى أن نفترض أن الكيمياء الحيوية على الأرض، المرتبطة بشكل وثيق بالظروف على كوكبنا وبحوادث التاريخ التطوري، هي كونية بالضرورة.
من السهل أن نتخيّل حياة مبنية على الكربون في عوالم أخرى تستخدم أحماضًا أمينية مختلفة، وجزيئات غشائية مختلفة، وما إلى هنالك. كما من السهل أن نتخيّل عالمًا مرآة بحيث يتم فيه استبدال الجزيئات العضوية المألوفة بصورها المنعكسة (أي الأحماض الأمينية اليمينية بدلًا من تلك اليسارية). في غالب الظن أن تكون هذه الأطعمة الفضائية كريهة الطعم وغير قابلة للهضم. (هذا التفكير المنطقي يجعل الاقتراح العَرَضي بأنَّ المخلوقات الفضائية القادمة إلى الأرض قد تختار أكل البشر اقتراحًا اعتباطيًا). والأسوأ من ذلك كلّه، قد تكون الحيويات المحلية عقبة تمنع من تأسيس نظام بيئي أرضي ثانوي منقول.


النهاية السعيدة ليست موثوقة
على أي حال، هناك وجه آخر لمشكلة التباين البيولوجي. فالكيمياء الحيوية التي تقدم نطاقًا قليلًا للاستهلاك تفرض أيضًا القليل من التهديد بالإصابة. وربما لن تكون الميكروبات والفيروسات الفضائية (إن وجدت) قادرة على مهاجمة الكائنات الحية الأرضية، أو أن تستشري فيها إن استطاعت أصلًا. والعكس بالعكس. إن «النهاية السعيدة» لفيلم )حرب العوالم ( بحسب ما قدمها ويل (Well)، حيث يستسلم سكان المريخ أمام الجراثيم الأرضية، ليست موثوقة ببساطة.
ستختفي هذه المسائل الآنفة في حال كان الكوكب المستضيف لا يملك حياة محلية، بمعنى، أن يكون قابلًا للعيش ولكنه غير مأهول – أرض مشاع على نطاق الكوكب. ولكن للأسف، لهذا السيناريو عقباته الخاصة، وإحداها جوهرية لبقاء الإنسان، ألا وهي الأكسجين.
الأكسجين عنصر مفاعل، ولا يستمر في الأجواء الكوكبية ما لم يتجدد. والكوكب الذي يحتوي على أكسجين جوي قابل للتنفس يدلُّ على وجود نبات، أو على الأقل ميكروبات، تقوم بالتركيب الضوئي. )ثمة مشروع مهم في البيولوجيا الفلكية يعنى ببناء نظام بصري فضائي قادر على التقاط البصمة الطيفية للأكسجين في أجواء الكواكب الواقعة خارج المجموعة الشمسية كبديل لالتقاط الحياة على ذلك الكوكب).
فإن لم يكن هناك حياة في الكوكب المنشود، من المحتمل ألا يكون هناك كميات كافية من الأكسجين الحر في الغلاف الجوي. رغم ذلك، إن إنشاء موطن على كوكب مجدب سابقًا، وتنفس الأكسجين المصنّع، أسهل بكثير من التعايش مع الغلاف الحيوي المحلي.
بعيدًا من الممارسات العملية لاستعمار كوكب آخر، ثمة مسائل أخلاقية مهمة على المحك. فإذا كان الكوكب يستضيف فعلًا بعض أشكال الحياة، تبرز مسألة ما إذا كان للبشر الحق بتقييدها أو تهديدها بزرع حياة أرضية في وسطها. وتعتمد التوجهات إزاء هذه المسألة على مدى أهمية استعمار البشر للكوكب من جهة، وعلى مدى تعقيد أشكال الحياة الموجودة فيه.
إن إحدى الدوافع لإرسال البشر إلى الفضاء هي ضمان سياسة تأمين ضد الكوارث الضخمة على كوكب الأرض. التي تُرى عادة كاصطدام مذنب أو كويكب كبير من شأنه أن يدمر الحضارة أو يقضي على نوعنا بأكمله. ولكن من وجهة نظري قد تكون جائحة مفاجئة، إما تحدث بشكل طبيعي أو بإطلاق عَرَضي لسلاح بيولوجي فتاك.
تسقط كل الرهانات
بأي حال من الأحوال، على مدى آلاف السنين، لم نفتقر إلى المخاطر المحتملة التي تهدد بإبادة الأنواع. فإذا كان كل ما يعترض طريق البقاء البشري هو بضع ميكروبات محلية في عالم آخر، قلّة هم من سيترددون في تجاهل «حقوق» هذه الميكروبات.
ولكن لو كان على الكوكب حياة نباتية وحيوانية معقدة، يجب أن يكون هناك اعتراض أخلاقي قوي على تلويثها بالكائنات الأرضية. حتى وإن كانت الكيمياء الحيوية لكلا شكلي الحياة مختلفة بحيث يمكن تجنب العدوى المباشرة، ما يزال من الممكن أن ينهب الغزاة الأرضيون بعض الموارد الرئيسة، فيستنزفوا النظام البيئي المحلي. وقد تنتشر الكائنات الأرضية كما انتشرت الأرانب في أستراليا، وتدفع بالحياة المحلية جانبًا، لتودي بها إلى الانقراض.
ربما سيُشحن الموضوع أكثر في حال كان الكوكب المقصود يستضيف حياة ذكية. في فيلم)آفاتار)، يشق البشر المتعطشون للموارد طريقهم عنوة في كوكب باندورا برغم انزعاج السكان المحليين، ومع أنَّ الغزاة البشر المؤذون يتلقون قصاصهم العادل على الطريقة الهوليوودية، إلا أنه ما من ضمان بأنَّ الأجيال البشرية المستقبلية ستحترم حقوق المخلوقات الفضائية، ولا يمكننا أن نتأكد من أنَّ المخلوقات الفضائية ستحترم حقوقنا.
حتى المخلوقات الفضائية المتقدمة عنا تكنولوجيًا واجتماعيًا قد لا تشاركنا قيمنا الأخلاقية. ولأننا لا نستطيع أن نخمّن دوافع وتوجهات المخلوقات الفضائية، عندما يتعلق الأمر باحتمال مواجهة البشر لحضارة خارج نطاق الأرض، تسقط كل الرهانات، ويصعب التكهن بالنتيجة.
استمرارية الإنسان.. لماذا؟
يبدو أنه من المتفق عليه بشكل عام أن يصبح السفر إلى الفضاء جزءًا من مصيرنا. لماذا؟ الإجابة الواضحة هي لطالما تمتع البشر بحب الترحال، وبالفضول، وبالرغبة في استكشاف العالم من حولهم والبحث عن كلأ جديد. قد يكون هذا صحيحًا، ولكن لطالما شنَّ البشر الحروب واضطهدوا الأقليات أيضًا؛ ولأنَّ هناك شيئًا مغروسًا في عمق الطبيعة الإنسانية، لا يعني بالضرورة أن يكون دافعًا نبيلًا.
ما يسهل تبريره هو نظرية أنَّ المجتمع الإنساني قد أنتج كثيرًا من المنفعة، مما سيكون من الجيد حفظها من أجل الأجيال المقبلة. قد يختار البشر خوض الاستعمار الفضائي ليحافظوا على نوعنا، وعلى شعلة حضارتنا، حية في مكان ما في الكون.
إنَّ تأسيس مستوطنة دائمة على كوكب آخر، قد يمكِّن الحضارة الإنسانية من أن تستمر حتى وإن ضربت كارثة الأرض. ولكن يمكن الرد على هذه الحجة بأنها تتبنى نظرة مبالغًا فيها تجاه أهمية الإنسان وقيمته، وأنَّ الحياة، على عكس نوعنا وحضارتنا المحدودة، هي التي يجب أن تزدهر وتنتشر في أنحاء الكون.
يمكننا فعلًا أن نبدأ بإرسال الميكروبات في كبسولات صغيرة إلى المجموعة الشمسية إن كنا مهتمين إلى هذا الحد، ولكن من الصعب تخيّل حماس كبير لمثل هذا المشروع. لعل زرع مجرة مجدبة بالحمض النووي سيطلق العنان لخيال البشر ذات يوم (بافتراض أنَّ المجرة لا تعج بالحياة فعلًا)، ولكن أصبحت فتنة السفر الفضائي متأصلة في المثل العليا لمغامرات الإنسان وتقدُّمه.
عندما خطا نيل آرمسترونغ (Neil Armstrong) تلك الخطوة الصغيرة على سطح القمر، تم الترحيب فيها بنحو واسع على أنها الخطوة الأولى على سلم يصل إلى النجوم. ولكن بعد مرور نصف قرن، بعد أن بدا البشر عالقين في المدار الأرضي المنخفض، أصبح احتمال السفر بين الكواكب، ناهيك عن السفر بين النجوم، قاتمًا. إنَّ مشكلات علم الأحياء الدقيقة هذه تضاعف ما هو بالفعل تحدٍّ هائل في تصميم المركبات الفضائية وأنظمة الدفع والتكنولوجيا الطبية. ومع ذلك، إذا كان البشر يرغبون في تأمين مستقبل طويل الأمد في كون لا مبالٍ وخطير في بعض الأحيان، فإن بعض أشكال الهجرة الكونية بحاجة إلى أن تكون جزءًا من خطتنا بعيدة المدى.
