دارات العرب رؤية جيولوجية

أ.مصطفى يعقوب عبد النبي هيئة المساحة الجيولوجية – مصر

لم يترك المؤلفون العرب القدماء شاردةً أو واردةً مما حفلت به صحراء شبه الجزيرة العربية من معالم وظواهر طبيعية، إلا وكان لهم بها علم موثوق مبني على الرؤية و المشاهدة، فجاءت أجلى ما تكون من ناحية الوصف شعرًا ونثرًا، ومن هنا فإن العرب القدماء قد برعوا أيما براعة فيما يطلق عليه الجغرافيا الوصفية (Descriptive geography)، أما التعليل لهذه الظاهرة أو تلك أو السبب في تكوّن هذا المعلم أو ذاك، فقد وفقوا أحيانًا، ولم يوفقوا في أحيان أخرى لسبب بسيط للغاية وهو أن العلم اللازم للتعليل لم تتضح معالمه إلا بعد أن قطع العلم شوطًا طويلًا، وخاصة منذ منتصف القرن التاسع عشر.

ومن الأشياء التي وفق القدماء في وصفها وتعليلها في الوقت نفسه، هي تلك الظاهرة الطبيعية التي تحدث في الصحراء والتي تعرف بـ«الرمال الموسيقية»، فقد أجاد العرب القدماء في تعليلها بما يناسب معطيات العلم الحديث، سابقين فيها علماء الغرب بقرون عديدة(1). وعلى الرغم من كثرة المعالم والظواهر الطبيعية الصحراوية من جبال وتلال ووديان ومرتفعات ومنخفضات … ، وجميعها خضعت للدراسة والبحث والتفسير العلمي من جموع الباحثين من المملكة ومن خارجها، إلا أن هناك معلمًا من معالم الصحراء ظل من دون تفسير علمي جازم حتى الآن، وهو ما يعرف بـ«الدارات» ولعلها المرة الأولى التي يُفسّر فيها سبب تكون الدارات بمعطيات علم الجيولوجيا، فهو العلم الأقدر على تفسير مثل هذا النوع من معالم الصحراء استنادًا لعاملين هما وصف الدارة كما جاء في أقوال القدماء وأماكن مواقعها في شبه الجزيرة العربية. ويتلخص تعريف الدارة من كتب القدماء بأنها: «جوبة تحفها الجبال. وقيل أيضا: الدارة رمل مستدير قدر ميلين تحفه الجبال»(2). وقبل الخوض في تفسير تكوّن الدارات يجب أن نذكر أمرين: أولهما: لمحة وجيزة عن جيولوجية المملكة العربية السعودية. وثانيهما: معلم مهم من معالم المملكة قُدّر له أن يكون له الدور المهم في تفسير تكوّن الدارات وهو الحرات.

أولًا: التكوين الجيولوجي للمملكة العربية السعودية:

تتكون شبـه الجزيرة العربيـة جيولوجيــا، وبصفـة عامـة من وحدتين رئيستين همـا كتلــة الدرع العربي والغطــاء الرسوبي.

 كتلـــة الدرع العربي:

تشكل هذه الكتلــة تقريبا ربع مساحــة المملكة العربية السعوديـة وتتكون أساسًا من صخور القاعدة الأساسية من عصر ما قبل الكمبريي، كمـا تغطـى بعض أجزائـه برسوبيات حديثـة أو حمم بازلتية من الحقب الثلاثي حتى العصر الحديث. وتمتد صخور الدرع العربي داخل البلاد فيما وراء الشريط الساحلي الضيق ومكونة سلسلـة جبال البحر الأحمر بالمملكـة العربيـة السعوديـة، يتراوح امتداد الدرع داخل البلاد من 50 – 700 كيلو مترًا، ويضم هضبـة الحجاز وجبال عسير في الجزء الجنوبي من الدرع، كما يضم الجزء الأوسط من هضبـة نجد، في القطاع الشمالي منـه، وحيث يمتد إلى أقصى اتساع له داخل البلاد تجاه الرياض. ويتكون الدرع العربي من صخور أساسيــة متحولة قديمـة جدًا معظمهـا ذو أصل ناري أو من الطفوح البركانيـة، وأقدمهـا في جبال عسير حيث يتراوح عمرهـا الجيولوجي المطلق من 1000 – 1200 مليون سنـة، تعلوهـا صخور جبال الحجاز والمكونة أساسًا من صخور بركانية متحولة مع تبادلات من رسوبيات فتاتيـة، تمثل فترات الهدوء بين النشاط البركاني والذي امتد طوال هذه الحقبـة الزمنيـة التي يتراوح عمرها الجيولوجي بين 600 – 960 مليون سنة، وقد امتد النشاط البركاني القديم في هذه الفترة الزمنية حتى غطى هضبـة نجد الوسطـى وتوقف تقريبا مع بدايـة حقب الحياة القديمـة، أو مع نهايـة حقب ما قبل الكمبري، وتتميز صخور الدرع العربي خلال هذه الفترة، التي يقدر عمرها الجيولوجي بين 520-600 مليون سنــة، بتداخلات جرانيتية ضخمـة في الجزء الجنوبي من الدرع «مناطق الحجاز»، وأخرى جرانيتيـة ومعها رسوبيات كلسيــة ورملية في الجزء الشمالي «هضاب نجد الوسطــى».

 الغطــاء الرسوبي:

بعيدًا عن ساحل البحر الأحمر، حيث يمتد شريط ساحلي ضيق من رسوبيات العصر الكريتاوى العلوي والحقب الرباعي، فإن أراضي المملكـة العربية السعودية الممتدة بعيدًا عن كتلـة الدرع العربي تغطيهـا رسوبيات يبدأ عمرهـا الجيولوجي من أوائل حقب الحياة القديمـة «العصر الكمبري» ويمتد خلال معظم العصور الجيولوجية حتى عصر البليوسين، ويقدر السمك الإجمالي لهذه الرسوبيات بحوالي 5500 مترًا(3).

ثانيا: الحرات

الحرات ومفردها حرة هي:» أرض ذات حجارة سود نخرة كأنها أحرقت بالنار»(4). وهي من وجهة النظر العلمية «طفوح بازلتية تكونت من الصخور البركانية المنصهرة التي تدفقت من باطن الأرض على سطحها من خلال فوهات بركانية. وتنتشر معظم الحرات في الجزء الغربي من المملكة وتعلو صخور الدرع العربي، وتمتد بشكل رئيسي من جنوب المملكة إلى شمالها على الخط البركاني (مكة – المدينة – النفود)»(5). ويحتوي الجزء الغربي من شبه الجزيرة العربية على حقول اللابة «الحرات» وتشكل واحدةً من أكبر مناطق البازلت في العالم ويرتبط التاريخ البركاني من حقب الحياة الحديثة للحرات بالخط البركاني الذي يبلغ طوله 600 كيلومترًا ويعرف باسم الخط البركاني لمكة – المدينة – النفود(6).

الدارات والرؤية الجيولوجية:

أولًا: يرجع الفضل في تجميع كل ما كتب عن دارات العرب إلى علّامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر –رحمه الله– فقد بحث فأوفى البحث، واستقصى فأجاد الاستقصاء، وحفلت أعداد شتى من مجلة «العرب» بكل شاردة وواردة عن الدارات ففي البداية يقول: «من أدق ما ورد عن المتقدمين في تحديد الدارة قول أبي علي الهجري: «الدارة: النبكة السهلة حفتها الجبال، ومقدار الدارة خمسة أميال في مثلها. ويستطرد معللًا اهتمام الشعراء بالدارات بقوله: «أما لماذا حفل الشعر العربي القديم بذكر الدارات فذلك لأن القوم يتخذونها منزلًا، فهي لينة سهلة لمبارك الإبل، ولمرابض الغنم ولجلوس القوم، ثم هي مرتفعة عن مجاري السيول، محاطة بجبال أو تلال تحمي من الرياح في الغالب، ولخصوبة أرضها فهي مرتع للبهم …»(7). ولم يتفق المؤلفون القدماء على عدد الدارات فالأصمعي (216 هـ) قد أحصى ست عشرة دارة(8)، أما ياقوت الحموي (626 هـ) فيبدو أنه قد أجهد نفسه في إحصاء الدارات التي زادت عن ستين دارة، فقد ذكر في معجمه الشهير «معجم البلدان»: «دارات العرب وهي نيف على ستين دارة استخرجتها من كتب العلماء وأشعار العرب المحكمة، وأفواه المشايخ الثقات حسب جهدي وطاقتي …»(9). غير أن الفيروزابادي (817 هـ) قد ذكر في «القاموس المحيط» قوله: «دارات العرب تنيف على مائة وعشر لم تجتمع لغيري مع بحثهم عنها»(10).

\

تطور مراحل تكون الكالديرا

والحق أن الجاسر قد أغنانا عن البحث في بطون مؤلفات التراث عن الدارات، فقد استخرج من مؤلفات التراث الشعري والنثري، كل ما يتعلق بكل دارة على حدة ولاسيما موقعها الجغرافي، ويعد بحثه عن الدارات من أوفى البحوث وأكملها في هذا الشأن لاسيما الموقع الجغرافي ولقد تتبعنا ما كتبه الجاسر في هذا الشأن فوجدنا أن الدارات جميعها تقع في نطاق الدرع العربي. ثانيًا: على الرغم مما كُتب عن الدارات، غير أن هناك جانبا لم يتعرض له الباحثون وهو أسباب تكوّن الدارات أو بالأحرى كيف تكوّنت؟ باستثناء باحث واحد وهو الدكتور عبد الله يوسف الغنيم الذي قسم الدرات إلى نوعين: الأول وتمثله دارة عسعس ودارتا وسط والثاني، وتمثله دارة ثريان، ويقول في سبب تكون الدارات: «أن هناك عاملين يتضافران في تشكيل دارة عسعس ودارتي وسط، أولهما السيول التي تنحدر من فوق السطوح الجنوبية لجبلي عسعس ووسط، والرياح الشمالية الغربية التي تسفي رمال نفود العريق. أما النوع الآخر من الدارات وهي دارة ثريان والتي تكون فيها استدارة الجبال شبه كاملة، فإن السبب في ذلك فيما يبدو هو استقطاب أحد الأودية للمسايل الجبلية …»(11).

ولنا حيال رأي الدكتور الغنيم ملاحظتان:

  • أن تفسيره لتكوّن الدارات تفسير جغرافي بامتياز، وهو أمر منطقي يتماشى مع منطق الدكتور الغنيم، لأن الرجل من خيرة علماء الجغرافيا المعدودين على مستوى العالم العربي، فليس غريبا عليه أن يتخذ مثل هذا التفسير.
  • من الواضح من الحديث أن الدكتور الغنيم لم يجزم برأي قاطع، ففي البداية يتحدث عن «تشكيل دارة عسعس ودارتي وسط» أما عن دارة ثريان فيقول: «فإن السبب في ذلك فيما يبدو».

ثالثًا: من الواضح مما سبق أن الدارات والحرات كلهما ضمن نطاق الدرع العربي، ومن الغريب أن هذا الارتباط المكاني أو بالأحرى التوافق في الموقع الجغرافي لم يلفت، كما نعتقد، انتباه أي من الباحثين في جغرافية المملكة، وعلى الرغم من أن الدكتور الغنيم قد أقر بأن «الدارات يتوزع أغلبها في نطاق الدرع العربي»(12) غير أنه قد غاب عنه أهمية هذا الملول الجغرافي. 

رابعًا: من الواضح مما سبق عن جيولوجية منطقة الدرع العربي أنها قد تعرضت عبر تاريخها الطويل إلى نشاط بركاني مستمر، الأمر الذي يمكن القول معه أنها حوت، بالضرورة، على الأنواع المختلفة من البراكين. وعلى الرغم من تعدد تصنيفات البراكين فالبعض يصنف البراكين حسب درجة هدوئها ونشاطها، غير أن أشهر التصنيفات وأكثرها تداولًا في مراجع الجيولوجية تصنيف البراكين حسب الشكل الخارجي إلى ثلاثة أقسام أولها: البراكين القبابية (Domes) وثانيها: البراكين الدرعية (Shield volcanoes) وثالثها: البراكين الطباقية (Stratovolcanoes) وتعرف أيضًا بالبراكين المركبة (Composite volcanoes) وما يهمنا هنا هو النوع الأخير من أنواع البراكين، فالبراكين الطباقية وهو من أكثر أنواع البراكين شيوعًا وانتشارًا وتتركب مخروطات هذه البراكين من الحمم البركانية ومواد الحطام الصخري حول الفوهة نتيجة للنشاط البركاني، وتكوّن المواد التي تخرج من البركان أثناء الانفجارات المتتابعة طبقات بعضها فوق بعض، ومع تراكم طبقات الحمم البركانية فإنه يحدث انهيار للبركان؛ لأن جزءًا من الصهارة قد استنفذ أثناء نشاط البركان، ومن جراء هذا الانهيار تحدث حفرة دائرية عميقة هائلة الاتساع، ثم ما تلبث هذه الحفرة البركانية أن تمتلئ بالمياه العذبة نتيجة لسقوط الأمطار عليها وتسمى في هذه الحالة كالديرا (Caldera). والكالديرا منخفض بركاني كبير وغالبًا ما يصل قطره إلى 25 كم وهو محاط بحوائط يصل ارتفاعها إلى كيلومترًا واحدًا(13)، ويوضح الشكل المرفق مراحل تكون الكالديرا بداية من النشاط البركاني وخروج الحمم البركانية «اللابة» من فوهة البركان الرئيسية، ومع استمرار النشاط البركاني تنهار جوانب البركان مكونة منخفضًا كبيرًا، ما يلبث أن تملأه مياه الأمطار لتصبح بحيرة عذبة المياه، تعرف في أدبيات الجغرافيا والجيولوجيا بـ»الكالديرا». وتعد الكالديرا من فوائد البراكــين التي ترتبط ارتباطًا وثيقـًا بمعالم سطح الأرض والتي تعد من أهم التراكيب الجيولوجيـة المرتبطـة بالنشاط البركانـي. إذ إن الكالديرا عبارة عن منخفضات على هيئـة أحواض مستديرة، وعندمـا تسقط الأمطار عليهـا تصبح بحيرة من المياه العذبـة(14). 

الخلاصة:

مما سبق، سواءً مما جاء في مؤلفات التراث فيما يتعلق بدارات العرب من ناحية صفاتها أو مواقع وجودها المتفق مع مواقع وجود الحرات، كذلك المعطيات العلمية الخاصة بجيولوجية المملكة العربية السعودية، أو حتى المعطيات العلمية الخاصة بالبراكين، سوف نجد ما يلي: -1 من ناحية الشكل فإن الدارة جوبة تحفها الجبال «في مؤلفات التراث» والكالديرا لها نفس الشكل منخفض بركاني كبير «في لغات مراجع الجيولوجيا «. -2 إن الدارة والكالديرا كلتيهما من أصل بركاني، فالدرات جميعها تقع في نطاق صخور الدرع العربي الحافل بالنشاط البركاني عبر تاريخه الجيولوجي، فضلًا عن أن الدارات تتوافق في الموقع الجغرافي مع الحرات التي هي أصلا نتيجة للنشاط البركاني.

مما سبق جميعه وطبقا للرؤية الجيولوجية وهي الرؤية الأجدر على تفسير نشأة وتكوّن الدارات، فإن الدارة «في لغة العرب» ما هي في حقيقة الأمر سوى الكالديرا «في لغات الغرب». وإذا كانت الدارة مملوءة بالرمال والكالديرا مملوءة بالمياه العذبة، فإنما يرجع ذلك إلى الإقليم المناخي الذي تتبعه الدارة أو تتبعه الكالديرا، فالدارة تتبع المناخ المداري الذي يتميز بالجفاف والحرارة، بينما الكالديرات تتبع جميعها مناخ العروض الشمالية السائدة في النصف الشمالي من الكرة الأرضية، والتي تتميز بالبرودة وزيادة معدل تساقط الأمطار. وتبقى لنا بعد ذلك كلمة أخيرة وهي؛ أن الدول عادة ما تحيط معالمها الطبيعية والأثرية والتاريخية بسياج من الحماية، فيما يعرف في أدبيات العصر الحاضر بـ»المحميات الطبيعية». وإذا نظرنا إلى دارات العرب سوف نجد أنها أولى بأن تكون ضمن «المحميات الطبيعية» في المملكة فهي فضلًا عن كونها تراثًا طبيعيًا ومعلمًا من معالم الجيولوجيا النادرة، هي أيضًا تراث ثقافي عربي أصيل تزخر بذكره مؤلفات التراث العربي شعرًا ونثرًا، سواءً في أدبيات اللغة أو الأدب أو التاريخ.

Share This