دور الذكاء الاصطناعي
في التشخيص المبكر للسرطان
د. يوسف حلبي كلية الطب – الجامعة اللبنانية – لبنان
يشكل السرطان سببًا كبيرًا في تزايد معدل الأمراض والوفيات في جميع أنحاء العالم، حيث تم توثيق ما يقدر بنحو 19.3 مليون حالة سرطان جديدة في عام 2020، ومن المتوقع أن يرتفع هذا الرقم خلال العقود القليلة القادمة، حيث تشير التوقعات إلى أنه سيتم تشخيص 30.2 مليون حالة سرطان جديدة في عام 2040. على الرغم من التطورات الكبيرة في تشخيص السرطان وإدارته والتي أدت إلى انخفاض معدل وفيات السرطان خلال العقدين الماضيين، فقد تم توثيق 10 ملايين حالة وفاة مرتبطة بالسرطان في عام 2020. لذلك، من الضروري تعزيز الابتكار في مجال الرعاية الصحية وخاصة رعاية مرضى السرطان، حيث لا يزال التشخيص المبكر للسرطانات يمثل تحديًا عالميًا كبيرًا. إن مبادرات الفحص الفاعل والمبكر محدودة بالدعم المالي، ووثائق التأمين التي لا تغطي جميع الفئات السكانية المعرضة للخطر. ومع ذلك، فإن توسيع مبادرات الفحص دون الحاجة القائمة على الأدلة يمكن أن يؤدي إلى عبء مالي كبير وإهدار موارد قيمة في الأنظمة الصحية ذات الموارد المحدودة.

على الرغم من أن خيارات علاج السرطان قد توسعت في العقود الماضية، إلا أن مجموعة قليلة فقط من المرضى تستفيد من أدوية السرطان الجديدة، كما أن التكلفة نسبة إلى الفائدة للعلاجات الحالية هي دون المستوى المطلوب. وبالتالي، هناك حاجة ملحة لطرح علاج للسرطان ميسور التكلفة ومخصصًا لحالات معينة من المرضى. إن تطوير علاجات جديدة مضادة للسرطان عملية تتطلب الكثير من الوقت والموارد، وحتى بعد اجتياز الدواء للاختبارات ما قبل السريرية وخضوعه لتجارب سريرية، غالبا ما يكون معدل النجاح منخفضًا، وتصبح مشاركة المريض في مثل هذه العلاجات أمرًا صعبًا. على الرغم من هذه التحديات، تمت الموافقة على 64 تدخلًا يركز على تشخيص السرطان أو علاجه من قبل اتحاد الغذاء والدواء في الولايات المتحدة في عام 2020. في المقلب الاخر، تؤدي الوتيرة السريعة لأبحاث السرطان إلى فائض من المؤلفات ذات الصلة مما يشكل تحديًا للأطباء الذين يحاولون تطبيق أحدث التوصيات في ممارستهم، حيث تكون البيانات التي يتم الحصول عليها من مقدمي الرعاية الصحية في قسم الأورام وأنظمة الرعاية الصحية معقدة ومتنوعة. فإن ملاحظات الأطباء المكتوبة والنتائج المخبرية وبيانات التشريح المرضي وبيانات التصوير والبيانات الصحية التي تنتج عن المريض هي أمثلة على المعلومات المتولدة في هذا النطاق، وغالبًا ما تكون البيانات الطبية الخام ذات صلة محدودة. وبالتالي فإن الحصول على رؤى وتحليلات سريرية ذات مغزى يعتمد على استخراج البيانات ومعالجتها، وتحليلها، وتفسيرها، وتكاملها. وبالنظر إلى أن قدرة الدماغ البشري على معالجة كميات كبيرة من المعلومات محدودة، هناك حاجة ملحة لتنفيذ استراتيجيات بديلة لمعالجة البيانات المتولدة الضخمة. بالإضافة إلى زيادة توافر البيانات، عززت زيادة التخزين وقوة الحوسبة تطوير تقنيات معالجة البيانات، مثل التعلم الآلي (Machine Learning) والذكاء الاصطناعي(Artificial Intelligence) ، والتي أصبحت أدوات ذات أهمية متزايدة لمعالجة القضايا المعقدة في رعاية مرضى السرطان، حيث تسلط مجموعة متزايدة من الدراسات الضوء على الذكاء الاصطناعي كأداة ناشئة للمساعدة في تخصيص استراتيجيات رعاية السرطان من خلال تحليل البيانات المتاحة، وقد حددت دراسة حديثة 97 تجربة سريرية مسجلة للذكاء الاصطناعي في تشخيص السرطان، بدأ معظمها بعد عام 2017.
يمكن وصف الذكاء الاصطناعي بأنه فرع من علوم الكمبيوتر الذي يتعامل مع محاكاة السلوك الذكي في أجهزة الكمبيوتر. يعتمد الذكاء الاصطناعي على أجهزة الكمبيوتر التي تتبع الخوارزميات (Algorithms). التي أنشأها البشر أو تم تعلمها من خلال طرق الحوسبة لدعم القرارات أو تنفيذ مهام معينة. أما التعلم الآلي فهو حقل فرعي من الذكاء الاصطناعي يمثل العملية التي يستطيع الكمبيوتر من خلالها تحسين أدائه من خلال الدمج المستمر للبيانات التي يتم إنشاؤها في نموذج تكراري. ويمثل التعلم العميق (Deep Learning) حقل فرعي من التعلم الآلي حيث يتم وضع الخوارزميات الرياضية موضع التنفيذ باستخدام وحدات حسابية متعددة الطبقات تشبه الإدراك البشري. تشمل هذه الوحدات الحسابية شبكات عصبية ذات أنواع معمارية مختلفة على سبيل المثال، الشبكات العصبية المتكررة (Recurrent Neural Networks)، والشبكات العصبية التلاففية (Convolutional Neural Networks) والذاكرة الطويلة المدى (Long Term Memory). قد يكون للشبكات العصبية الاصطناعية بنية مختلفة في كيفية تطبيق القواعد الرياضية على البيانات ويمكن أن تكون مفيدة في تحليل البيانات غير المهيكلة، إذ تعد البيانات غير المهيكلة نوعًا شائع جدًا من البيانات الطبية المستخدمة لتسجيل المعلومات النوعية والذاتية التي يتم الحصول عليها عادةً من خلال تفاعلات المريض مع مقدم الرعاية الصحية أو من خلال التصوير الإشعاعي. لذا، يمكن تطبيق الذكاء الاصطناعي على البيانات النصية غير المهيكلة من خلال تقنيات معالجة اللغة الطبيعية (Natural Language Processing) والشبكات العصبية المتكررة التي تحتوي على خوارزميات التعلم العميق المفيدة بشكل شائع لهذه المهمة. في المقابل، تعد الشبكات العصبية التلافيفية أكثر بنيات الذكاء الاصطناعي استخدامًا والواعدة في استكشاف ملفات التصوير الإشعاعي. ويشمل تطوير نماذج التعلم الآلي والتحقق منها، تحديد المشكلة، جمع البيانات، المعالجة، التدريب، التحقق الداخلي، الاختبار، التحسين، التقييم، وأخيرًا التحقق الخارجي، حيث تكون كل خطوة أساسية لإنشاء نموذج موثوق للتعلم الآلي يمكن تطبيقه في الممارسة السريرية. يجب مراقبة النتائج بعد تطبيق أي نموذج للتحقق من هبوط الأداء، وذلك لضمان اتساق النموذج. علاوة على ذلك، يجب تقييم الفائدة السريرية لنماذج التعلم الآلي في التجارب السريرية المستقبلية باستخدام مقاييس محددة لكل مشكلة سريرية.

من ناحية أخرى، سمح استكشاف الكم الهائل من البيانات التي تم التقاطها بواسطة السجلات الصحية الإلكترونية للباحثين بتحديد أنماط المعلومات ذات الصلة سريريًا باستخدام البيانات الفردية والطبية، إذ تنظم هذه السجلات البيانات في بنية قياسية، والتي يمكن معالجتها باستخدام خوارزميات معالجة اللغة الطبيعية القائمة على الذكاء الاصطناعي. يمكن أن تكون هذه أداة فاعلة من حيث التكلفة لدعم اتخاذ القرارات الطبية، إذ يمثل التشخيص العميق للمريض مثالًا على الاستخدام الآلي لبيانات المريض من قواعد بيانات السجلات الصحية الإلكترونية واسعة النطاق للتنبؤ بالنتائج المرجوة. في هذا النموذج، تتم معالجة معلومات السجلات الصحية الإلكترونية الخام بطبقات متعددة من الشبكات العصبية لتحفيز التحليلات ذات الصلة سريريًا مثل مخاطر تطور المرض. وتتطلب قابلية تطبيق مثل هذه النماذج في أوضاع الحياة الواقعية التغلب على مجموعة من العقبات مثل توحيد البيانات، وتطوير البنية التحتية التكنولوجية، ونشر ثقافة البيانات التنظيمية.


يمكن أن يكون التصوير الطبي أيضًا مصدرًا للمعلومات التنبؤية، إذ يمكن لعلم الأشعة تقويم وتوقع المعلومات ذات الصلة سريريًا في علم الأورام. كما يمكن نظريًا دمج علم الأشعة بسهولة في رعاية مرضى السرطان، بسبب التصوير الذي يتم إجراؤه بشكل روتيني لتشخيص السرطان ومتابعة المريض، مما يمكن أيضًا استخدام أنواع أخرى من المعلومات، مثل البيانات الجينية، لأغراض تنبؤية. ويعد تصنيف المخاطر ومضاعفات العلاج والاستجابة للعلاج بعضًا من الخصائص التنبؤية التي يمكن الوصول إليها باستخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعي. ولكن لا يزال أمامنا طريق طويل إذ يعتبر تعليم أصحاب المصلحة عاملًا رئيسًا للنجاح. ويمكن أيضًا تحسين تشخيص السرطان باستخدام الذكاء الاصطناعي إذ أظهر تنظير القولون المدعوم بالذكاء الاصطناعي أنه تدخل فاعل من حيث التكلفة من خلال تحديد الاورام الحميدة بكفاية ومن ثَمَّ لا تتطلب الاستئصال. لن يؤدي ذلك إلى توفير موارد الرعاية الصحية فحسب، بل سيمنع أيضًا الأحداث السلبية من نهج العلاج الأكثر توغلًا إذ يسمح التشخيص الدقيق للأورام السرطانية بتقليل العلاج المفرط. على سبيل المثال، أظهرت خوارزميات الذكاء الاصطناعي التي تدعم تقويم صور التنظير المهبلي دقة عالية في التنبؤ بالكتل ما قبل السرطانية في فحص سرطان عنق الرحم.

ترجع العديد من الابتكارات في رعاية مرضى الأورام إلى الكم الهائل من المعلومات المستمدة من الخصائص البيولوجية والسريرية الفردية للمرضى (مثل علم الجينوم والأشعة والأيض) وتطوير المؤشرات الحيوية والعلاجات المستهدفة وتقنيات التصوير وأجهزة المراقبة اللاسلكية. فقد ظهر الذكاء الاصطناعي كأداة لمساعدة الأطباء على تقديم رعاية أكثر دقة وأكثر شخصية. يمكن أن تكون التوصيات الناتجة عن تحليل البيانات بكمياتها الهائلة مفيدة في تطوير الطب الشخصي إذ هناك عدد من العمليات التي يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون لها تأثير كبير بما في ذلك الوقاية من السرطان واكتشاف الأدوية والتدخلات القائمة على الجينوم. ففي علم الأحياء الجزيئي، يعزز الذكاء الاصطناعي رؤى فريدة وتطورات في فهم بيولوجيا الورم من خلال التعاون بين علماء الأحياء وعلماء الكمبيوتر. فإن السرطان هو أحد أمراض الجينوم، لذلك لا عجب أن علم الأورام قد استفاد بشكل خاص من ابتكارات الذكاء الاصطناعي. علاوة على ذلك، تسمح الخوارزميات الجديدة التي تتنبأ بوقت انتظار جراحة السرطان باتباع نهج شخصي قبل البدء بإعادة التأهيل مما قد يؤدي إلى نتائج جراحية أفضل. كما توفر أنظمة الذكاء الاصطناعي بيانات دقيقة وتحليلات للصور، ولكن النتائج تكون مفيدة فقط إذا تم التحقق من صحتها وقابليتها للتفسير ومعانيها الإكلينيكية. فيتطلب الدمج الناجح للأنظمة القائمة على الذكاء الاصطناعي في الممارسة السريرية تدريب المستخدمين المستهدفين والتعليم الأساسي على الأساليب لجميع أصحاب المصلحة، بما في ذلك حدودها ومعضلاتها الأخلاقية. تعد نماذج الذكاء الاصطناعي أيضًا ذات قيمة في الحالات المعقدة مثل المرضى الذين يعانون من سرطان أولي غير معروف، والذي لا يزال يمثل 1-2 % من السرطانات التي يتم تشخيصها حديثًا، كما أنها قادرة على تصنيف موقع منشأ الورم النقيلي (Metastatic) بدقة %83. فتعتبر مثل هذه التقنيات ذات قيمة خاصة لأن معظم المرضى لا يستطيعون الوصول إلى توصيف واسع النطاق لأورامهم. يبرز هنا دور الذكاء الاصطناعي في علم الأورام الدقيق حيث يمكن أن يعزز القدرات البشرية في صنع القرار السريري مما يسهل تفسير البيانات المتنوعة والمعقدة بشكل متزايد وتطبيقها في إطار الرعاية الشخصية.


على الرغم من تطبيق العديد من المنظمات للخوارزميات القائمة على الذكاء الاصطناعي لمحاولة تقييم البيانات، إلا أن ترجمتها في الممارسة الإكلينيكية لا تزال تمثل تحديًا، حيث تشمل العوائق القيود المفروضة على جمع البيانات والتدريب، وندرة التحقق السريري، والصعوبات في تعليم المستخدم والمبادئ التوجيهية الأخلاقية والتنظيمية. كما ترتبط التحديات أيضًا بدقة وأهمية المعلومات المجمعة إذ يجب أن تكون البيانات المفيدة ذات صلة وذات جودة عالية وقابلية للمعالجة. التحدي الرئيس الآخر في علم الأورام الدقيق هو دمج البيانات الناتجة من أنواع مختلفة من البيانات الجينية ومصادر متعددة للمعلومات للتنبؤ بالعلامات الحيوية أو النتائج السريرية. بالإضافة إلى ذلك، هناك جهل نسبي في المجتمع الطبي فيما يتعلق بالذكاء الاصطناعي وطرقه وتطبيقاته. لذا يعد تثقيف جميع أصحاب المصلحة بما في ذلك المرضى ومقدمي الرعاية ومديري الأعمال أمرًا ضروريًا في سبيل ترجمة التقدم إلى رعاية عالية الجودة. ويعد الدمج السلس لأي أداة جديدة في سير العمل السريري أمرًا بالغ الأهمية لنجاحها على المدى الطويل وعلى الرغم من أنه يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي لخفض التكاليف، إلا أن هناك حاجة إلى استثمارات كبيرة في البنية التحتية لتمكين تطبيقه. فإن تخزين البيانات وقوة الحوسبة مكلفان للغاية، وتعتبر الموارد البشرية مهمة للتطبيق المناسب لهذه الأدوات. من ناحية أخرى، أصبحت الخدمات المعلوماتية السحابية (Cloud data services) أكثر انتشارًا ويمكن أن تقلل من الحاجة إلى الاستثمارات الأولية في مجموعات الحوسبة عالية الأداء لمؤسسة واحدة. ومع ذلك، لا تزال تكاليف التخزين ووقت الحساب تتكبد نفقات كبيرة، إلا أنه على الرغم من أن تكاليف تطوير الذكاء الاصطناعي وتنفيذه قد يشكل تحديًا، فإن الاستثمار الأولي قد يؤدي إلى تعزيز كبير للعملية في مجال الرعاية الصحية بأقل تكاليف إضافية في المستقبل.