سبعة‭ ‬أخطاء‭ ‬فادحة

عن‭ ‬الوراثة

  Carl Zimmer – Skeptical Inquirer – 28/05/2019 ترجمة‭ ‬أ‭ .‬ديمة‭ ‬أبوظهر

لو قال أحدهم: «أظن أنه موجود في حمضي النووي»، لن تسمع أحدًا يجيب: «حمض – ماذا؟» فجميعنا نعلم ما هو الحمض النووي، أو على الأقل نظن أننا نعلم.

منذ سبعة قرون بيّن العلماء أن الحمض النووي هو جزيئة الوراثة.  ومنذئذٍ، جعلتنا البرامج الإخبارية، والتدفق الثابت للكتب، وحلقات مسلسل (CSI) متأقلمين مع فكرة أن كل خلية من خلايانا تحتوي على 3 بليون زوج أساسي من الحمض النووي، الذي ورثناه عن والدينا.  ولكننا تأقلمنا دون أن نعلم الكثير فعلًا عن تكويننا الوراثي (الجينوم).

في الحقيقة، لو أنك طلبت النظر في تكوينك الوراثي قبل عشرين سنة، لكان هذا السؤال ساذجًا.  وسيكون بسذاجة الذهاب إلى القمر.  ولكن عندما كشف العلماء عن المسودة الأولية للجينوم البشري في أوائل العقد الأول من القرن الحالي، وصلت الفاتورة النهائية إلى مستوى أبولو بقيمة 2.7 بليون دولار.

ومنذ ذلك الحين، خفضت الإنجازات في تسلسل الحمض النووي وبرامج تحليل البيانات الجينية من السعر.  ومع حلول عام 2006، صارت تكلفة تسلسل جينوم بشري واحد 14 مليون دولار أمريكي فقط.  وحتى مع هذا الهبوط الكبير في السعر، تجرأت بضع مختبرات ضخمة لديها الدعم المالي الكافي على اتخاذ مثل هذا المشروع المكلف.  ولكن في السنوات اللاحقة، استمر الهبوط المطرد في تكلفة تسلسل الحمض النووي، وأصبح زهيدًا بما يكفي ليتحول إلى منتج استهلاكي.

إذا أردت الحصول على تسلسل جينوم كامل، للثلاثة بلايين زوج الأساسي الموجود في حمضك النووي، ستقوم شركة تدعى «دانتي لابز» (Dante Labs) بذلك مقابل 699 دولار أمريكي.  ولكنك لا تحتاج إلى تسلسل الجينوم بكامله لتعرف عن جيناتك.  تشكل الجينات العشرين ألف التي تشفّر بروتيناتنا أقل من 2% من الجينوم البشري.  هذا الجزء من الجينوم، «إكسوم»، يمكن أن يكون لك مقابل بضع مئات الدولارات.  وتأتي أرخص اللمحات من «التنميط الجيني»، حيث يقوم العلماء بمسح حوالي مليون بقعة من الجينوم المعروف أنها تختلف كثيرًا بين الأفراد.  يتوفر التنميط الجيني، الذي تقدمه شركات مثل (23and Me) و(Ancestry)، مقابل ما يقل عن مائة دولار أمريكي.

بفضل هبوط هذه الأسعار، يزداد عدد الأشخاص الذين يحصلون على لمحة عن جيناتهم.  مع حلول عام 2019، حصل ما يزيد عن 25 مليون فرد حول العالم على تنميط جيني أو تسلسل الحمض النووي.

ستنظر أجيال المستقبل إلى هذا اليوم على أنه لحظة حاسمة في التاريخ الثقافي للحمض النووي.  لم يعد يرى الناس حمضهم النووي كصندوق أسود، بل كقاعدة بيانات يجب تنقيبها.  إنهم يتعلمون أنهم ورثوا تغيرات تزيد من خطر إصابتهم بأمراض معينة.  وصاروا يحصلون على تقديرات عن أسلافهم بالاعتماد على العلامات الجينية الشائعة في مناطق معينة في العالم.  كما أصبحوا يدمجون معلوماتهم الجينية بعلم الأنساب لاكتشاف أقرباء بعيدين.  كما يكتشف بعضهم أيضًا أقرباء ليسوا بعيدين، ولكن كانوا قبل الآن أسرارًا أسرية.

هناك الكثير مما يمكننا أن نتعلمه عن أنفسنا في نتائج الاختبارات هذه.  ولكن هناك أيضًا فرصة كبيرة لتعلم الدروس الخطأ.

لدى الكثير من الناس مفاهيم خاطئة عن الوراثة – أي كيف نرتبط بأسلافنا وكيف يشكّلنا ميراثنا منهم.  وبدلًا من تبديد هذه المفاهيم الخاطئة، قد يعززها انبهارنا المتزايد بالحمض النووي أكثر.  وحذر عدد من العلماء من تهديد جديد سموه «علم التنجيم الجيني».  ومن الأهمية بمكان محاربة هذه المفاهيم الخاطئة عن الوراثة، تمامًا كما يجب أن نحارب المفاهيم الخاطئة في المجالات العلمية الأخرى، مثل الاحتباس الحراري، والتطعيم، والتطور.  وإليك بعض الأمثلة.

الخطأ الأول: اكتشاف سلف مميز يجعلك شخصًا مميزًا

هناك نوادٍ معينة يكون النسب هو مفتاح القبول فيها. فأنت يمكنك الانضمام إلى جمعية «ماي فلور» (Mayflower) إن كنت تنحدر من سلالة ركاب تلك السفينة المشهورة.  كما يمكنك أن تنضم إلى جماعة تاج شارلمان إن استطعت إثبات أن الإمبراطور الروماني العظيم هو سلفك.  لا شك أنه من المشوق اكتشاف رابطٍ نَسَبي بشخص مشهور – ربما لأن هذا الرابط يجعلنا مميزين أيضًا كما يبدو.

ولكن هذا وهم.  يمكنني أن أنضم إلى جمعية «ماي فلور»، على سبيل المثال، لأنني سليل خادم كان على ظهر السفينة يدعى «جون هولاند».  السبب الوحيد لشهرة «هولاند» هو أنه سقط من سفينة «ماي فلور».  من حسن حظي، تم انتشاله من الماء ووصل إلى ماساتشوستس.  ولكنني لست المحظوظ الوحيد، فبحسب التقديرات، هناك مليونان من الأشخاص ينحدرون منه وحده.

حلل علماء الرياضيات بنية الأشجار العائلية، ووجدوا أنه كلما عدت بالزمن إلى الوراء، زاد عدد الأحفاد.  (تجدر الإشارة إلى أن هذا ينطبق على الأشخاص الذين لديهم أي أحفاد أحياء على الإطلاق).  لهذا الاكتشاف تأثير مذهل.  بما أننا نعلم أن شارلمان لديه أحفاد أحياء (شكرًا لجماعة التاج!)، فعلى الأرجح أنه سلف كل شخص حي من أصل أوروبي.  وإذا يمكنك الحصول عل آلة زمن والسفر بالزمن إلى عدة آلاف سنة خلت، يمكنك أن تجد شخصًا هو السلف المشترك لكل الناس الأحياء على الأرض.

الخطأ‭ ‬الثاني‭: ‬أنت‭ ‬مرتبط‭ ‬بكل‭ ‬أسلافك‭ ‬بالحمض‭ ‬النووي

عندما تنظر إلى شجرة عائلتك، أنت تنظر إلى سلسلة من الخطوط المتفرعة التي تربطك بأسلافك. ما الذي يتدفق تحديدًا عبر هذه الخطوط أثناء سفرها عبر الزمن؟ قبل عدة قرون، ربما كان سيقول الناس إنه الدم. ولكن في العقود الأخيرة، استبدلنا الدم في خيالنا المشترك بالحمض النووي، بالنهاية، لم تأت جيناتنا من المجهول، بل ورثناها.
ولكن علم الجينات لا يكافئ علم الأنساب. حيث يتبين أنه فعليًا لم يرث أحد من الأوروبيين المنحدرين من شارلمان أيًا من حمضه النووي. وكل البشر، في الواقع، ليس لديهم رابط جيني مع معظم أسلافهم المباشرين.
سبب هذا الانقطاع هو الطريقة التي ينتقل فيها الحمض النووي من جيل إلى آخر. فكل بويضة أو حيوان منوي تنتهي بشكل عشوائي مع نسخة عن كل كروموزوم، إما من أم الشخص أو من أبيه. نتيجة لذلك، نحن نرث حوالي ربع الحمض النووي من كل جد – ولكن فقط بمعدل وسطي. يمكن لأي شخص أن يرث حمضًا نوويًا إضافيًا من أحد الأجداد وأقل من جد آخر. وإذا عدت إلى الجيل الذي قبله، ستجد أن كل جد أكبر ساهم بنحو ثُمْن حمضك النووي – ولكن، مجددًا، هذا بمعدل وسطي. قد يكون بعضهم ساهم بأكثر بكثير، وبعضهم ساهم بأقل بكثير.
وإذا عدت إلى الوراء عدة أجيال أخرى، يمكن أن تنخفض هذه المساهمة إلى الصفر. قام «غرام كووب» (Graham Coop)، عالم الوراثة بجامعة كاليفورنيا، ديفيس، وزملاؤه بحساب احتمالات عدم مشاركة الحمض النووي مع أحد الأسلاف أثناء انتقالهم وراءً عبر الأجيال. فإذا عدتَ عشرة أجيال للوراء، تنخفض احتمالات حصولك على حمض نووي من أي سلف معين إلى أقل من 50 بالمائة. وتنخفض أكثر كلما عدت إلى الوراء أكثر في سلالتك. في حين أنه من الصحيح أنك ترث حمضك النووي من أسلافك، فإن هذا الحمض النووي ليس سوى عينة صغيرة من الجينات في شجرة عائلتك.
ولكن حتى من دون الرابط الجيني، أسلافك هم أسلافك. ساعدوا فعلًا في رسم شخصيتك – ليس بمنحك جينًا من صفة معينة، ولكن بتربية أطفالهم، الذين قاموا بعد ذلك بتربية أطفالهم، ونقلوا موروثًا ثقافيًا إلى جانب الجيني.

الخطأ الثالث: اختبارات النسب موثوقة كالاختبارات الطبية

يحصل الملايين من الأشخاص على تقارير النسب بالاعتماد على حمضهم النووي.  يعلمني تقريري الخاص بأنني 43% أشكنازي يهودي، و25% شمال غرب أوروبي، و23% جنوب/وسط أوروبي، و6% جنوب غرب أوروبي، و2.2% شمال صقلّي.  تبدو هذه النسب مثيرة للاهتمام، بل وحاسمة ونهائية.  من السهل الاستنتاج أن تقارير النسب موثوقة مثل الوقوف على ميزان في عيادة الطبيب لقياس طولك ووزنك.

ولكن هذا خطأ، ويمكن أن يسبب الكثير من حسرة القلب.  لتقدير النسب، يقارن الباحثون كل عميل بقاعدة بيانات لآلاف الأشخاص من جميع أنحاء العالم.  وعادة ما يتم اختيار هذه «المجموعات المرجعية» لأن لديهم جذور عميقة في المكان الذي يعيشون فيه.  يختار بعض الباحثين فقط الأشخاص الذين عاشت أسرتهم في نفس المكان لثلاثة أجيال، على سبيل المثال.  في كل مجموعة، هناك بعض المتغيرات الجينية الشائعة بشكل غير عادي وأخرى نادرة بشكل غير عادي.  ثم يبحث الباحثون عن هذه المتغيرات في الحمض النووي للعميل.  فيمكنهم تحديد امتدادات الحمض النووي التي من المحتمل أن تكون قد نشأت في جزء معين من العالم.  في حين أن بعض التطابقات واضحة، فإن البعض الآخر أقل وضوحًا.  ونتيجة لذلك، فإن تقديرات النسب دائمًا ما يكون لها هوامش خطأ – والتي غالبًا ما تختفي في التقارير التي يحصل عليها العملاء.

وللحصول على مزيد من اليقين في تقديراتهم، يقوم العلماء ببناء قواعد بيانات أكبر.  في عام 2018، كشفت (Ancestry.com) عن مجموعة جديدة من التقديرات لعملائها.  ولكنها تعرضت للكثير من رد الفعل العنيف.  فالأشخاص الذين شعروا بسعادة غامرة في البداية لاكتشاف أن جزءًا صغيرًا من أسلافهم جاءوا من إيطاليا أو الكاميرون، شعروا بالصدمة لأنهم علموا الآن أنه ليس لديهم مثل هذا الارتباط على الإطلاق.

ستتحسن هذه التقديرات بمرور الوقت، ولكن هناك حد أساسي لما يمكن أن تخبرنا به عن أسلافنا.  القول بأنني 43% أشكنازي ليس لديه نفس الحقيقة الخالدة لقول إنني 43% كربون.  بقي الكربون كربونًا لبلايين السنين.  لكن الشعب الأشكنازي ظهر عبر التاريخ.  في الإمبراطورية الرومانية، تزاوج الناس من سلالات الشرق الأدنى والسلالات الأوروبية وبدأوا إنجاب الأطفال.  وفي العصور الوسطى، بدأ اليهود في شمال وشرق أوروبا يتعرضون للاضطهاد وشكلوا مجتمعات معزولة بشكل متزايد.  في هذه المجموعات الصغيرة، ورث الأطفال بشكل متزايد نفس مجموعة المتغيرات الجينية.  من مجموعة مقدرة بـ 350 سلفًا فقط، وصل عدد الأشكناز الآن إلى عشرة ملايين.  يشتركون جميعًا في عدد من العلامات الجينية المميزة من تلك الفترة من التاريخ.  لكن تاريخهم يعود إلى زمن أبعد في الماضي، إلى شعوب أقدم.

يحصل الباحثون على لمحات عن هذه الشعوب الأقدم من خلال استعادة الحمض النووي من الهياكل العظمية القديمة.  وهم يجدون أن تاريخنا الجيني أكثر اضطرابًا مما كان يُعتقد سابقًا.  يجد الباحثون مرارًا وتكرارًا أن الأشخاص الذين عاشوا في مكان معين في القرون الأخيرة لديهم القليل من الارتباط الجيني بالأشخاص الذين عاشوا هناك منذ آلاف السنين.  في جميع أنحاء العالم، توسع السكان وهاجروا، وأصبحوا على اتصال مع مجموعات سكانية أخرى.  في أوروبا، على سبيل المثال، كانت تصل موجات جديدة من الأشخاص المتميزين جينيًا من أماكن أخرى كل بضعة آلاف من السنين، إما لتحل محل الشعوب التي عاشت هناك من قبل أو لتتزاوج معها.  واليوم، الأوروبيون متشابهون وراثيًا مع بعضهم البعض، ولكن فقط لأن جينات أسلافهم المتباينة – من أماكن مثل إفريقيا وتركيا وروسيا – كانت مختلطة جيدًا.  فإذا كنت تبحث عن الصفاء في سلالتك، أنت من سيخيب أملك!

الخطأ الرابع: هناك جين لكل صفة ترثها

عندما نتعلم عن الجينات في المدرسة، نتعرف على «غريغور مندل» (Gregor Mendel).  في خمسينات القرن التاسع عشر، قارن (مندل) بين نباتات البازلاء واكتشف أن صفاتها – كلون زهراتها أو بنية حبوبها – تحملها عوامل وراثة غير مرئية.  كانت بعض العوامل سائدة، بمعنى أن وراثة نسخة واحدة منها حدد صفة معينة.  بينما كانت عوامل أخرى منكفئة، أي يمكنها أن تشكل نبات البازلاء في حال ورثت نسختين.

(مندل) نقطة مناسبة لبدء التعرف على الوراثة، ولكنه نقطة سيئة للوقوف.  هناك سمات تتحدد بجين واحد.  فيمكن تحديد ما إذا كانت حبة البازلاء لدى (مندل) ملساء أو متغضنة بجين يسمى (SBEI).  كما يتحدد احتمال إصابة الناس بفقر الدم المنجلي بجين واحد يسمى (HBB).  ولكن ثمة الكثير من السمات التي لا تتبع ما يسمى بنمط «مندل» – حتى تلك التي أخبرونا في المدرسة أنها «مندلية».

فكر في شحمة الأذن.  لعدة عقود، علمنا الأساتذة أنها يمكن أن تتدلى بحرية أو أن تلتصق بجانب الرأس.  كان نوع شحمة الأذن التي تمتلكها سمة مندلية، تتحدد بجين وحيد.  في الواقع، تتراوح أنواع شحمة آذاننا نمطيًا في مكان ما بين الالتصاق الشديد والتدلي بحرية كاملة.  في عام 2017، قارن فريق من الباحثين بين شحمة الأذن لدى أكثر من 74،000 شخص وبين حمضهم النووي.  وبحثوا عن متغيرات جينية شائعة لدى الناس عند أي من طرفي طيف شحمة الأذن.  فحددوا تسعة وأربعين جينًا يبدو أنها تلعب دورًا في تحديد مدى التصاق شحمة الأذن بالرأس.  وقد يكون ثمة المزيد ينتظر الاكتشاف.

أيًا من هذه الجينات التسع والأربعين ليس «من أجل» التصاق شحمة الأذن.  هذه اللغة لا تعبر مطلقًا عن طريقة عمل الجينات.  تصبح الجينات التي حددها العلماء نشيطة في الكثير من الخلايا في الجنين.  بعضها نشط في خلايا الجلد في كامل الجسم.  وبعضها نشط في الشعر وغدد التعرق أيضًا.  وبعضها يساعد في بناء التشريح المعقد للأذن الداخلية.  لذلك فإن شحمة الأذن هي نتيجة سيمفونية يؤديها هؤلاء العازفين.

في الواقع إن جينات شحمة الأذن بسيطة جدًا بالمقارنة بسمات أخرى.  فعند دراسة الطول، على سبيل المثال، حدد العلماء آلاف المتغيرات الجينية التي يبدو أنها تلعب دورًا.  وكذلك ينطبق الأمر ذاته على خطر إصابتنا بأمراض السكر، وأمراض القلب، والاضطرابات الشائعة الأخرى.  نحن لا نتوقع أن نجد جينًا وحيدًا في اختبارات حمضنا النووي يحدد ما إذا كنا سنموت بذبحة قلبية.  كما يجب ألا نتوقع شفاء سهلًا لمثل هذه الأمراض المعقدة بتعديل جينات فردية.

الخطأ الخامس: الجينات التي ترثها تفسر من أنت بدقة

أثناء فترة حياتنا – من خلال نجاحاتنا وإخفاقاتنا، وأفراحنا ومعاناتنا – غالبًا ما نتساءل كيف سارت الأمور بالطريقة التي سارت بها.  وكلما تعمق العلماء في دراسة حمضنا النووي، كان من الأسهل تجاهل الأمر والقول إنه مبرمج في جيناتنا.

على سبيل المثال، خذ دراسة حديثة حول المدة التي يقضيها الأشخاص في المدرسة.  فحص الباحثون الحمض النووي لـ 1.1 مليون شخص ووجدوا أكثر من 1200 متغيرًا جينيًا كان شائعًا بشكل غير عادي سواء في الأشخاص الذين تركوا المدرسة مبكرًا أو في الأشخاص الذين ذهبوا إلى الكلية أو الدراسات العليا.  ثم استخدموا الاختلافات الجينية في عيناتهم للتوصل إلى درجة تنبؤية، ثم جربوها بعد ذلك على مجموعة أخرى من العينات.  ووجدوا أنه ضمن أعلى 20% من هذه العينات، 57% أنهوا دراستهم الجامعية.  وضمن أقل 20% من الدرجات، 12% فقط أنهوا دراستهم.

لكن هذه النتائج لا تعني أن المدة التي مكثتها في المدرسة كانت تحددها جيناتك قبل الولادة.  وإجراء اختبار الحمض النووي لأطفالك لن يخبرك ما إذا كان يجب عليك توفير المال لدفع الرسوم الدراسية بالجامعة أم لا.  في دراسة التحصيل التعليمي، تسرب الكثير من الأشخاص الذين حصلوا على درجات جينية عالية من المدرسة.  وتابع الكثير من الأشخاص الذين حصلوا على درجات جينية منخفضة للحصول على درجة الدكتوراه.  وكثيرون حصلوا على تعليم متوسط بين هذين الحدين.  بالنسبة لأي فرد، تقدم هذه الدرجات الجينية تنبؤات بالكاد أفضل من التخمين العشوائي.

هذه الحالة المربكة هي نتيجة لكيفية تفاعل الجينات والبيئة.  يطلق العلماء على سمة مثل طول مدة بقاء الناس في المدرسة «قابلية التوريث بشكل معتدل».  وبعبارة أخرى، يرجع قدر متواضع من التباين في التحصيل العلمي إلى الاختلاف الجيني.  كما هناك الكثير من العوامل الأخرى المهمة أيضًا – الأحياء التي يعيش فيها الناس، وجودة مدارسهم، واستقرار حياتهم الأسرية، ودخلهم، وما إلى ذلك.  علاوة على ذلك، ربما ليس للجين الذي قد يكون له تأثير على طول مدة بقاء الناس في المدرسة في بيئة ما أي تأثير على الإطلاق في بيئة أخرى.

الخطأ السادس: لكل منا جينوم واحد

في عام 2002، تقدمت سيدة تدعى «ليديا فيرتشايلد» (Lydia Fairchild) بطلب لإنفاذ إعالة الطفل عندما انفصلت عن والد طفليها.  طلبت ولاية واشنطن إجراء اختبارات جينية لتأكيد أبوته.  فأظهرت الاختبارات أنه كان الأب بالفعل.  لكنها أظهرت أيضًا أن «فيرتشايلد» لم تكن الأم.

هدد مسؤولو الدولة باتهام «فيرتشايلد» بالاحتيال، على الرغم من احتجاجها على أنها أنجبت الأطفال بشهادة والدتها التي شهدت ولادة أحفادها.  وعندما ذهبت «فيرتشايلد» إلى المستشفى لتنجب طفلًا آخر، جاء مسؤول من المحكمة ليشهد الولادة ويشاهد الممرضات يسحبن الدم لإجراء اختبار آخر للحمض النووي.  مرة أخرى، أشار الاختبار إلى أن «فيرتشايلد» لم تكن والدة الرضيع.

ظهر هذا الموقف الغريب بسبب الافتراض الشائع بأن كل واحد منا يحمل جينومًا وحيدًا.  وفقًا لهذا الافتراض، ستجد تسلسلًا متطابقًا من الحمض النووي في أي خلية تفحصها.  ولكن هناك العديد من الطرق التي يمكن أن ينتهي بنا المطاف من خلالها بجينومات مختلفة داخل أجسامنا.

تُعرف حالة «فيرتشايلد» باسم الطفرة النسيجية.  حيث تطورت داخل أحشاء والدتها جنبًا إلى جنب مع شقيق توأم.  ثم مات هذا الجنين التوأم في الرحم، ولكن ليس قبل تبادل الخلايا مع «فيرتشايلد».  والآن يتكون جسدها من مجموعتين من الخلايا، كل واحدة منها تتكاثر وتتطور إلى أنسجة مختلفة.  في حالة «فيرتشايلد»، نشأ دمها من مجموعة من الخلايا، بينما نشأ بيضها من مجموعة أخرى.

يمكن للنساء أيضًا أن يصبحن طفرات نسيجية مع أطفالهن.  أثناء الحمل، يمكن للأجنة أن تفرز الخلايا التي تنتشر بعد ذلك في جميع أنحاء جسم المرأة.  في بعض الحالات، تبقى حتى بعد الولادة.  يمكن أن تتطور بعد ذلك إلى عضلات، وأنسجة ثدي، وحتى خلايا عصبية.

من غير الواضح عدد الأشخاص ممن لديهم طفرات نسيجية.  كانوا يعتبرون ذات مرة طفرات غريبة.  ولكن أصبح العلماء على دراية بهم فقط في حالات مثل حالة «ليديا فيرتشايلد»، عندما كشفت هويتهم المختلطة عن نفسها.  في السنوات الأخيرة، أجرى الباحثون دراسات استقصائية على نطاق صغير تشير إلى أن نسبة قليلة من التوائم ربما هم طفرات نسيجية، لكن قد يكون العدد الحقيقي أكبر من ذلك.  أما بالنسبة للأمهات ذوات الطفرة النسيجية، فقد يكنَّ هن القاعدة لا الإستثناء.  في دراسة أجريت عام 2017، درس الباحثون أورام المخ المأخوذة من نساء لديهن أبناء ذكور.  فكان ثمانون في المائة منهن لديهن خلايا حاملة للكروموزوم (Y) في أورامهم.

الطفرة النسيجية ليست الطريقة الوحيدة التي يمكن أن ننتهي بها بجينومات مختلفة.  في كل مرة تنقسم فيها خلية في أجسامنا، هناك احتمال ضئيل أن تكتسب إحدى الخلايا الوليدة طفرة.  في البداية، بدت هذه الانحرافات الجديدة – التي تسمى الطفرات الجسدية – مهمة فقط للسرطان.  لكن هذا الرأي تغير عندما أتاحت تقنيات تسلسل الجينوم الجديدة للعلماء دراسة الطفرات الجسدية في العديد من الأنسجة السليمة.  اتضح الآن أن جسم كل شخص عبارة عن فسيفساء، مكونة من مجموعات من الخلايا مع العديد من الطفرات المختلفة.

‭ ‬السابع‭: ‬الجينات‭ ‬غير‭ ‬مهمة‭ ‬بسبب‭ ‬علم‭ ‬ما‭ ‬فوق‭ ‬الجينات

يمكن أن تؤدي فكرة أن جيناتنا تحدد مصيرنا إلى رد فعل زائف بنفس القدر: أن الجينات ليست مهمة على الإطلاق. وفي كثير من الأحيان، يستثير أولئك الذين يناهضون أهمية علم الوراثة مجالًا بحثيًا أكثر شبابًا وإثارة للاهتمام، ألا وهو علم ما فوق الجينات.
اطلب من خمسة علماء تعريف علم ما فوق الجينات وقد تحصل على خمس تعريفات مختلفة. لكنهم جميعًا سوف يركزون على حقيقة أن الجينات، بحد ذاتها، ليس لها دور. بل تقوم ببساطة بتخزين المعلومات التي يمكن لخلايانا استخدامها كدليل لبناء البروتينات أو جزيئات الحمض النووي الريبي. بيد أن خلايانا تستخدم الجينات فقط في استجابة لتركيبات معينة من الإشارات. وقد يكون استخدام الجينات في الوقت الخطأ أو في المكان الخطأ كارثيًا. تحتاج الجينات المشاركة في صنع المينا إلى أن يتم تشغيلها في الأسنان النامية. لكنك لن ترغب في أن تصنعه خلايا الجلد أيضًا، مما سيحبسك في تابوت من المينا.
تستخدم خلايانا العديد من طبقات التحكم للاستفادة المناسبة من جيناتها. حيث يمكنها تشغيل بعض الجينات أو تعطيلها بسرعة في استجابة للتغيرات السريعة في بيئتها. لكن يمكنها أيضًا قمع الجينات مدى الحياة. فالنساء، على سبيل المثال، لديهن نسختان من الكروموزوم (X)، ولكن في التطور المبكر، تنتج كل خلية سربًا من جزيئات الحمض النووي الريبي والبروتينات التي تُضغط إلى نسخة واحدة. ثم تستخدم الخلية كروموزوم (X) الآخر فقط. وإذا انقسمت الخلية، فإن الخلايا الوليدة سوف تقمع نفس النسخة مرة أخرى.
إن أحد أكثر الاحتمالات المحيرة التي يستكشفها العلماء الآن هو ما إذا كانت بعض «العلامات» الوراثية فوق الجينية يمكن توريثها ليس فقط عن طريق الخلايا الوليدة، ولكن عن طريق البنات والأبناء. إذا تعرض الناس لصدمة في حياتهم وتركت علامة فوق جينية على جيناتهم، على سبيل المثال، فهل يمكنهم نقل هذه العلامات إلى الأجيال القادمة؟
إذا كنت نباتًا، فالجواب بالتأكيد نعم. يمكن للنباتات التي تتعرض للجفاف أو هجمات الحشرات أن تعيد برمجة بذورها، ويمكن لهذه التغييرات فوق الجينية أن تنتقل عبر عدة أجيال. لكن لا تزال الأدلة المستمدة من الحيوانات، حتى الآن، مختلطة. في إحدى التجارب المثيرة للاهتمام، قام الباحثون بفصل صغار الفئران الذكور عن أمهاتهم من وقت لآخر، مما تسبب في إجهادهم. في وقت لاحق، استخدموا الحيوانات المنوية من تلك الفئران المجهدة لتخصيب البويضات، وتبين أن بعض أحفادهم حساسون بشكل غير عادي للتوتر. لكن تساءل المتشككون كيف يمكن لعلم ما فوق الجينات أن ينقل هذه السمات عبر الأجيال، مشيرين إلى أن النتائج مجرد ضربة حظ إحصائية. غير أن هذا لم يمنع من ظهور مجالات عملية من المساعدة الذاتية فوق الجينية. حيث يمكنك الانضمام إلى جلسات اليوغا فوق الجينية لإعادة كتابة العلامات فوق الجينية، أو الذهاب إلى جلسات العلاج النفسي فوق الجيني للتغلب على الإرث فوق الجيني الذي ورثته عن أجدادك.
قد تشعر بمزيد من المرونة بعد جلسة اليوغا. وقد تشعر بتحسن بعد التحدث عن قلقك. إلا أن جيناتك ستظل تعمل بنفس الطريقة التي كانت تعمل بها من قبل.

Share This