ظهور تحرير الجينوم
والتحديات المعاصرة
أ. رنا الزعرت – تمريض – كلية الإقليم للتمريض – لبنان
يعد البحث العلمي الذي يستكشف الجينومات البشرية وغير البشرية أمرًا بالغ الأهمية لمساعدة العلماء على فهم البيولوجيا الأساسية الكامنة وراء المرض، وكذلك لاكتشاف أهداف علاجية جديدة محتملة. إن تحرير الجينوم، المعروف أيضًا باسم تحرير الجينات، مجالٌ من مجالات الأبحاث العلمية الوراثية والذي يسعى إلى تعديل جينات الكائنات الحية لتحسين فهمنا لوظيفة الجينات وتطوير طرق لاستخدامها في علاج الأمراض الوراثية أو المكتسبة.
يمكن استخدام تحرير الجينوم لتصحيح أو إدخال أو حذف أي تسلسل (DNA) في العديد من الأنواع المختلفة من الخلايا والكائنات الحية. في حين أن تقنيات تعديل الحمض النووي موجودة منذ عدة عقود، فإن الأساليب الجديدة جعلت تحرير الجينوم أسرع وأرخص وأكثر كفاءة، حيث يعتمد تعديل الجينوم على اكتشاف سابق مفاده أن أي قسمًا مكسورًا من الحمض النووي في الجين يؤدي إلى تشغيل آلية إصلاح لربط القطع المكسورة معًا فيسمح تحرير الجينوم للباحثين بتقليد هذه العملية الطبيعية لإصلاح الحمض النووي.
لذا، تمكن تقنيات تحرير الجينوم العلماء من إجراء تغييرات على الحمض النووي، مما يؤدي إلى تغييرات في السمات الجسدية، مثل خطر الإصابة بالأمراض ويستخدم العلماء تقنيات مختلفة للقيام بذلك حيث تعمل هذه التقنيات مثل المقص، وتقطع الحمض النووي في مكان معين، ثم يمكن للعلماء إزالة أو إضافة أو استبدال الحمض النووي حيث تم قطعه.
تم تطوير تقنيات تحرير الجينوم الأولى في أواخر القرن العشرين وفي الآونة الأخيرة، تم اختراع أداة جديدة لتعديل الجينوم تسمى (CRISPR) في عام 2009، والتي جعلت تحرير الحمض النووي أسهل من أي وقت مضى. وعلى الرغم من أن الإثارة حول إمكانية العلاج الجيني قد نمت بشكل هائل منذ اكتشاف (CRISPR)، فإن الغالبية العظمى من العمل الذي يقوم به العلماء يحدث في أطباق المختبر وفي الكائنات غير البشرية مثل الفئران أو أسماك الزرد.
فإن أحد الأغراض التي يستخدم العلماء تحرير الجينوم من أجلها هو التحقيق في الأمراض المختلفة التي تصيب البشر حيث يقوم العلماء بتحرير جينومات الحيوانات، مثل الفئران وسمك الزرد؛ لأن الحيوانات تتشارك العديد من الجينات مع البشر. على سبيل المثال، يتشارك البشر والفئران حوالي 85% من جيناتهم. من خلال تغيير جين واحد أو جينات متعددة في فأر، يمكن للعلماء ملاحظة كيفية تأثير هذه التغييرات على صحة الفأر والتنبؤ بكيفية تأثير التغييرات المماثلة في الجينوم البشري على صحة الإنسان.
فيعتمد الباحثون على أدوات تحرير الجينوم كطريقة لاستكشاف العلاقة بين النمط الجيني (الجينات) والنمط الظاهري (السمات) وقد تكون إحدى الدراسات الرئيسة في هذا المجال هي نمذجة المرض البشري في الفئران عن طريق حذف أو تعديل جينات معينة يُعتقد أنها تسهم في المرض. ويمكن أن يساعد هذا النهج الباحثين في تحديد ما إذا كانت التغييرات المحددة التي تم إجراؤها على الجينوم تسهم في المرض كما يمكن أن يؤدي أيضًا إلى إنشاء «نماذج مرضية» أو حيوانات معملية تحاكي الأمراض البشرية وبالتالي دراستها لاختبار علاجات جديدة.
هذا بالضبط ما يفعله العلماء في المعهد القومي لبحوث الجينوم البشري. على سبيل المثال، يدرس معمل بيرجيس جينومات أسماك الزرد، حيث يقوم العلماء في هذا المختبر بحذف جينات مختلفة في أسماك الزرد واحدة تلو الأخرى باستخدام تقنية (CRISPR) لمعرفة كيف يؤثر هذا الحذف على الأسماك. ويركز مختبر بيرجيس على 50 جينًا من جينات أسماك الزرد التي تشبه الجينات التي تسبب الصمم البشري حتى يتمكنوا من فهم الأساس الجيني للصمم بشكل أفضل.
أما في الممارسة السريرية؛ فهناك مقترحات لاستخدام تحرير الجينوم كعلاج للمرض. فإن العديد من الأمراض من السرطان إلى الربو لها أسس وراثية، ومن خلال تطبيق تقنيات تحرير الجينوم، قد يكون الأطباء قادرين على وصف العلاج الجيني المستهدف لإجراء تصحيحات على جينومات المريض والوقاية من المرض أو إيقافه أو عكسه. على سبيل المثال، في عام 2015، نجح العلماء في استخدام العلاج الجيني الجسدي، والذي يعتمد على تقنيات تعديل الجينوم، عندما تلقت ليلى البالغة من العمر عامًا واحدًا في المملكة المتحدة علاجًا لتعديل الجينات لمساعدتها على مكافحة اللوكيميا. لم يستخدم هؤلاء العلماء (CRISPR) لعلاج ليلى، وبدلاً من ذلك استخدموا تقنية أخرى لتحرير الجينوم تسمى (TALENs). جرب الأطباء العديد من العلاجات قبل ذلك، لكن يبدو أن أيًا منها لم ينجح، لذلك حصل العلماء على إذن خاص لعلاج ليلى باستخدام العلاج الجيني وأنقذ هذا العلاج حياتها. ومع ذلك، فإن العلاجات مثل تلك التي تلقتها ليلى لا تزال تجريبية لأن المجتمع العلمي وصانعي السياسات لا يزالون مضطرين إلى معالجة الحواجز التقنية والمخاوف الأخلاقية المتعلقة بتعديل الجينوم.
فعلى الرغم من أن تقنية (CRISPR) قد حسنت من ممارسة تحرير الجينوم، إلا أنها ليست مثالية. على سبيل المثال، أحيانًا تقطع أدوات تحرير الجينوم الحمض النووي في المكان الخطأ ولم يتأكد العلماء بعد من كيفية تأثير هذه الأخطاء على المرضى. ويعد تقييم سلامة العلاجات الجينية وتحسين تقنيات تحرير الجينوم خطوات حاسمة لضمان أن هذه التكنولوجيا جاهزة للاستخدام بين المرضى.
إضافة إلى اتفاق الباحثون وعلماء الأخلاق الذين كتبوا وتحدثوا عن تحرير الجينوم، بشكل عام على أنه حتى يتم اعتبار تحرير الجينوم آمنًا من خلال الأبحاث المثبتة، لا ينبغي استخدامه لأغراض سريرية مثل تحسين القدرة على الانجاب مثلًا إذ لا يمكن تبرير المخاطرة بالفائدة المحتملة. ويجادل بعض الباحثين بأنه قد لا يأتي وقت على الإطلاق يقدم فيه تحرير الجينوم في الأجنة فائدة أكبر من التقنيات الحالية، مثل التشخيص الجيني قبل الزرع (PGD) والتخصيب في المختبر (IVF).
كما يجب على العلماء التفكير بعناية في العديد من المخاوف الأخلاقية التي يمكن أن تظهر مع تعديل الجينوم. على سبيل المثال، ظهرت لدى المرضى وأسر المرضى الذين يعانون من اضطرابات وراثية وجهات نظر متنوعة حول ما إذا كان يجب استخدام تحرير الجينوم للوقاية من الاضطرابات الوراثية أو علاجها. يعتقد بعض المرضى الذين يعانون من حالات مثل مرض هنتنغتون أنه يجب استخدام تعديل الجينوم لمنع الأشخاص من الإصابة بأمراض وراثية، خاصةً أولئك الذين ليس لديهم خيارات علاجية حاليًا. أما البعض الآخر، مثل أولئك في مجتمع الصم، لا يعتبرون حالتهم على أنها إعاقة. وهم قلقون من أنه إذا انتشر تحرير الجينوم البشري على نطاق واسع، فسيقل احتمال قبول الأشخاص المولودين بأمراض وراثية في المجتمع. كما تتساءل العديد من المجتمعات بشكل عام عن فكرة ما إذا كان القضاء على الاضطرابات الوراثية عبر تحرير الجينوم البشري سيؤدي إلى تحسين الحياة أو ما إذا كان سيؤدي إلى مزيد من المخاوف الصحية والاجتماعية.
يشعر بعض الباحثين وخبراء الأخلاقيات الحيوية بالقلق من أن أي تعديل للجينوم، حتى للاستخدامات العلاجية، سيضعنا على منحدر زلق لاستخدامه لأغراض غير علاجية مثيرة للجدل. فقد سلط العديد من النقاد الضوء على احتمال أن يمهد تحرير الجينوم الطريق للتحسين الجيني، واستخدام تحرير الجينوم لتغيير الخصائص غير السريرية، مثل القدرة الرياضية، والطول، ولون الشعر، ولون العيون، والخصائص الجمالية الأخرى.
كما يشعر بعض الناس بالقلق من أنه من المستحيل الحصول على الموافقة على تعديل الجينوم لأن المرضى المتأثرين بالتعديلات هم الأجنة والأجيال القادمة. أما الحجة المضادة هي أن الآباء يتخذون بالفعل العديد من القرارات التي تؤثر على أطفالهم في المستقبل، بما في ذلك قرارات معقدة مماثلة مثل التلقيح الاصطناعي.
علاوة على ذلك، وكما هو الحال مع العديد من التقنيات الجديدة، هناك قلق من أن تحرير الجينوم لن يكون متاحًا إلا للأثرياء وسيزيد من التفاوتات الحالية في الوصول إلى الرعاية الصحية والعلاجات الأخرى. ويشعر البعض بالقلق من أن تحرير الجينوم يمكن أن يخلق فئات من الأفراد وحتى المجتمعات تحددها جودة الجينوم المهندَس.
بغض النظر عن المخاوف الأخلاقية، لا تزال هناك حواجز تقنية كبيرة تمنع علاجات تحرير الجينوم من دخول الممارسة السريرية إذ لم تبدأ المجتمعات البحثية والتنظيمية بعد في تقييم سلامة العلاجات المحتملة. كما لا يزال العلماء بحاجة إلى معرفة المزيد حول كيفية اندماج التغييرات الجينية والتأثيرات البيئية لتؤدي إلى المرض وكيف تتفاعل الجينات مع بعضها البعض. بالإضافة إلى ذلك، يحتاج العلماء إلى معرفة المزيد حول كيفية التحكم في الجينات وكيف ترتبط المتغيرات في الجينوم البشري بمخاطر المرض. ففي حالة الأمراض الشائعة، مثل مرض السكري، تتحد العديد من التغيرات الجينية والتأثيرات البيئية لتؤدي إلى المرض. لذلك، يحتاج العلماء إلى معرفة المزيد عن هذه التغييرات قبل تطوير العلاجات الجينية. وهكذا تبقى كل النقاشات الناشئة تكهنات سابقة لعصرها.