عصر التحرير الجيني
أ.د. محمد السيد مصطفى – كيمياء حيوية – جامعة الإسكندرية – مصر
التحرير الجيني هو تقنية حديثة يمكن استخدامها لاستبدال أحد أو بعض القواعد النيتروجينية الموجودة بالحمض النووي الخاص بالجينات في الخلايا البشرية أو خلايا الكائنات الحية الأخرى. من المعروف أن هذه القواعد النيتروجينية هي الأدينين والجوانين والسيتوزين والثيمين وهي تمثل الأحرف أو الوحدات البنائية للحمض النووي في جميع الخلايا الحية. سميت هذه التقنية بالتحرير الجيني لأنها تشبه تحرير نص مكتوب حيث يمكن بواسطتها استبدال القواعد النيتروجينية الخاصة بالطفرات المسببة للأمراض بالقواعد الموجودة في الجينات الطبيعية وذلك حتى يتم تصحيح هذه الطفرات.
في الآونة الأخيرة حدثت نجاحات كبيرة في تطوير أدوات تقنية التحرير الجيني أدت إلى فتح الباب على مصراعيه لإمكانية تطبيق هذه التقنية لتحقيق حلم تصحيح الطفرات المسببة للأمراض الوراثية المستعصية مثل التخلف العقلي وبعض أنواع السرطان مثل سرطان الثدي والرئة والقولون.
أهمية تقنية التحرير الجيني تكمن في أنها إستراتيجية واعدة لمنع انتقال الأمراض الوراثية إلى ذرية المصابين بهذه الأمراض. في الوقت الحاضر يمكن استخدام هذه التقنية في تصحيح الطفرات في الحيوانات المنوية أو البويضات أو البويضات المخصبة المأخوذة من مرضى الأمراض الوراثية. وهناك عدة طرق متاحة لتوصيل أدوات تقنية التحرير الجيني إلى داخل خلية الحيوان المنوي أو البويضة مثل طرق الحقن المجهري أو النواقل الفيروسية وغير الفيروسية. وتجرى عديد من الأبحاث والتجارب السريرية لاختيار أفضل الطرق المناسبة لإدخال أدوات التحرير الجيني إلى النواة بهذه الخلايا التي بها طفرات وراثية. إجراء عملية التحرير الجيني قبل بداية إنقسام البويضة المخصبة يؤدي إلى وجود هذا التصحيح الجيني في جميع خلايا الجسم للمولود وبالتالي عدم ظهور المرض الوراثي فيه. هذا التصحيح الجيني سيكون موجودًا بالحيوانات المنوية أو البويضات بعد البلوغ وبالتالي يتم توريثه إلى ذرية المولود.
بالنسبة للمرضى الحاليين فإن التقنيات المتاحة في الوقت الحاضر قد لا تسمح بإدخال أدوات التحرير الجيني إلى جميع خلايا الجسم أو أعضاء الجسم مثل المخ والكبد نظرًا لأنها تحتوي على عدد هائل من الخلايا والأنسجة المختلفة. ولكن تجرى عديد من الدراسات العلمية بهدف البحث عن الوسائل المناسبة لإدخال أدوات التحرير الجيني لبعض خلايا الجسم وذلك لتقليل أعراض المرض الوراثي ومضاعفاته. على سبيل المثال تجرى عدد من الأبحاث العلمية بغرض تصحيح الطفرات الوراثية في جين هرمون الإنسولين بخلايا البيتا في بنكرياس مرضى النوع الأول من داء السكري والتي تقوم بإفراز الإنسولين إلى الدم للتقليل من هذا أعراض المرض ومضاعفاته الخطيرة.


تمكن العلماء من خلال استخدام تقنيات الهندسة الوراثية من إنتاج بروتينات مركبة لها القدرة على إجراء عملية التحرير الجيني مثل بروتينات نيوكليازات أصابع الزنك (ZFNs) ونيوكليازات (TALENS). إلا أن دقة وكفاءة هذه البروتينات في عملية التحرير الجيني كانت غير جيدة، إضافةً إلى تسببها في حدوث طفرات عشوائية في الحمض النووي.
بداية عصر التحرير الجيني وتطبيقاته في صحة الإنسان كانت في عام 2007 عندما كُشف النقاب عن آلية كريسبر- كاس 9 للتحرير الجيني والتي تتميز بالدقة والكفاءة وسهولة الاستخدام. الجدير بالذكر أن هذه الآلية موجودة في الطبيعة في بعض أنواع البكتريا كوسيلة دفاعية للقضاء على الفيروسات التي تهاجمها، حيث تختص هذه الآلية بقص الحمض النووي الخاص بالفيروسات. جائزة نوبل في الكيمياء لعام 2020 منحت مناصفة للعالمة الفرنسية إيمانويل شاربانتييه بمعهد ماكس بلانك بألمانيا والعالمة الأمريكية جينفر داوونا بجامعة كاليفورنيا بيركلي بالولايات المتحدة الأمريكية تقديرًا للمجهود المشترك الذي قامتا به في تطوير طريقة كريسبر- كاس 9 لتعديل الجينات. وتستخدم هذه التقنية حاليًا على نطاق واسع في عديد من الأبحاث العلمية لعلاج الأمراض المختلفة وفي التكنولوجيا الحيوية وفي إنتاج الأدوية. تلى ذلك تطور كبير تمثل في ظهور الجيل الثاني من تقنية التحرير الجيني على يد العالم الأمريكي ديفيد روشيان لو بجامعة هارفارد ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بالولايات المتحدة الأمريكية. وقد نال العالم ديفيد لو جائزة الملك فيصل للطب لعام 2022 على أثر هذا الإنجاز الكبير. تتميز طريقة العالم لو بالدقة والكفاءة العالية والقدرة على تطبيقها في أنواع مختلفة من الخلايا البشرية، مما يفتح أفاق واسعة لتطبيقات تقنية التحرير الجيني في علاج العديد من الأمراض بالإنسان. وقد تميزت هذه الطريقة أيضًا بتعطيل عمل جين كان يتسبب في حدوث طفرات عشوائية وغير مرغوب فيها في جينوم الخلايا أثناء إجراء عملية التحرير الجيني.
التطورات الحديثة التي طرأت على تكنولوجيا التحرير الجيني سمحت بفتح الباب مجددًا أمام إمكانية العودة لعلاج الأمراض الوراثية والسرطان بإستخدام العلاج الجيني، والذي كان قد توقف تطبيقه في تسعينيات القرن الماضي بعد حدوث انتكاسات في علاج بعض المرضى. وكذلك فإن تطبيقات التحرير الجيني سوف تفتح أيضًا آفاقًا مستقبلية كبيرة في علاج الأمراض المختلفة بالطب الدقيق الذي يعتمد على تصميم علاج مناسب لكل مريض على حدة بناء على تسلسل القواعد النيتروجينية الموجود بجينوم المريض.
في المجال الزراعي أصبحت الطرق التقليدية لزراعة المحاصيل لا تكفي لإنتاج الغذاء في بعض مناطق العالم خاصة في ظل التغيرات المناخية والجفاف والزيادة السكانية السريعة والنزاعات السياسية. هنا يبرز دور تقنية التحرير الجيني في إنتاج المحاصيل الزراعية وفي الأمن الغذائي. من المعروف أن المحاصيل الزراعية المعدلة بتقنية التحرير الجيني تمتاز عن المحاصيل المهندسة وراثيًا كونها أكثر أمانًا لأن الجينوم الخاص بها لا يحتوي على جين أو أكثر من جينات كائن آخر. ولهذا فإنه من المأمول أن تؤدي تطبيقات تقنية التحرير الجيني في المجال الزراعي إلى فتح أفاق واعدة لتحسين كمية ونوعية المحاصيل الإستراتيجية مثل القمح والأرز والتي تمثل الغذاء الرئيس لجزء كبير من سكان العالم.


على الرغم من أن تطبيقات التحرير الجيني في الصحة والزراعة وبعض المجالات الأخرى ستكون في صالح البشرية والأجيال القادمة إلا أنه توجد مخاوف عميقة بأن ينتج عنها بعض الآثار أو العواقب السيئة. هذه المخاوف تشمل احتمالية حدوث عمليات تحرير جيني غير مقصودة ينتج عنها طفرات قد تسبب أمراضًا جديدة، خاصة أن هذه الطفرات سوف تنتقل إلى الأجيال المستقبلية. على سبيل المثال أحد أدوات عملية التحرير الجيني وهو إنزيم النسخ العكسي قد يقوم بنسخ حمض نووي ريبوزي داخل الخلية إلى شريط مزدوج من هذا الحمض النووي ثم يحدث اندماج لهذا الشريط المزدوج داخل جينوم الخلية، ويترتب على هذا طفرة عشوائية تنتقل وراثيًا للأجيال القادمة. هناك أيضًا الاستخدام السيِّئ لهذه التقنية في التلاعب بالجينات بشكل غير أخلاقي أو لإنتاج أسلحة بيولوجية أو أوبئة تودي بحياة كثير من البشر. الجدير بالذكر أنه في نوفمبر من العام 2018 حدث خرق أخلاقي كارثي عندما أعلن الباحث الصيني هي جيانكو أنه قد إستخدم تقنية كريسبر- كاس 9 للتحرير الجيني في إدخال جين (CCR5) في أجنة بنتين توأم لإكسابهما مناعة ضد الإصابة بفيروس نقص المناعة المكتسبة «الإيدز». ولم ينتظر جيانكو إجراء التجارب العلمية والسريرية اللازمة قبل البدء في تطبيق تقنية التحرير الجيني على الأجنة البشرية لإنتاج أول إنسان معدل جينيا. الجريمة الأخرى التي ارتكبها جيانكو أنه قد قام بإدراج نسخة غريبة وغير موجــودة في الطبيعـة من جــين (CCR5) في الجينــوم البشــري للفتاتين. هذه النسخة غير الطبيعية من جين (CCR5) سوف تورث في ذرية الفتاتين وغير معلوم العواقب أو الآثار المترتبة عن التعبير الجيني لها. وقد شملت أخطاء جيانكو الكارثية أيضًا إنتهاك أخلاقيات البحث العلمي وكذلك خداع والدي التوأم بشأن المخاطر المستقبلية المحتمل حدوثها للفتاتين. وقد حوكم وحكم عليه بالسجن لمدة ثلاث سنوات وبالغرامة، وعُزل بعد ذلك من عمله بالجامعة. وقد عجلت هذه الواقعة بالمناقشات الخاصة بأخلاقيات البحث العلمي وسن الجوانب الأخلاقية والقانونية التي تنظم الاستخدام الأمثل لتقنية التحرير الجيني للوقاية من الأمراض الوراثية.
الجانب الإيجابي لاستخدامات تقنية التحرير الجيني في الطب أنه في عام 2021 بدأت التجارب السريرية البشرية لتطبيقات التحرير الجيني في علاج بعض الأمراض مثل مرض سرطان الدم وسرطان الغدد الليمفاوية والنوع الأول من داء السكري ومرض نقص المناعة المكتسبة، وأمراض القلب، والأوعية الدموية، والكبد.
هناك عدد من الأسئلة تطرح نفسها على الساحة ومنها إلى أي مدى يمكن لتقنية التحرير الجيني أن تفيد البشرية والأجيال المستقبلية في علاج الأمراض؟ أحد الأسئلة المهمة جدًا هو هل من الجانب الأخلاقي والقانوني أن تقرر الأجيال الحالية استخدام تقنية التحرير الجيني في تغيير الجينوم البشري الخاص بالأجيال القادمة والتي لم تولد بعد؟
في الختام لابد من مشاركة الهيئات الدينية والمجتمع والمنظمات الحقوقية والهيئات القانونية مع المؤسسات الأكاديمية في المناقشات والقرارت التي تنظم استخدام التحرير الجيني في علاج الأمراض لما فيه خير البشرية والأجيال القادمة.