علم‭ ‬الوراثة‭ ‬الدوائي في‭ ‬البلدان‭ ‬النـــامية

وذات‭ ‬الموارد‭ ‬المنخفضة

د‭.‬ سعيد‭ ‬الشامية‭ ‬- علم‭ ‬الوراثة‭ ‬–‭ ‬جامعة‭ ‬بيروت‭ ‬العربية‭ ‬–‭ ‬لبنان

ظلت دراسة كيفيّة تأثير الاختلافات الجينيّة في استجابة الفرد للعلاج موضع اهتمام.  وقد تطوّرت الأبحاث في هذا المجال بشكل كبير حتى وصلت إلى ما بات يُعرف اليوم بعلم الوراثة الدوائي، الذي يهدف لأن يتلقّى كل مريض الدواء المناسب له في الوقت المناسب والجرعة المناسبة (2016 .Maronas et al).

لكن على الرغم من إحراز تقدّم كبير في علم الوراثة الدوائي، لا سيّما في البلدان ذات الاقتصادات المتقدّمة، لا تزال الأبحاث في هذا المجال متأخّرة في البلدان النامية وذات الموارد المنخفضة وهي تشمل معظم الدول العربية (Zgheib et al. 2020).  سوف نعرض في هذا المقال أبرز التحدّيات في علم الوراثة الدوائي، والفجوات بين البلدان على الصّعد البحثيّة والتطبيقيّة، وبعض التوصيات لسد هذه الفجوات والتقدّم في الدول النامية.

الفجوات والتحديات على صعيد البحث العلمي:

على غرار مجالات الأبحاث الطبية والجينية الأخرى توجد فجوة ملحوظة بين البلدان المتقدمة والبلدان النامية في أبحاث علم الوراثة الدوائي.  فمثلًا، حين بحثنا عن عدد الباحثين في علم الوراثة الدوائي عبر (Google Scholar)، تبيّن أن أعدادهم أعلى بكثير في البلدان ذات مؤشر التنمية البشرية المرتفع بالمقارنة مع الدول الأخرى.  بالإضافة إلى ذلك، فقد كان عدد اقتباسات الأبحاث التي نُشرت في البلدان ذات مؤشر التنمية البشرية المرتفع أكبر بشكل ملحوظ بالمقارنة مع الدول الأخرى.  بشكل أدق، فإن 83.97% من الباحثين و92.04% من الاقتباسات تعود إلى هذه الدول وحدها.  تجدر الإشارة إلى أن الفروقات في حجم السكان بين الدول قد أُخذت بعين الاعتبار في كل العمليات الحسابية.

وقد انعكس هذا التباين في أعداد الباحثين على أعداد الأبحاث العلمية.  مثلًا، كشف البحث عبر (PubMed) عن الأبحاث العلمية حول علم الوراثة الدوائي المتعلق بمضادات التخثر الفموية، في الفترة الممتدّة من يناير 2000 حتى يونيو 2020، عن 373 منشورًا، صدرت على الشكل التالي: 266 من البلدان ذات مؤشر التنمية البشرية المرتفع جدًا، ما يعادل 86.7% من المنشورات، 84 من البلدان ذات المؤشر المرتفع، 22 من البلدان ذات المؤشر المتوسط، و1 فقط من البلدان ذات المؤشر المنخفض (الرسم البياني 1).  ولا يقتصر هذا النتاج البحثي المنخفض على الأبحاث حول مضادات التخثر الفموية، بل على جميع الأدوية الأخرى تقريبًا (Bilani et al. 2017; Zgheib et al 2020).  إن السبب الرئيس لهذا الانخفاض يعود على الأرجح إلى قلة الاستثمارات والدعم والتمويل المُتاحة لإنشاء البنى التحتية اللّازمة لتطبيق تقنيات التسلسل الجيني وجمع البيانات السريرية (Abou Diwan et al. 2019).  بالتالي، فإن البلدان ذات مؤشر التنمية البشرية المرتفع جدًا تقود أبحاث الوراثة الدوائية، بينما لا تزال بقية البلدان متأخرة في هذا المجال.  مثلًا، وكما نرى في (الرسم البياني 2)، بدأت الأبحاث في هذا المجال في البلدان ذات مؤشر التنمية البشرية المرتفع جدًا منذ العام 2000، وأخذت بالتقدّم سريعًا، لكن لم تبدأ بقيّة الدول بالتقدم إلّا بعد حوالي عقد من الزمن ولم تصل أبدًا إلى أرقام عالية مثل البلدان المتقدمة (الرسم البياني 2).

وفي حين أنّ الأبحاث المرتبطة بمضادات التخثر الفموية قد تقدّمت كثيرًا في البلدان المتقدمة، فإن مثل هذه الأبحاث لا تزال مستمرة وآخذة بالتقدم في أنحاء أخرى من العالم.  تُعدّ مضادات التخثر الفموية من أكثر الأدوية التي تمّت دراستها في العالم الغربي، من حيث تقييم وجود اختلافات جينيّة فرديّة في بعض الجينات، يمكنها أن تؤثّر في الاستجابة الفردية والآثار الجانبيّة واستقلاب الجسم لهذه الأدوية (Cullell et al. 2018).  والجدير ذكره أن معظم المتغيّرات الجينيّة التي رُصدت ودُرست هي خاصة بالشعوب ذوي الأصول الأوروبية، مع الإشارة إلى أن نسب هذه المتغيّرات الجينيّة تختلف بشكل كبير بين الشعوب والإثنيّات، كالشعوب ذوي الأصول الأفريقية مثلًا (Hernandez et al. 2020).  وبما أن معظم الدراسات المبكرة حول مضادات التخثر الفموية استخدمت خوارزميات تستند إلى البيانات الجينيّة لذوي العرق الأبيض، فقد أخفقت هذه الخوارزميات بالتنبؤ بالنتائج لدى الأعراق المختلفة (Hernandez et al. 2020).  لذلك فإن تضمين البلدان النامية في الدراسات، سيؤدي إلى توسيع نطاق الشعوب والإثنيّات التي قُوِّمت نتائج اختبارات الوراثة الدوائية فيها، والتباين بينها، وهذا ما يُفترض فعله بالحقيقة، بحيث يجب تقويم تأثير كل اختلاف جيني على نطاق واسع قبل اعتباره اختلافًا موجودًا عالميًا وتضمينه في الممارسات الطبّية السريرية التابعة لعلم الوراثة الدوائي.

تجدر الملاحظة أنه في بعض الأحيان، تتباين الحاجات بين البلدان النامية والبلدان المتقدمة من حيث المجالات التي تحتاج إلى أبحاث في علم الوراثة الدوائي.  يمكننا ملاحظة ذلك في (الرسم البياني 1) حيث إن عديدًا من البلدان النامية، وعلى الرغم من إجرائها أبحاثًا في علم الوراثة الدوائي، ليست من بين البلدان التي تُجري دراسات على مضادات التخثر الفموية.  ينطبق هذا على البلدان الأفريقية مثلًا، التي يتركّز اهتمامها على أمراض معيّنة فتدرس الأدوية المرتبطة بها كبعض مضادات الفيروسات ومضادات السل (Zgheib and Patrinos 2020).  إحدى الفروقات الإضافية بين البلدان هي أن بعضها تُجري تعاونًا مشتركًا وتوحّد مواردها، لتقويم تأثيرات الاختلافات الجينيّة على الاستجابة الدوائية لدى مختلف القبائل والمجموعات العرقية، بينما تركّز بلدان أخرى على اكتشاف المؤثّرات الخاصة بشعوبها (Zgheib and Patrinos 2020).

الفجوات والتحديات على صعيد التطبيقات السريرية:

على الرغم من كثرة التوصيات الطبية والإرشادات الدوائية الناتجة عن علم الوراثة الدوائي التي باتت تشمل عددًا كبيرًا من الأدوية (Whirl-Carrillo et al. 2012)، إلّا أن التطبيقات السريرية لعلم الوراثة الدوائي تتقدم بوتيرة أبطأ بكثير من وتيرة الأبحاث في البلدان النامية. مثلًا، أظهر استطلاع دولي حول التطبيقات السريرية والتحديات في علم الوراثة الدوائي، أن مؤسسات أكاديمية في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا تقوم بتقديم معظم اختبارات الوراثة الدوائية لمن يرغب، بينما لا تقوم معظم البلدان الأخرى بذلك (Abou Diwan et al. 2019). تكمن العوائق والتحديات في هذه البلدان في عدة عوامل، منها: تكلفة الاختبارات، المعرفة غير الكافية، تشكيك مقدمي الرعاية الصحية، تحليل الاختبارات بطريقة غير واضحة، وعدم كفاية الأدّلة على المنفعة السريرية لبعض هذه التطبيقات، على الأخص بالنسبة لسكّان البلدان النامية بما أن معظم البيانات والدراسات اُجريت عند شعوب بلدان أخرى.
بالإضافة إلى ذلك فإن البلدان ذات الموارد المنخفضة غالبًا ما تُستخدم فيها الأدوية التقليدية وغير المكلفة مثل (Warfarin)، (Clopidogrel)، (Thiopurines)، (Irinotecan)،-(Abacavir)، و(Carbamazepine)؛ وعليه تجدر الإشارة إلى أن شمول أبحاث الوراثة الدوائية لهذه الأدوية من المرجح أن يكون له فائدة كبرى للمرضى في هذه البلدان (Abou Diwan et al. 2019). وتبرز مظاهر التباين في هذا المجال حين نرى أنه فيما تنشغل معظم الدول المتقدمة حاليًا بتطوير اختبارات الوراثة الدوائية وإدراجها ضمن السجلات الطبية المطلوبة والاستمرار بتقييم منافعها ونتائجها (Roden et al. 2018; Rugevics and Schumann 1987)، فلا تزال البلدان ذات الموارد المنخفضة في مراحل مبكرة جدًّا في هذا المجال.

العمل على سد الفجوات:

على الرغم من التأخّر الملحوظ في البلدان ذات الموارد المنخفضة، فقد كانت هناك عديدًا من الجهود لسد الفجوات.

مبادرات التعاون الدولي والإقليمي:

يُعدّ التعاون الدولي والإقليمي سمة مهمة للغاية لتقدم أي مسعى علمي.  لذلك، فقد أُجريت عديدًا من مبادرات التعاون المشترك بهدف تعزيز قدرات البلدان النامية المحلية، تأمين التمويلات البحثية، وتمكين هذه البلدان من تطبيق التقنيات التي تكشف عن الاختلافات الجينية من أجل تطوير علم الوراثة الدوائي فيها.  يمكن الرجوع إلى دراسة (2020 Zgheib et al) للاطلاع على تفاصيل بعض هذه المبادرات.  أحد الأمثلة عن الاتحادات التي تسعى لتعزيز هذا النوع من التعاون هي مؤسسة (Multidisciplinary Consortium) التي تهتم بدراسة تأثير الاختلافات الجينية على التفاعلات الدوائية في شعوب مختلفة ومتنوّعة.  مثال آخر هو (International Warfarin Pharmacogenetics Consortium) الذي يضم 21 فريقًا بحثيًّا ينتمون لتسع دول من أربع قارات (International Warfarin Pharmacogenetics et al. 2009).  إلّا أنه نادرًا ما تكون مثل هذه الاتحادات شاملة للبلدان ذات الموارد المنخفضة.  لذلك، فإن عديدًا من الإرشادات الصادرة عن هكذا اتحادات في الدول الغربيّة، والمتعلقة بالجرعات الدوائية، لا تصلح للتطبيق والاستخدام في البلدان الواقعة في أجزاء أخرى من العالم (Roper et al. 2010).  فإذن من المهم أن تشمل هذه المبادرات البلدان المهمّشة، وأن تأخذ بعين الاعتبار أولويات الصحة العامة في كل بلد وتأثير أمراض معيّنة عليه.  كما يجب البناء على إنجازات وخبرات البلدان المتقدّمة بدلاً من البدء من نقطة الصفر، من أجل توفير الجهود وتسريع الوصول إلى مراحل التطبيق السريري (Mitropoulos et al. 2017).

الجيل الجديد من تقنيات التسلسل الجيني (Next-generation sequencing):

نظرًا لتعقيد وتعدّد المؤثّرات الجينيّة على استقلاب الجسم للأدوية والاستجابة لها وآثارها الجانبية، فإن نجاح الدراسات المبكّرة التي كانت تدرس تأثير كل جين على حِدة، كان محدودًا؛ ممّا دفع البلدان المتقدّمة إلى البحث عن تقنيّات تسمح بدراسة جينات متعدّدة في ذات الوقت، وتحليل الجينوم بشكل أوسع، ما يسمح بفهم المسارات المؤثّرة على العمل الدوائي بشكل شامل (Visvikis-Siest et al 2018).  وفي هذا السياق، فقد برز منذ عام 2008 «الجيل الجديد من تقنيات التسلسل الجيني» كأداة جديدة وفعّالة للكشف عن عديدًا من المتغيّرات الجينية النادرة المسؤولة عن جزء كبير من الاختلافات في الاستجابة الدوائية (Ingelman-Sundberg et al. 2018).  على صعيد التطبيق السريري، لا يزال استخدام هذه التقانات والترجمة الفعليّة لنتائجها في بدايته في البلدان النامية، التي تواجه عديدًا من العوائق، مثل: محدوديّة الموارد والبنى التحتية المتاحة (Giannopoulou et al. 2019).  بينما أُحرز تقدم وانتشار سريع لهذه التقانات على صعيد التطبيق السريري في البلدان ذات الموارد المرتفعة، لا سيّما منذ عام 2015 (van Dijk et al. 2014).  لحسن الحظ، فإن تكاليف هذه التقانات آخذة ومستمرة بالانخفاض ممّا يبشّر أنّها قد تصبح مُتاحة بعد سنوات قليلة في البلدان النامية.  على المستوى البحثي، سيسمح استخدام هذه التقانات بتحديد المتغيّرات الجينيّة المشتركة بين الشعوب والأعراق من جهة، وتلك الخاصة بسكّان البلدان النامية من جهة أخرى؛ ممّا سيمهّد الطريق للاستفادة الفعليّة من نتائج الأبحاث على مستوى التطبيقات السريرية للوراثة الدوائية في هذه البلدان (Ingelman-Sundberg et al. 2018; van Dijk et al. 2014).

التعليم والتدريب:

كما ذكرنا سابقًا، فإن أبرز التحديات في هذا المجال تتضمّن المعرفة غير الكافية وتشكيك مقدّمي الرعاية الصحية. لذلك فإن تطوير مهارات الأطباء والصيادلة هو جانب مهم لتقدّم علم الوراثة الدوائي في البلدان النامية. من الأمثلة التي تصبّ في خانة الجهود التعليمية في هذا المجال هو ‭ ‬،(Pharmacogenomics Knowledge Base “PharmGKB”) وهي قاعدة بيانات مُتاحة للجميع تحتوي على معلومات حول التفاعلات الجينية الدوائية، وأهم التحديثات والإرشادات المتعلقة بهذه الأدوية ووصفها (Whirl-Carrillo et al. 2012). لكن مقدّمي الرعاية الصحية في البلدان النامية يحتاجون إلى التعرّف والتدريب أكثر على مثل هذه الموارد وطرق الاستفادة منها. يمكن تحقيق ذلك من خلال حضور المؤتمرات التعليمية كالتي تنظّمها (Golden Helix Foundation) مثلًا، وعبر تعزيز المحتوى التعليمي المتعلّق بعلم الوراثة الدوائي في المناهج الجامعيّة، على مستوى البكالوريوس والدراسات العليا (Ghaddar 2012، Zgheib et al. 2020). كما ينبغي زيادة مشاركة باحثي البلدان النامية في البرامج الدولية التي تقدّم منحًا بحثيّة، وتنظّم برامج تبادل، مثل ‭ (‬EuRopean Action Scheme for the Mobility of University Students “ERASMUS”‭)‬ و‭(‬Upward Mobility Program “UMP”‭) ‬التابع‭ ‬إلى‭ (‬United States Agency for International Development “USAID”‭).‬

بالمحصّلة،‭ ‬نرى‭ ‬أن‭ ‬العلماء‭ ‬في‭ ‬البلدان‭ ‬النامية‭ ‬يواجهون‭ ‬عديدًا من التحدّيات التي تؤخّر تقدّمهم في علم الوراثة الدوائي على الصعد البحثية والتطبيقية. لذلك يوصى بتعزيز التعاون الدولي لتعزيز التمويل البحثي والقدرات المحليّة، مع الأخذ بعين الاعتبار أولويّات الصحّة العامة في كل بلد، وتمكين هذه البلدان من تطبيق الجيل الجديد من تقنيات التسلسل الجيني وتنظيم برامج التدريب والتبادل لدفع أبحاث علم الوراثة الدوائي وتطبيقاته السريرية إلى الأمام فيها.

Share This