علم ما فوق الجينات
ليست الجينات وحدها ما يشكل هويتنا!
م. بدر العوفي – هندسة حيوية – هيئة الغذاء والدواء – السعودية
هل الصفات الوراثية تتعلق فقط بالجينات، أم يمكن للفرد أن يرث من والديه أثر تعرضهما لمتغيرات البيئة؟ وهل يمكن للعادات الغذائية للوالدين أن تنعكس على الصفات الظاهرية والصحية للسلالة؟ وهل يمكن تصحيح التغيرات البيئية على الجينات بما يجعلنا أقل عرضة للإصابة بالأمراض؟
للإجابة عن هذه الأسئلة أجرى العديد من الباحثين بمطلع هذا القرن بحوثًا مكثفة لفهم آلية أثر البيئة على الجينات، من خلال ما يعرف بعلم ما فوق الجينات، حتى أصبح هذا العلم من أكثر العلوم الحيوية حراكًا بالعقدين الماضيين(1) (الشكل 1). وعلم ما فوق الجينات يشير لمجال العلم الذي يدرس تأثير البيئة والسلوك في طريقة عمل الجينات(2). حيث يحدث هذا التأثير بالتصاق مركبات كيميائية معينة على مكونات الحمض النووي، لتثبيط أو تنشيط جين معين، وبالتالي التحكم بعملية التعبير الجيني، وفق ما بينت العديد من المشاهدات البحثية. كما أشارت بعض الأبحاث لفرضية وراثة هذه العمليات، إذ يمكن للفرد أن يرث جينات والديه بمركباتها التي تحدد نشاطها، ولكنها بالوقت ذاته عملية عكسية ويمكن إعادة برمجتها وعلاجها. ولهذه الاعتبارات، تهدف هذه المقالة إلى مراجعة المشاهدات المتعلقة بعلم ما فوق الجينات، واستعراض أبرز التطبيقات الطبية ذات الصلة بهذا العلم.
نظرة شاملة لعلم ما فوق الجينات
يوجد بنواة كل خلية بجسم الإنسان 46 كروموسومًا، تحتوي على جميع المعلومات الجينية الضرورية للعمليات الحيوية. ويشتمل الكروموسوم الواحد على شريط جيني طويل جدًا، يلتف حول مركبات بروتينية تسمى الهستون (Histone). ينتج عن التفاف الشريط الجيني حول الهستون تنشيط أو تثبيط الجينات؛ فعند التفاف الشريط حول الهستون بإحكام، يصبح الجين متواريًا وغير قابلًا للنسخ ومثبطًا، وعندما يصبح التفاف الشريط حول الهستون أقل إحكامًا، يصبح الجين مكشوفًا وقابلًا للنسخ مما ينشط ذلك الجين(4) (الشكل 2). وبالرغم من أن جميع خلايا الجسم تحتوي على الشفرة الوراثية ذاتها، إلا أن التنوع بالخلايا البشرية ينشأ من عملية تنشيط وتثبيط جينات محددة لتشكيل الخلايا. فالخلية العصبية، مثلًا، تحتوي على جينات منشطة تختلف عن جينات الخلية العضلية، وكذلك الحال مع ما يزيد عن 200 نوع من الخلايا بجسم الإنسان(5).
بينت الدراسات أن آلية تثبيط وتنشيط الجينات تتم، بعض صورها، من خلال التصاق مركبات كيميائية على الهستون لإحكام التفاف الشريط الجيني (مجموعة ميثيل: Me3)، أو لارتخائه (مجموعة أسيتيل: Ac). كما يمكن لمجموعة الميثيل أن تلتصق على الحمض النووي، مما ينتج عنه تثبيط النشاط الجيني (الشكل 2). ولكن بحالة مشابهة لهذه الآلية الطبيعية فيمكن أيضا لبعض المعطيات البيئية أن تؤثر على هذه العمليات، مما قد يتسبب بحدوث الأمراض، كعدم توفر مصدر لمادة الميثيل مثلًا (مسبب غذائي)، أو بوجود خلل بالاستجابة لمعطيات تكيف الفرد مع بيئته (مسبب سلوكي). وبالتالي، فعلم ما فوق الجينات يعنى بدراسة آلية تثبيط وتنشيط الجينات من خلال تحليل نسب العوامل الكيميائية التي تبنى فوق المواد الجينية، ومقارنة ذلك مع الحالات الطبيعية ذات الصلة(4). (كما يمكن تثبيط أو تنشيط الجينات من خلال عائلة من الأحماض النووية التي تتحكم بآلية ترجمة الأحماض إلى بروتينات (ncRNA)، والتي ستكون خارج نطاق هذه المقالة).
المشاهدات المبكرة لتأثير العوامل فوق الجينية
خلال الحرب العالمية الثانية، أدى الحصار الذي فُرض على هولندا لحدوث مجاعة استمرت ثمانية أشهر، وتسببت بموت ما يزيد عن 22 ألف مواطن هولندي، والتي عرفت بالمجاعة الهولندية (Dutch famine: 1944– 1945)(6). وبعد مرور 60 عامًا من المجاعة، ومع تطور أدوات علم ما فوق الجينات، تم نشر العديد من الأبحاث التي حللت مستويات العوامل فوق الجينية بالأفراد الذين قضوا فترة الحمل الأولى إبان المجاعة، مقارنة مع أشقائهم الذين قضوا فترة حملهم بعد انقضاء المجاعة(7)(8)(9). أظهرت النتائج تغيرًا ملحوظًا بمستويات الميثيل بمورثات الأفراد الذين قضوا حملهم إبان المجاعة، إذ لم يرثوا عن أمهاتهم الجينات فقط، بل وعوامل ما فوق الجينات أيضًا! نتج عنه تغيرات بتعبير الجينات جعلت هؤلاء الأفراد أكثر عرضة للأمراض من أشقائهم. فعلى سبيل المثال، أظهرت نتائج دراسة، أجراها باحثون من جامعة لايدن الهولندية بعام 2018، زيادة ملحوظة بعوامل الميثيل بالجين المسؤول عن تحويل الغذاء إلى طاقة، مما أدى لتثبيط هذا الجين بالأفراد الذين قضوا حملهم إبان المجاعة(10). ما قدم تفسيرات محتملة لشيوع أمراض القلب، والسمنة، وداء السكري(2)، بل والوفاة المبكرة(11) بتلك الفئة. كما أظهرت الدراسات مشاهدات مشابهة بضحايا المجاعة الصينية (Chinese famine) التي حدثت خلال الفترة 1959-1961(12).
وبالرغم من أن هذه المشاهدات أدت لولادة علم ما فوق الجينات، إلا أن مسببات تراكم العوامل فوق الجينية لا تقتصر فقط على المؤثرات الوراثية (وراثتها من أحد الأبوين)، بل يمكن أن تنشأ أيضًا من العادات الغذائية والصحية، والمؤثرات الكيميائية والدوائية، وبسبب العدوى البكتيرية، أو التقدم بالعمر(2)(13). وقد مهّد الفهم الحديث لهذه المسببات لحدوث ثورة طبية، قادت لآفاق علاجية محتملة للعديد من الأمراض المستعصية، كالسرطان، وداء السكري، والأمراض النفسية والمناعية. حتى أصبح العلم من أكثر العلوم الطبية دعمًا من قبل منظمات الأبحاث الطبية بالدول المتقدمة، إذ أوضحت التقارير أنه قد تم خلال الفترة 2005-2015 منح أكثر من 5000 منحة لبرامج أبحاث علم ما فوق الجينات بالولايات المتحدة الأمريكية وحدها، بقيمة تجاوزت 8 مليار دولار، علاوة على 2000 منحة أخرى بدول غرب أوروبا، بقيمة بلغت ما يزيد عن ملياري دولار للفترة ذاتها(14).
الغذاء كدواء وقائي: علم ما فوق الجينات الغذائي
في عام 2003، قام باحثان من جامعة ديوك الأمريكية بمحاكاة تجربة المجاعة معمليًا، بهدف اختبار تأثير التغذية، خلال مراحل الحمل المبكرة، بالعمليات فوق الجينية للفئران. تم استخدام جين محدد (Agouti gene) كمؤشر لمثيلة الحمض النووي (DNA) (وهو الجين المسؤول عن صبغة لون فراء الفئران، إذ ينتج عن تنشيطه صبغ فراء الفئران باللون الأصفر، وعند تثبيطه يكون لون الفراء بني). أجريت التجربة من خلال فرز فئران متشابهة جينيًا لمجموعتين؛ حيث تم إطعام المجموعة الأولى خلال الفترات المبكرة للحمل بمكملات غذائية غنية بمجموعة الميثيل (كحمض الفوليك، وفيتامين بي 12، ومادتي الكولين والبيتين)، في حين أطعمت المجموعة الثانية بغذاء مقتصد وبلا مكملات غذائية (الشكل 3). نتج عن هذه التجربة أن أنجبت الفئران ذات المكملات الغذائية فئران بنية اللون (بدلالة على نجاح مثيلة الجينات) والتي تمتعت بصحة جيدة، في حين أنجبت المجموعة الثانية فئران صفراء اللون (بدلالة لعدم مثيلة الجينات) والتي بدت بحالة غير صحية، وتعاني من السمنة، وكانت أقل نشاطًا، وأكثر عرضة للأمراض (الشكل 4). وعند تكرار التجربة بإطعام الفئران الصفراء بالمكملات الغذائية، أنجبت فئران بنية اللون، تتمتع بصحة جيدة، وأقل عرضة للأمراض(15).
أدت نتائج هذه الدراسة إلى اهتمام واسع بعلم ما فوق الجينات على العموم، وأثر التغذية بالتأثيرات فوق الجينية على وجه الخصوص، مما أسفر عنه بروز فرع جديد للعلم؛ يشار إليه بعلم ما فوق الجينات الغذائي (Nutriepigenomics)(16). وبالرغم من أن أغلب الدراسات تطرقت لأهمية التغذية بالعمليات فوق الجينية خلال مراحل تكون الأجنة وخلال المرحلة المبكرة لما بعد الولادة، بصفتها نوافذ حرجة للنمو والتطور(17)، إلا أن بعض الدراسات أشارت للأثر فوق الجيني للغذاء خلال مرحلة البلوغ أيضًا(18). فمن جانب، تلعب الأغذية دور رئيس بتوفير العوامل فوق الجينية المهمة للنمو والتطور، وتجنب خطر السمنة، وأمراض القلب، والإصابة بداء السكري، وضغط الدم(19). ومن جانبٍ آخر، أشارت الدراسات لارتباط كبير بين الأغذية والعوامل فوق الجينية ذات الصلة بتقليل احتمالية نشوء العديد من الأورام السرطانية(20).
وصفات للصحة النفسية: علم ما فوق الجينات السلوكي
كان من أبرز المشاهدات التي أشارت لها الدراسات الوبائية للأفراد الهولنديين الذين قضوا فترات حملهم المبكرة خلال المجاعة الهولندية، ارتفاع ملحوظ بمرض الفصام الذهني(2). ما دفع الباحثين لمحاولة تقصي ذلك من خلال علم ما فوق الجينات. وفي عام 2020، أظهرت دراسة منهجية موسعة لباحثين من جامعة زيوريخ السويسرية (بعد مراجعة مخرجات 152 دراسة ذات صلة، اشتملت على إجمالي عينة يزيد عن 27 ألف مشارك) وجود إثبات علمي يؤكد العلاقة بين مرض الفصام الذهني والمعاملات فوق الجينية. وحيث أن مرض الفصام قد ظل منيعًا لعقود طويلة على الفهم العلمي، فقد أكدت الدراسة أن هذه المخرجات ستسهم في تقديم أداة أكثر دقة للأطباء بآليات التشخيص، وتصنيف الخطورة، والمعرفة المبكرة بالمرض(21).
من جانبٍ آخر، فقد بينت الدراسات أيضًا وجود علاقة بين الضغوط النفسية والعوامل فوق الجينية(22). وفي تجربة، أجريت من قبل باحثين من معهد جامعة دوجلاس للصحة العقلية بكندا بعام 2004، تم اختبار هذه العلاقة معمليًا باستخدام فئران التجارب. حيث تم فرز الفئران إلى مجموعتين بحسب السلوك؛ تحتوي المجموعة الأولى على أمهات يمارسن لعق جرائهن خلال الأسبوع الأول من الولادة، في حين تحتوي المجموعة الثانية على أمهات بلا اهتمام بالجراء. نتج عن ذلك أن أظهرت جراء المجموعة الأولى مستوى منخفض لهرمون الإجهاد (Stress Hormone)، وبالتالي، مستوى منخفض للقلق والتوتر، وعند إجراء عملية التحليل فوق الجيني، تبين عدم مثيلة الجين المسؤول عن انتاج هرمون الإجهاد. أما المجموعة الأخرى فقد أدى عدم اهتمام أمهات الجراء إلى مثيلة الجين المسؤول عن إنتاج هرمون الإجهاد، مما نتج عنه ارتفاع بمستوى إفراز الهرمون، صاحبه قلق مستمر لطيلة حياة الفئران(23) (الشكل 5).
وفي عام 2009، قام الفريق البحثي بتكرار التجربة، لاختبار أثر السلوك في العوامل فوق الجينية لدى البشر. حيث تم جمع عينات من ضحايا انتحار ممن لهم تاريخ بالتعنيف خلال مرحلة الطفولة، وقارنوا ذلك بضحايا انتحار لم يتعرضوا للعنف إبان طفولتهم وعينات أخرى مرجعية. وقد سجلت الدراسة نتائج مشابهة للتجربة التي أجريت على الفئران، حيث أظهرت المجموعة الأولى (انتحار مع سوابق تعنيف خلال الطفولة) ارتفاعًا ملحوظًا بمثيلة الجين المسؤول عن انتاج هرمون الإجهاد، نتج عن الإساءة والإهمال خلال مرحلة الطفولة، ولازم أولئك الأفراد حتى انتهت حياتهم بالانتحار(24). أدت هذه المخرجات إلى اهتمام واسع بحقل النمو والتطور للأطفال، حيث يكون عقل الطفل بمراحله المبكرة أكثر عرضة للتأثر بالعوامل البيئية والسلوكية. وأوضح مركز تنمية الطفل بجامعة هارفارد الأمريكية أن تجارب الأطفال المبكرة ذات أثر بصنع بصمتهم فوق الجينية، سواءً كانت هذه التجارب صحية أو بمؤثرات سلبية. وهذه البصمة يمكن أن تكون دائمة أو مؤقتة، وذات أثر على تنشيط أو تثبيط جينات الطفل لإعداده للتكيف مع ظروف بيئته. وحيث أوضحت التجارب أن بعض التغيرات قابلة للعلاج، إلا أن الحالة المثلى لبناء العقول تكون بتنشئة الطفل ببيئة مليئة بالتجارب الصحية، وتجنب العنف والضغوط النفسية بكافة صورها(25) (الشكل 6).
كما افترضت الدراسات أن مشاعر الاستجابة للخوف يمكن أيضًا أن تنتقل عبر السلالة. ففي تجربة أجريت بعام 2013 تم تعريض فأر تجارب (ذكر) لرائحة عطرية وتعريضه بالوقت نفسه لصعقة كهربائية، وتكرار ذلك، حتى أظهر الفأر مشاعر الخوف كلما استنشق تلك الرائحة. وعند تزاوج الفأر وإنجاب جيلٍ جديدٍ، تم تعريض جراء الجيل الثاني للرائحة العطرية ذاتها، وبدون صعقة كهربائية، أظهرت الجراء مشاعر الخوف، الأمر الذي لم يحدث عند تعريض الجراء لروائح مختلفة، مما دل على اكتساب صفة الخوف بمؤثر من مورثات الفأر الذكر (الأب)! وعند إجراء عملية التحليل فوق الجيني، تبين تشابه الجيلين بحالة مثيلة الجين المختص بتمييز الروائح بالدماغ(26)! إلا أن هذه التجربة ووجهت بالنقد لمحدودية عينة الدراسة(27)، ولأسباب أخرى. فما يزال فريقًا من العلماء لا يعتقد بفرضية وراثة المعاملات فوق الجينية، ويتفقون فقط مع مشاهدات تأثر الأجنة بالعوامل التي تتعرض لها الأم، بصفتها مؤثرات جنينية وليست وراثية(28).
آفــــاق علاجيـــة جــديــدة: عـــلاج الســــرطان نموذجًا
أسهم الفهم الحديث بآليات المعاملات فوق الجينية بتقديم حلول بديلة لعلاج الأمراض، وخصوصًا المستعصية منها. حيث تم توظيف تقنيات العلم لتشخيص وعلاج السرطان، واضطرابات المناعة الذاتية، والاضطرابات العصبية؛ كالزهايمر وباركنسون، والاضطرابات النفسية، والأمراض المستعصية؛ كالسكري، وغيرها(29). وبالنظر لقاعدة البيانات الأمريكية للدراسات السريرية، واستخدام مصطلحات بحث ذات صلة بعلم ما فوق الجينات، نجد أن هناك ما يقارب 1000 تجربة سريرية تجرى حاليًا على البشر، استعدادًا لطرح منتجات أو تقنيات العلم بالأسواق، جلها (72%) بالولايات المتحدة ودول غرب أوروبا(30).
ففي أبحاث السرطان، قدم علم ما فوق الجينات طرق جديدة للكشف المبكر عن الأورام، من خلال تحليل مثيلة الجينات الكابتة للأورام (Tumor suppressor genes). وهذه الجينات مسؤولة عن مراقبة عملية انقسام الخلايا وإقصاء الخلايا ذات الخلل بتركيبة الحمض النووي، أما بحالات تكون الأورام، فتكون هذه الجينات مثبطة بمثيلتها (ارتباط مجموعة ميثيل بها) مما يتيح للخلايا السرطانية الانتشار بلا رقابة. ولهذا فارتفاع مستوى الميثيل بمحفز هذه الجينات يعد مؤشرًا لبدء نشوء الأورام(31). وبالعلاج، فقد قدمت الأبحاث اسهامات عديدة لتحديد الجينات التي تحتوي على مستوى مرتفع للميثيل ببعض الأورام، أو لتحديد خللًا بالتركيبة الطبيعية للهستون ببعضها الآخر(29). تلا هذه الخطوة استهداف تلك الجينات (أو الخلل بتركيبة الهستون) لعلاجها غالبًا بعقاقير مثبطة (Enzyme inhibitors). ويمكن فرز هذه العقاقير لثلاثة فئات رئيسة استنادًا على آلية عمل المعاملات فوق الجينية (الشكل 2). الأولى تعمل على تثبيط نشاط الإنزيم المسؤول عن مثيلة الـ (DNA)، ومن الأمثلة على ذلك عائلة انزيمات تسمى (DNA methyltransferases: DNMTs)، حيث يكون العلاج بتصنيع عقار مثبط لنشاط هذه الإنزيمات بهدف تنشيط جين محدد، وبالتالي إيقاف تطور الورم. وبرغم أن هذه العقاقير ذات فعالية عالية، إلا أن التجارب أشارت لتحدٍ يتعلق بدقة استهداف جين محدد، إذ غالبًا ما يصاحب هذه العملية أعراضًا جانبية ناتجة عن التأثير أيضًا على جينات غير مستهدفة بالجينوم(32).
الفئة الثانية من العقاقير فوق الجينية لمعالجة السرطان تعمل على تثبيط نشاط الإنزيم المسؤول عن منع إضافة مجموعة أسيتيل على الهستون، ومن الأمثلة على ذلك عائلة أنزيمات تسمى (Histone deacetylases: HDACs)، إذ عند تثبيط نشاط هذا الإنزيم يتم استرداد الحالة الطبيعية بتمدد الشريط الجيني حول الهستون، وبالتالي تنشيط الجين المستهدف. وهذه العقاقير هي الأكثر شيوعًا بالدراسات السريرية القائمة، لتعدد استخداماتها. أما الفئة الثالثة فتستهدف تثبيط نشاط الإنزيم المسؤول عن مثيلة الهستون، وهي الفئة الأقل شيوعًا، ومن أمثلتها عائلة إنزيمات تسمى (Histone methyltransferases: HMTs). تجدر الإشارة إلى أن عددًا محدودًا من منتجات علم ما فوق الجينات قد حصل على ترخيص الجهات الرقابية لدخول الأسواق (7 منتجات حتى عام 2019)، غير أن المئات من الدراسات السريرية ما زالت قائمة لتطوير عقاقير علاج للسرطان، والتي بلغت، وفق تقصي إحدى الدراسات، 400 دراسة سريرية تقريبًا، %30 منها تستند على آلية الفئة الأولى، %52 للفئة الثانية، و%5 للفئة الثالثة، بينما المتبقي لدراسات تستند على أكثر من آلية(32).
إذن فقد أعادت مبادئ علم ما فوق الجينات التصور حول العديد من المفاهيم الحيوية. فليست الجينات وحدها ما يشكل هويتنا؛ بل قد نكون محصلة لمتغيرات بيئتنا، وبيئة آبائنا وأمهاتنا، ومحصلة لمعاملات غذائنا، وغذاء آبائنا وأمهاتنا، ونحن وفق معطيات سلوكنا، وسلوك آبائنا وأمهاتنا. فالجينوم لم يعد نصًا جامدًا، بل مرنًا ببعض صوره؛ وقد يغلب التشكل على الشكل أحيانًا. كما أعادت مبادئ علم ما فوق الجينات التصور حول آراء المدارس الفلسفية، ففي حين تصف نظرية التطور أن الكائنات القادرة على البقاء ترشحت بالانتخاب الطبيعي، (واستمرت السلالةُ بصفاتها)، يصف علم ما فوق الجينات -بشواهد عديدة- أن الكائنات قد تعرضت لمؤثرات، واستجابت لها، (فاستمرت الصفاتُ بسلالتها)! ولهذا، فبين نظرية أصل الأنواع للعالم الإنجليزي تشارلز داروين، ونظرية وراثة الخصائص المكتسبة للعالم الفرنسي جان لامارك، يضع العلم بصمته!