ما هي الخيمرية الميكروية
وعلاقتها بالرضاعة؟
د. نهى أشرف – صيدلة – جامعة أسيوط – مصر
إن العلاقة بينك وبين طفلك أعمق مما كنتِ تتخيلين؛ فالعلاقة لا تقف عند الرحم أو بضع قطرات من الحليب، تشاركها الأم رضيعها، وتقف عند الولادة والفطام؛ بيد أنها تصل إلى المشاركة في خلايا جنينية تستقر في جسم الأم.
قد تعتقدين أنكِ فرد مستقل بذاتك، ولكن في الواقع طفلك مسؤول عن صحتك الجسدية والنفسية، بطريقة غير مباشرة؛ مما يجعلك تشعرين بالسعادة أن طفلك لم ينفصل عنكِ، وأنه مازال يعيش بداخلك.
تعيش الأمهات عمرًا أطول من النساء اللاتي لم يسبق لهن الحمل من قبل؛ وقد يرجع ذلك إلى الخيمرية الميكروية.
فما هي الخيمرية الميكروية وفوائدها وأضرارها، وهل يترك الأبناء خلايا جنينية بعد الإجهاض؟
ما هي الخيمرية الميكروية؟
الخيمرية الميكروية، هي وجود خلايا حية تختلف عن خلايا الجسم الأصلية في الحمض النووي. وفي دراسة أجريت منذ عدة سنوات اكتشف العلماء أن في أجسام الأمهات خلايا حية مختلفة في الحمض النووي، فقد وجدوا خلايا في دم الأم تحتوي على الكروموسوم (Y)؛ وبما أنه كروموسوم ذكري؛ فإنه يعود إلى أبنائهن.
كيف نشأ مصطلح الخيمرية الميكروية؟
إن اكتشاف الخيمرية الميكروية ليس باكتشافٍ جديد. والمفاجأة أنه يعود إلى العصر اليوناني، فقد قيل عن وجود كائن خرافي يُدعى خيمرا (Chimera) نصفه أسد ونصفه الآخر ماعز.
كيف تنتقل الخلايا الخيمرية الميكروية؟
هناك طريقتان لانتقال هذه الخلايا إحداهما طبيعية، إذ يحصل الجنين على ما يحتاجه من الغذاء والغازات من أمه، ويتخلص من الفضلات عن طريق المشيمة؛ لذلك يعتقد العلماء أن هذه الخلايا تنتقل من الجنين إلى الأم عن طريق المشيمة أيضًا، ويزيد عدد الخلايا بمرور شهور الحمل؛ لتستقر في جميع أعضاء الجسم، مثل: الرئة، والعضلات، والجلد، والغدة الدرقية، والقلب، والكلى، والدم.
ويبدأ انتقال الخلايا من الأسبوع الرابع أو الخامس للحمل بعد التخصيب، ويمكن الكشف عن وجود هذه الخلايا في الدم حتى شهر من الولادة. ليس هذا فحسب، بل يعتقد العلماء أنه يتم انتقال هذه الخلايا بين التوائم أثناء الحمل، وأيضًا يُعتقد انتقال هذه الخلايا من الابن الأكبر إلى الابن الأصغر عن طريق الأم أثناء الحمل.
كما تحمل المرأة هذه الخلايا من أمها أيضًا؛ لذلك يحدث تنافس بين خلايا الجنين والجدة في جسد الأم. ولا يقف انتقال هذه الخلايا عند الأم وطفلها، ولكن قد تنتقل هذه الخلايا من الزوج لزوجته أثناء الجماع.
أما الطريقة الصناعية فتتم عن طريق نقل الدم (Blood Transfusion)، أو زراعة الأعضاء، أو الأنسجة (Organ/Tissue Transplant).
هل يترك الأبناء خلايا جنينية بعد الإجهاض؟
تزداد عدد الخلايا الجنينية في الأم عند الإجهاض في الشهور الأولى من الحمل، خاصةً إذا كان الإجهاض جراحيًا؛ حيث يصبح الجسم أكثر عُرضة للإصابة بالأمراض المناعية. ويترك الأبناء خلايا جنينية غير كاملة النمو؛ بسبب حدوث الإجهاض وعدم اكتمال فترة الحمل، إذ تظل موجودة لمدة شهر بعد الإجهاض.
ويكمن الدليل على ذلك في إجراء إحدى الدراسات على 76 امرأة عبر الحصول على عينات الدم قبل الإجهاض بأسبوع، وبعد شهر من حدوثه؛ وخلُصت النتائج إلى وجود خلية ذكرية واحدة في كل 100.000 خلية أنثوية. بما يصل إلى 52.8% من الحمض النووي للذكور بعد الإجهاض، وتصل إلى 5.6% بعد مرور أسبوع، وتختفى بعد مرور شهر.
هل هناك علاقة بين خلايا الجنين ومخ الأم؟
تخيل أن تجد خلايا الأبناء الذكور تعيش في مخ أمهاتهم، فهذا أمر غريب، أليس كذلك؟!
الأغرب من ذلك، عندما فحص العلماء أدمغة النساء، بحثًا عن خلايا تحتوي على الكروموسوم (Y)، وجدوا أكثر من 60% من هذه الخلايا في أماكن عديدة في المخ. كما وجد العلماء الخلايا الجنينية تنمو في مخ الأم؛ لتصبح خلايا عصبية عند إجراء دراستهم على الحيوانات، بالإضافة إلى قدرتها على العبور خلال الحاجز الدموي الدماغي؛ لحدوث تغييرات في نفاذيته أثناء الحمل.
الجدير بالذكر أن الأم تصبح أكثر عُرضة للإصابة بمرض الزهايمر إذا حملت أكثر من مرة؛ لذلك توقع العلماء أن يجدوا خلايا جنينية أكثر؛ بيد أن الصدمة أنهم وجدوا عدد الخلايا الجنينية أقل في الأم التي تعاني من مرض الزهايمر؛ مما جعلهم يتساءلون عن أهمية هذه الخلايا لصحة المخ؟
ولكن لا يزال السبب مجهولاً حتى الآن، لعدم وجود دراسات كافية حول هذا الموضوع.
ما العلاقة بين الخيمرية الميكروية والرضاعة؟
تُعد هذه العلاقة علاقة تبادلية؛ إذ تنتقل هذه الخلايا من الأم للطفل وتسمى خلايا خيمرية ميكروية أمومية المنشأ (Maternal Microchimerism) عن طريق الرضاعة، لكنه ليس أمرًا شائع الحدوث.
كما وجد العلماء خلايا الأم في الأبناء حتى بعد مرور 62 عامًا من الولادة، وبسبب ذلك وجدوا 1-5000 خلية أحادية النواة في الدم المحيطي ناتجة من الخيمرية الميكروية أمومية المنشأ. وقد دل على ذلك وجود كرات الدم البيضاء من الأم داخل دم الحبل السري للجنين، كما وُجدت في أعضاء عديدة للجنين مثل الرئة، والجلد، والكبد، وغيرها.
كما أثبتت إحدى الدراسات على القوارض انتقال هذه الخلايا من الأم إلى أنسجة الطفل من خلال الأغشية المخاطية للمعدة عن طريق الرضاعة، خاصةً في مراحلها الأولى عندما تكون الخلايا اللبنية وفيرة، ونفاذية المعدة مرتفعة. وحتى الآن طبيعة هذه الخلايا غير معروفة. لكن يُعتقد أنها قد تكون خلايا جذعية حية (Stem Cells)، ومناعية (Mature Immune Cells)، وسلفية (Progenitor Cells)؛ حيث أظهرت بعض الأبحاث إمكانية تحول هذه الخلايا إلى خلايا أخرى مكونة لعضوٍ آخر مثل الكبد، والمخ، والعظام؛ مما يفتح طريقًا لاستخدام الخلايا الجذعية في الطب التجديدي (Regenerative Medicine) دون إلحاق الأذى بالجنين. والجدير بالذكر أن هذه الخلايا تساعد في التئام الجروح، وحماية الجسم من الأمراض المناعية، والأمراض المعدية مثل الإسهال، والالتهاب الرئوي، والأمراض المزمنة كمرض السكري.
يمد لبن الأم الطفل بالخلايا المناعية مثل الخلايا الطلائية، والبلاعم، والخلايا الليمفاوية البائية والتائية، في أول 4 أيام من الرضاعة في لبن السرسوب؛ لذلك ينصح العلماء بالرضاعة خلال ساعة من الولادة، والرضاعة عند الطلب، وتجنب استخدام زجاجة الرضاعة واللهايات، حيث يحتوي لبن الأم على 6% من الخلايا السلفية أو خلايا جذعية مكونة للدم (Hematopoietic)، وخلايا جذعية وسيطة (Mesenchymal)، وخلايا ظهارية عصبية (Neuroepithelial). يتقبل جسم الطفل الخلايا الخيمرية الميكروية أمومية المنشأ، لعدم وجود مستضدات التوافق النسيجي الكبير (MHC Antigen) التي تفرق بين ما هو ذاتي وما هو غريب عن الجسم.
دور الخلايا الجنينية في جسم الأم:
دور الخلايا الجنينية في جسم الأم غير معروف حتى الآن بشكل كافٍ، ولكن إليك آخر ما توصل إليه العلم:
– تساعد في التئام الجروح:
فعلى الرغم من ذلك يُعتقد أن لها دورًا يشبه الخلايا الجذعية، إذ تنمو حتى تكوّن أنسجة تساعد في التئام الجروح. وفي إحدى الدراسات التي أجريت على فأر حيث تعرضت الأم للإصابة بجرح في القلب؛ لاحظوا انتقال الخلايا الجنينية إلى قلب الأم، ومن ثم تنمو لتكوّن أنسجة تساعد في التئام الجرح. كما تظهر الخلايا الجنينية في تكوين الكولاجين، وعامل النمو المحول بيتا 3 (TGF-β3) في الجروح الملتئمة، مثل جرح الولادة القيصرية.
– دور الخلايا الجنينية في الأمراض السرطانية:
أثبت العلماء وجود هذه الخلايا في أورام الرئة التي انتقلت من النخاع إلى مكان الورم في الرئة لحماية الجهاز المناعي والتئام الجروح. كما يقلل الحمل في سنٍ متأخر من خطر الإصابة بمرض سرطان المبيض؛ حيث تعتبر النساء أكثر عُرضة للإصابة به بعد سن اليأس، إلا أن هذه الخلايا تلعب دورًا مهمًا في حماية الأم من الإصابة به. وعلى الرغم من ارتفاع نسبة الإصابة بالأمراض القلبية، إلا أن نسبة الوفيات انخفضت إلى 60% لمقاومة الأورام السرطانية، كما وصلت أعمار النساء إلى 80 عامًا.
– تقلل الإصابة بالحساسية:
وجد العلماء أن الخيمرية الميكروية لها دور في تقليل الإصابة بالحساسية؛ حيث وجد العلماء أن النساء اللاتي لم يسبق لهن الحمل أكثر عُرضة للإصابة بالحساسية مقارنةً بالأمهات.
هل الخلايا الجنينية لها أضرار على الأم؟
تُعد هذه الخلايا سلاحًا ذا حدين في الجهاز المناعي؛ إذ تتكون الخلايا الجنينية في جسم الأم من نصف الحمض النووي للأم داخل الجنين، والنصف الآخر يعود للأب؛ لذلك يكتسب الجهاز المناعي لدى الأم ميزة التعرف على الخلايا المتشابهة، ولكن تختلف في الحمض النووي مثل الخلايا السرطانية الناتجة من حدوث التغيرات الجينية التي تحفز المناعة، وتمنع نمو الأورام السرطانية.
وقد وجد العلماء هذه الخلايا بكثرة في الجسم السليم مقارنةً بمرضى سرطان الثدي. ولكن لسوء الحظ في بعض الأحيان يهاجم الجهاز المناعي الجسم؛ بسبب اختلاف الحمض النووي لهذه الخلايا محدثًا الفوضى والأمراض مثل التصلب المتعدد (Multiple Sclerosis)، وداء الطعم ضد المضيف (GVHD).
ويمكن العثور على الخلايا الجذعية المكونة لدم الجنين الناتج من نقل الدم في الأم حتى بعد مرور 27 عامًا على الولادة. كما تنمو هذه الخلايا لتكوّن كريات الدم البيضاء، والوحيدات (Monocytes)، والليمفاويات (Lymphocytes).
ووجد العلماء أن حوالي 80% من النساء يعانين من الأمراض المناعية بسبب الهرمونات الأنثوية، وقوة استجابة الجهاز المناعي ضد الأمراض؛ فقد تحدث إصابة بمرض تصلّب الجلد المناعي (Progressive Systemic Sclerosis) للنساء بعد الولادة بعدة سنوات؛ لذلك ربط العلماء بين الإصابة بالأمراض ذاتية المناعة ووجود كروموسوم (Y) بعد الحمل بسنوات طويلة مثل: داء هاشيموتو (Hashimotoʹs Thyroiditis)، والذئبة الحمراء (SLE)، ومتلازمة شوغرِن (Sjogrenʹs Syndrome).
ختامًا، تسير علاقة الخيمرية الميكروية في اتجاهين؛ مما يجعل لها مستقبلًا واعدًا للمساعدة في أغلب المشكلات الصحية التي تصيب النساء، وفي الوقت نفسه يظل هذا المجال غامضًا يحتاج إلى المزيد من الدراسات والأبحاث، كما يثير الكثير من الأسئلة التي تحتاج إلى إجابة شافية، وقد نصل إليها قريبًا لتُحدث ثورة في مجال المناعة الذاتية، وزراعة الأعضاء، وعلم الأورام.