مدى صحة الادعاءات المنتشرة عن الآثار السلبية لتقنية الجيل الخامس
محمد الجمهور – مدير قسم البحث التقني في مركز استشراف التقنية بوزارة الاتصالات وتقنية المعلومات
د.مراد رضا مراد – مدير إدارة أبحاث التقنية بوزارة الاتصالات وتقنية المعلومات
تعتمد شبكات الاتصالات في نقل البيانات على الإشعاعات الكهرومغناطيسيّة التي تعدُّ شكلًا من أشكال الطاقة. وتتكوّن هذه الإشعاعات من موجات الطاقة الكهربائيّة والمغناطيسيّة التي تسير سويًّا، وتنتقل بسرعة الضوء (300.000 كلم/ث).
وهُناك نوعان رئيسان من الإشعاعات، المؤيَّنة وغير المؤينة، ويجري تصنيف الأشكال المختلفة للإشعاعات الكهرومغناطيسيّة طبقًا لتردّداتها، وأطوالها الموجية، وذلك ضمن ما يسمَّى بالطيف التردّدي. وهو المدى الكلي للإشعاعات الكهرومغناطيسية بجميع تردّداتها، بحيث يمتدُّ من أول التردّدات المنخفضة (مثل التردّدات المستخدمة في الراديو)، مرورًا بالتردّدات المتوسطة (مثل تردّدات الضوء)، وصولاً إلى التردّدات العالية (مثل أشعة إكس وتليها أشعة جاما).
إشعاعات مؤيَّنة وغير مؤيَّنة
الإشعاعات المؤيَّنة هي التي تضر بجسم الإنسان، لأنها أشعة فوق بنفسجية (مثل أشعة إكس وأشعة جاما)، وفي المُقابل، فإنَّ الإشعاعات غير المؤيَّنة تمثّل كل الإشعاعات مُنخفضة التردّد، التي نرى منها إشعاعات الراديو، والميكرويف، وأبراج الاتصالات.
ويمكن تعريف الموجات الراديويّة المستخدمة في الاتصالات اللاسلكيّة بأنها الموجات التي تقع في التردّدات المنخفضة من الطيف الكهرومغناطيسي، وتستخدم بشكل رئيس في الاتصالات اللاسلكيّة، وهي الموجات نفسها المستخدمة في محطات الراديو والتلفاز.
تنقل الاتصالات اللاسلكيّة البيانات (صوت، وصورة، وفيديو، أو نص) عبر المسافات عن طريق استخدام نطاقات محدّدة من التردّدات المنخفضة في الطيف التردّدي. وبما أنَّ نطاق هذا المجال واسع فيجري تخصيص أجزائه لتطبيقات أو استخدامات متعدّدة من المنظمات الدوليّة المعنية، كالاتحاد الدولي للاتصالات (ITU)، ومن جهات مختصّة، مثل هيئة الاتصالات وتقنيّة المعلومات في المملكة العربيّة السعوديّة.
تطورت، على مدى السنوات الماضية، التقنيات المستخدمة في تقديم خدمات الاتصالات، من تقنية الجيل الثاني إلى الثالث والرابع وحاليّاً الخامس، وتختلف كل تقنيّة عن الأخرى بالنطاق التردّدي المستخدم، وسرعة تحميل البيانات، والتطبيقات المقدَّمة (خدمات صوتية، ورسائل نصيّة، ومقاطع الفيديو العالية الجودة). وتهدف شبكات الجيل الخامس إلى تقديم سرعة فائقة ومعامل تأخير (وقت استجابة) منخفض (Latency) لدعم الطلب المتزايد على خدمات الاتصالات، وكذلك التطبيقات الحديثة، مثل: إنترنت الأشياء (IoT). وبهذه الأهداف الطموحة، تواجه شبكات الجيل الخامس تحدّيات كبيرة، إذ تتطلب زيادة في النطاقات التردّدية ومعدلات البيانات تفوق ما يُستخدم حاليّاً في أنظمة الجيل الثالث والجيل الرابع. وتستخدم أنظمة الجيل الخامس في المملكة العربية السعودية النطاقات الترددية (3.500 / 2.600) ميجاهرتز، التي قامت هيئة الاتصالات وتقنيّة المعلومات بإعادة توزيعها وتخصيصها خلال الربع الأول من عام 2019م، بعد أن كانت تُستخدم لتقديم خدمات الجيل الرابع خلال السنوات العشر الماضية.


مستويات إشعاع مقبولة
تستخدم أنظمة الجيل الخامس العاملة في هذه النطاقات مستويات الطاقة نفسها التي جرى استخدامها من أنظمة الجيل الرابع التي كانت تعمل في هذه النطاقات، كما أنه يجري استخدامها من خلال المحطات القاعديّة نفسها التي كانت تستخدم لتقديم خدمات الجيل الرابع، وهذا ما يضمن عدم تغيّر مستويات الإشعاع الصادرة عن أنظمة الاتصالات المتنقلة في المملكة عن حدودها الحالية.
ستتيح أنظمة الجيل الخامس – إضافة إلى إتاحة النطاقات المستخدمة، لتقديم خدمات الجيل الثاني والثالث والرابع- استخدام نطاقات إضافيّة أعلى من النطاقات المستخدمة في التقنيّات السابقة. ومن خصائص الموجات الراديويّة أنها تنتشر على مسافات أقصر كلما ارتفع التردّد المستخدم. ولأنَّ الطاقة المستخدمة في محطات الجيل الخامس أقلّ وضمن المعدلات المعمول بها عالميّاً، فإنَّ التقنيّة ستحتاج إلى عدد أكبر من المحطات القاعديّة لتأمين وصول الموجات الراديويّة باستخدام طاقة أقلّ، وفي الوقت نفسه رفع كفاءة نقل البيانات، وهذا الأمر يضمن كذلك عدم تجاوز مستويات الإشعاع للحدود المقبولة عالميًّا.
يوجد معياران دوليان معتمدان من الاتحاد الدولي للاتصالات (1) (ITU) فيما يخصّ التعرّض البشري للإشعاعات الكهرومغناطيسيّة للترددات الراديويّة. وهما معيار (IEEEC95.1) الصادر من معهد مهندسي الكهرباء والإلكترونيات (2) (IEEE) ومعيار (ICNIRP1998) الصادر من اللجنة الدولية للحماية من الإشعاع غير المؤيَّن (3) (ICNIRP) وتتبع المملكة العربية السعودية معيار الهيئة العالمية للحماية من الأشعة غير المؤيَّنة (ICNIRP)، وهي هيئة دولية تأسست عام 1977م، وتقوم بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية بدراسة تأثير الأشعة غير المؤيَّنة، واعتماد المعايير العالمية فيما يخصّ الأشعة غير المؤيَّنة. وقد اعتمدت هيئة الاتصالات وتقنيّة المعلومات على معيار (ICNIRP1998) في الإرشادات الوطنيّة للتعرّض البشري للمجالات الكهرومغناطيسيّة للتردّدات الراديويّة.
معايير دولية
يقوم الاتحاد الدولي للاتصالات، بتحديد المعايير الدوليّة التي تهدف إلى تحقيق أفضل أداء لشبكات الجيل الخامس.
كما أصدرت هيئة الاتصالات وتقنيّة المعلومات «الإرشادات الوطنيّة للتعرُّض البشري للمجالات الكهرومغناطيسيّة للترددات الراديويّة» (4) اعتمادًا على المعيار الدولي للجنة الدوليّة للحماية من الإشعاع غير المؤين (ICNIPR)، التي تغطي النطاقات التردّدية من 3 كيلو هرتز إلى 300 جيجا هيرتز. كما تشرف الهيئة على إجراءات القياسات الميدانيّة للتحقق من التزام مقدمي خدمات الاتصالات بالضوابط الصادرة عنها.
جرى نشر تقرير من وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات في أبريل 2020م بعنوان (الموجات الكهرومغناطيسيّة المستخدمة في تقنيّات الاتصالات الراديويّة)(5)، ويهدف إلى تقييم ودراسة مخاطر الموجات الكهرومغناطيسية التي تُستخدم في تقنيات الاتصالات الراديويّة على أساس النتائج الصحيّة التي جرت دراستها، لتقديم المرئيات والتوصيات حيال ذلك.
ضمَّ التقرير فريق عملٍ من مختصين من الجهات الحكوميّة الآتية: وزارة الصحة، ووزارة الشؤون البلديّة والقرويّة، ووزارة البيئة والمياه والزراعة، ومدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنيّة، وهيئة الاتصالات وتقنيّة المعلومات، ووزارة الاتصالات وتقنيّة المعلومات.


دراسات تبرئ موجات الاتصالات الراديويّة
جرت مراجعة عدد من الدراسات والأبحاث الأساسية حول آثار الموجات الكهرومغناطيسية في جسم الإنسان والآثار الصحية والبيئية لموجات الاتصالات الراديوية، كان من أهمها:
دراسات إحصائية لعلاقة الأشعة بسرطان الدماغ، التي نشرتها منظمة الصحة العالميّة بعنوان (تصنيف الأشعة الكهرومغناطيسيّة كمسبب محتمل للسرطان بناءً على دراسات إحصائية لعلاقة الأشعة بسرطان الدماغ)، وخلُصت نتائجها إلى تصنيف منظمة الصحة العالمية/ الوكالة الدولية لأبحاث السرطان (IARC) المجالات الكهرومغناطيسية للترددات الراديويّة على أنها من المحتمل أن تتسبب في السرطان، ولكن من دون وجود أدلة كافية (المجموعة 2 ب)، بناءً على زيادة خطر الإصابة بالورم الدبقي، وهو نوع خبيث من سرطان الدماغ، المرتبط باستخدام الهاتف اللاسلكي.
تنفي مراجعة بحثيّة علاقة موجات المايكرويف بالسرطان نشرت من اللجنة الدوليّة للسلامة الكهرومغناطيسيّة (IEES)، وقد خلُصت نتائجها إلى أنَّ كثرة النتائج الوبائية والتجريبية المنشورة لا تدعم الافتراض بأنَّ التعرّض في الجسم الحي، أو في المختبر لمثل هذه المجالات مسرطن.
تؤكد مراجعة بحثية عدم كفاية الدراسات للحكم على إثبات أو نفي وجود علاقة لموجات المايكرويف بالأمراض المزمنة، وقد نشرتها اللجنة الدولية للحماية من الإشعاع غير المؤيَّن (IENIRP)، وخلُصت نتائجها إلى وجوب إجراء مزيد من الدراسات لاختبار فرضيات معينة، مثل: جوانب التحيّز في الاختيار أو التعرُّض على أساس النتائج الوبائيّة، كما أنَّ الأدلة المتوافرة لا تدعم الافتراض بأنَّ التعرُّض في الجسم الحي، أو في المختبر لمثل هذه المجالات مسرطن.
وقد أوضح التقرير إلى أنَّ نتائج أبرز الأبحاث التي جمعت حتى الآن تشير إلى عدم وجود أيِّ ارتباط أو دليل علمي يثبت آثار صحية أو مخاطر عامة على صحة الإنسان والبيئة للموجات الكهرومغناطيسيّة الراديويّة، وأنَّ هناك المزيد من الدراسات تُجرى في جميع أنحاء العالم من المنظمات ذات العلاقة.

الحاجة إلى دراسات فاصلة
كما أكدت منظمة الصحة العالمية (6) مؤخرًا، أنه، وبعد إجراء كثير من البحوث، لم يتبيّن وجود أيِّ تأثيرٍ ضار في الصحة من التعرُّض لتقنيات الاتصالات الراديويّة. وقد استخلصت الاستنتاجات المتصلة بالصحة من دراسات أُجريت على نطاق كامل الطيف الراديوي، ولكن لم يجرِ حتى الآن سوى عددٍ قليلٍ من الدراسات في التردّدات التي تستخدم في تقنيّات الجيل الخامس.
التأثير الحراري في الأنسجة هو الآلية الرئيسة للتفاعل بين الحقول المشعة والجسم البشري، وقد تؤدي مستويات التعرّض للإشعاع من التكنولوجيات الحاليّة إلى ارتفاع طفيف لا يذكر في درجة حرارة جسم الإنسان. ومع زيادة التردّد، يقلّ الاختراق في أنسجة الجسم، ويصبح امتصاص الطاقة أكثر حصرًا في سطح الجسم (الجلد والعين). بشرط أن يظلّ التعرّض العام ضمن المعايير الدوليّة، وبذلك لا يُتوقع حدوث آثار في الصحة العامة.
كما اختتم التقرير السابق ذكره (50) بتوصية من فريق العمل بدعم وتشجيع إجراء المزيد من البحوث والدراسات عن الآثار الصحية والبيئية للتعرّض للموجات الكهرومغناطيسيّة المستخدمة في تقنيّات الاتصالات الراديويّة، وتنفيذ سلسلة حملات إعلانيّة توعويّة مبسطة عن الموجات الكهرومغناطيسيّة المستخدّمة في تقنيات الاتصالات الراديويّة، والدراسات المعنيّة بالآثار الصحيّة والبيئيّة، وإرشادات عن أفضل الممارسات في استخدام تلك التقنيّات.

المراجع
[1] ITU، “ITU-T Recommendations،” [متصل]. Available: https://www.itu.int/net/ITU-T/lists/standards.aspx?Group=5&Domain=40. [تاريخ الوصول 22 مايو 2021].
[2] IEEE. [متصل]. Available: https://standards.ieee.org/standard/C95_1-2019.html
. [تاريخ الوصول 22 مايو 2021].
[3] ICNIRP. [متصل]. Available: https://www.icnirp.org/cms/upload/publications/ICNIRPrfgdl2020.pdf
. [تاريخ الوصول 22 مايو 2021].
[4] CITC. [متصل]. Available: https://www.citc.gov.sa/ar/RulesandSystems/RegulatoryDocuments/Electro-magneticfields/Documents/TA113A.PDF. [تاريخ الوصول 22 مايو 2021].
[5] MCIT”الموجات الكهرومغناطيسية المستخدمة في تقنيات الاتصالات الراديوية،” [متصل]. Available: https://www.mcit.gov.sa/sites/default/files/EW.pdf. [تاريخ الوصول 17 مايو 2021].
[6] W. H. Organization، “Radiation: 5G mobile networks and health،” [متصل]. Available: https://www.who.int/news-room/q-a-detail/radiation-5g-mobile-networks-and-health. [تاريخ الوصول 22 مايو 2021].