مسبار الأمل..
انطلاقة جديدة للعرب وللبشرية
نجح مسبار الأمل الإماراتي في الوصول إلى المريخ واتّخاذ مدار انتقالي حوله يوم 9 فبراير 2021م، وسيتّخذ مداره النهائي المناسب لمهمته العلمية بعد بضعة أشهر.
ورغم أن مسبارين، واحد صيني والآخر أمريكي، تبعاه بنجاح، إلا أن وصول مسبار الأمل مثّل حدثًا تاريخيًا على مستويات عدة. فلأول مرة على الإطلاق، تجاوزت دولة عربية التطبيقات التكنولوجية لعلوم الفضاء (إطلاق واستغلال الأقمار الصناعية التي تدور حول الأرض)، وقررت الانتقال إلى استكشاف الفضاء، بما يمثل ذلك من قفزة نوعية على المستويات العلمية والاستراتيجية، بل الثقافية والتعليمية أيضًا.
كذلك من المهم ترسيخ شعار المهمة الكبير «العرب إلى المريخ»، الذي يؤكد أن هذا المشروع أكبر من مجرد انضمام الإمارات إلى نادٍ صغير من الدول التي تغزو الفضاء، فهو يصبو لقيادة العالم العربي إلى الفضاء الأبعد، وإلى المستقبل.
وقبل أن نراجع باختصار البرنامج العلمي لمسبار الأمل وتأثيراته العلمية والتكنولوجية والتربوية في العالم العربي، تجدر الإشارة إلى ازدياد الاهتمام بالكوكب الأحمر، سواء بالمسابير الروبوتية أو بالرحلات المأهولة والمنتظرة خلال هذا العقد.
فبُعيد إطلاق مسبار الأمل ثم وصوله إلى المريخ، تلاه المسبار الصيني تيانوين- 1 والمسبار الأمريكي (مارس2020م). ومع سيل المعلومات التي قدّمها العلماء عبر الإعلام، اكتشف النّاس كوكبًا ساحرًا: غلاف جويٍ رقيق يحوي قليلًا من بخار الماء وكثيرًا من ثاني أكسيد الكربون، ومياه سائلة جوفيّة ومسطّحاتٍ جليدية، وزوابع غباريةٍ يمكنها تغطية آلاف الكيلومترات، وشروق وغروب أزرقَين، وخصائص أخرى كثيرة. ناهيك عن إمكانية وجود الحياة (البدائية) تحت سطح الكوكب الأحمر.. كل ذلك ستقوم بدراسته المسابير والأجهزة العديدة المتقدّمة التي تحملها، مما أقنع العالم أن ذلك العالم يستحق الاستكشاف.
ظروف صعبة وأمل كبير
وبالتوازي مع تحضير وإطلاق هذه المسابير التي سيدرس بعضها الكوكب الأحمر من على سطحه وآخرون من مدار محدد بدقة، ثمة مشروعات جادة لإرسال بشر إلى المريخ. فقد أعلن إيلون مسك قبل فترة أن شركته «سبيس-أكس» تنوي إرسال مركبتين فضائيتين كبيرتين مجهّزتين بالمعدّات إلى المريخ في عام 2022م، على أن تتبعهما رحلة مأهولة في عام 2024م. وقت الإعلان عن ذاك، بل وحتى اليوم، لا تملك سبيس-أكس أو أي شركة أو وكالة فضاء (ولا حتى ناسا) أي صواريخ قادرة على إيصال بشر ومعدّات إلى المريخ.
وعلينا ألا ننسى كمية الإشعاع الكبيرة التي سيتعرّض لها روّاد الفضاء خلال رحلتهم ذهابًا وإيابًا (ستّة أشهر على الأقلّ في كلّ اتجاه)، وفي أثناء إقامتهم هناك (عدّة أشهر كحدّ أدنى)، ومضاعفات أخرى.
فمثلا، غلاف المريخ الجوي خفيف جدًا (150 مرة أخف مما على الأرض) و96 في المئة منه ثاني أكسيد الكربون. إذن علينا أن نبني مستوطنات على المريخ تحمي من الأشعة، ومن الظروف الجوية القاسية، وتلك هي الخطة طبعًا، وأن يتم إنتاج ما يكفي من الهواء بضغط مناسب للعيش – وثمة صعاب أخرى




إضافة إلى ما سبق، فإن جاذبية المريخ ضعيفة وتعادل نحو ثلث جاذبية الأرض، وهذا سيمثل صعوبة كبيرة لمن سيقضي شهورًا هناك. كما أن الماء يوجد في شكل جليد في بعض المسطّحات الصغيرة، وماء سائل تحت السطح بمئات الأمتار، وبخار في الغلاف الجوي الخفيف. لذا فسنحتاج إلى تدوير دائم للماء المتوافر، سواء ما سيأخذه الرواد معهم أو ما سيتم أخذه من المسطّحات المتجمدة.
أما الطقس فبرودة فظيعة: متوسط درجة الحرارة 50 درجة مئوية تحت الصفر، ونادراً ما ترتفع فوق الصفر (خلال فصل الصيف) في أي مكان على سطح المريخ.
وتبقى مشكلة إنتاج الطعام مشكلة كبيرة أخرى، فتربة المريخ تحوي مواد كيميائية سامّة، ولذا ستحتاج إلى التصفية والزراعة في ظروف خاصة.
لكن، ومع كل تلك الصعاب، فإن كل تطور ونجاح، سواء لمسابير روبوتية أو لمركبات جديدة لرواد الفضاء، يساهم في زيادة وتقوية ثقتنا في إمكانية إيصال بشر إلى المريخ. لكن لماذا نود الذهاب هناك أصلا، وهل يمثل ذلك ترفًا ومخاطرةً وتبذيرًا للأموال؟
لقد شبّه بعضهم إرسال مركبة فضائية مأهولة إلى المريخ (قريبًا) بالأيام التي تلت اكتشاف كولومبوس للقارة الأمريكية، عندما هرعت القوى الأوروبية لوضع أقدامها في العالم الجديد والفوز بمكاسب استراتيجية واقتصادية هائلة. بنفس الطريقة، ستنضمّ قريبًا إلى شركة سبيس-أكس مؤسسات فضائية أخرى مثل ناسا وشركة «بلو أوريجين»، وكلها تبني حاليا صواريخ كبيرة لهذا الغرض.
لكن ثمة تشبيه بليغ قدّمه مارسيلو غليسر، الفيزيائي والكاتب البرازيلي الأمريكي، إذ ربط ما بين رحلة الإنسان المقتربة إلى المريخ ولحظة «الخروج من أفريقيا»، عندما قرّر البشر الانتقال إلى آسيا ثم أوروبا. لقد ناقش العلماء الأسباب التي جعلت البشر ينتشرون خارج أفريقيا، وأشار بعضهم إلى ما رأوه «جينات الاستكشاف» التي يحملها بعض البشر، وهي الأسباب نفسها التي تدفع الناس إلى تسلّق إيفرست وقمم أخرى، فقط «لأنها هناك».
كما قال إيلون مسك: إن البشرية ليس ملزمة بالبقاء على الأرض إلى أبد الأبدين، فنحن سلالة «عبر-كوكبية»، أي ننتمي إلى كل الكواكب وليس فقط إلى الأرض.
وحتى سنوات قليلة خلت، بدا ذهاب البشر إلى المريخ كحلم مستقبليّ لطيف، يقلّل من إمكانية حدوثه تأكيد الخبراء المتكرر عن مدى صعوبته وكلفته العالية. ولكن، كما هو الحال في كثير من الأحيان مع البشر، فإنّ ظهور بضعة أفراد ذوي بصيرة وعزم يجعل المستحيل يبدو فجأة ممكناً جداً، بل وربما في متناول اليد. ولذا فإن من المنتظر أن تقدم السنوات القليلة المقبلة تطورات مثيرة بهذا الصدد.

رائد الفضاء الإماراتي هزاع المنصوري
تأثير «مسبار الأمل» في العالم العربي
إلى جانب الأجهزة التي حملتها المركبة الصينية، وجزء منها سيبقى في مدار حول الكوكب الأحمر وجزء آخر سيهبط على السطح ليلتقط بيانات عديدة، وكذلك الأجهزة التي حملها المسبار الأمريكي الذي حطّ على المريخ وأخرج عربة ومروحية صغيرة للقيام بدراسات مثيرة، فإن مسبار الأمل سيقوم باستكشاف الغلاف الجوي للمريخ بطرق متعددة، وذلك من أجل فهم ظروفه وتغيّراته اليومية والفصلية (ومنها العواصف الرملية الواسعة التي تحدث من حين لآخر) وأيضًا لفهم تاريخ المريخ ولماذا فقد غلافه الجوي الأصلي، مما أدّى إلى تبخر جل بحاره وأنهاره.
ولكن الأهم في المهمة الإماراتية قد يكون في تأثيره المرتقب في العالم العربي، وخاصة شبابه الطموح. فإن هذا الحدث العلمي الفضائي يجب أن يمثل قفزة فكرية وتنموية للعرب، وذلك من خلال الرسالة التي يقدمها، والتي مفادها أن العلم هو الطريق إلى المستقبل، وأن المريخ (بكل المعرفة العلمية والتقنية المباشرة وغير المباشرة التي سيتم اكتسابها) هو ببساطة نقطة انطلاق نحو هذا المستقبل.
في العقد الذي أعقب إعلان الرئيس الأمريكي جون كينيدي (1961م) أن بلاده سترسل رواد فضاء إلى القمر، وتعود بهم سالمين قبل نهاية الستينيات، خلال ذلك العقد تضاعف عدد حملة الدكتوراه في الولايات المتحدة ثلاث مرات في العلوم الطبيعية، وأربع مرات في الهندسة. وأظهر استطلاع جرى سنة 2009 أن 50 في المئة من العلماء المرموقين دوليًا اليوم توجهوا إلى مجالات العلوم والتكنولوجيا نتيجة انبهارهم برنامج أبولو (القمري) الأمريكي. ونأمل أن تكون للمهمة المريخية الإماراتية تأثير مماثل في العالم العربي.
وبالفعل بدأنا نشهد بعضًا من هذه التأثيرات الإيجابية هنا في الإمارات العربية المتحدة، حيث تضاعف عدد الطلاب الذين قرروا التخصص في الفيزياء وعلوم الفلك والفضاء في السنوات الأخيرة. وكذلك لاحظنا تزايد وتيرة إنتاج الأبحاث العلمية والتقنية في الإمارات – وبمشاركة ملحوظة من الطلاب والشباب – في الآونة الأخيرة.
وإذا أحدثت مهمة الأمل هذا النوع من التأثير التربوي والعلمي في العالم العربي بشكل أوسع، فسيكون ذلك إنجازًا رائعًا، أكبر بكثير من الوصول إلى المريخ، تطور عظيم سيناقشه المؤرخون لعقود.
أسئلة استنكارية
لاحظت خلال الأشهر الأخيرة تغيّرًا مهمًا في وجهات النظر التي طالما أعرب عنها كثير من الناس، بمن فيهم المتعلمون في المنطقة العربية. فقد كنا كثيرًا ما نسمع أسئلة مستنكرة حول مثل هذه المهمات الفضائية: «ما الفائدة في ذلك؟»، «لماذا لا ينفق ذلك المال على الفقراء حول العالم؟» فوجهة النظر النفعية الضيّقة جد منتشرة في المجتمعات العربية، وسمعت هذا النوع من الأسئلة مرارًا خلال السنوات التي سبقت إطلاق المسبار الإماراتي، وبخاصة أن كلفته الإجمالية (200 مليون دولار)، وهي متدنية، لم يعلن عنها إلا بعد نجاح الإطلاق.
وفي العادة أرد على تلك الأسئلة الاستنكارية بالنقاط الآتية:
أولًا:
إن ما يصرفه البشر على المشروعات الفضائية لا يزيد على نحو 50 مليار دولار في العالم بأسره، أي بمتوسط 6.5 دولار سنويًا لكل إنسان، بينما الميزانيات العسكرية وصلت إلى 1750 مليار دولار في العالم في عام 2019م، أي 35 مرة أكثر من ميزانية الفضاء العالمية.
ثانيًا:
يجلب علم الفضاء كثيرًا من الفوائد المباشرة، بدءًا بتطبيقات الأقمار الصناعية، مثل: النظام العالمي لتحديد المواقع (GPS)، الذي نكاد نستخدمه كلنا يوميًا، وكذلك فوائد أخرى كثيرة، منها أقمار الاتصال (قنوات التلفزيون الفضائية) ومتابعة الطقس، وغير ذلك. ثم إن الفضاء هو مجال يسحر الناس، وبخاصة الأطفال، ويقودهم إلى كثير من المهن المثيرة التي تفيد دولهم والعالم بأسره.
ومن المثير للاهتمام أنه منذ إطلاق المسبار الإماراتي ثم وصوله بنجاح بعد أقل من سبعة أشهر، قلّ سؤال «لماذا نهدر الأموال على المريخ والفضاء؟». وهذا تطور إيجابي في حد ذاته.
إذن، كيف نستثمر ونستفيد من هذه التطورات الاستراتيجية المهمة في عالمنا العربي؟

الأمير سلطان بن سلمان
الجامعات وحاجتها إلى المواكبة
يجب التذكير بأن هناك عدة برامج فضاء عربية، وست دول على الأقل لديها وكالات فضاء الآن، وبعضها أنشئ خلال السنوات القليلة الماضية (وهذا أيضًا تطور إيجابي)، لكن ليست ثمة استراتيجية فضاء عربية مشتركة، علمية تقنية بحثية وتربوية ثقافية وإعلامية.
مثلًا، يجب على الجامعات أخذ هذه التطورات (المشروعات البحثية الجديدة) في الحسبان، وذلك بإحداث تخصصات وشهادات في علوم الفضاء، بل وفي فروع العلوم الجديدة الأخرى ذات الأهمية الاستراتيجية، مثل: الذكاء الاصطناعي، والهندسة الجينية، وغير ذلك.
ليس من المقبول أو من المنطقي أن يكون لدى العالم العربي ست وكالات فضاء في حين أن عدد الأقسام التي تعنى بعلوم الفضاء والفلك يُعدُّ على أصابع اليد الواحدة بين مئات الجامعات. نحن بحاجة ماسة إلى تدريب الطلاب في كل من علوم الفضاء التطبيقية (مثل الاستشعار عن بعد)، وعلوم الفلك (المريخ وغيره)، وذلك لدعم واستكمال عمل وكالات الفضاء العربية. وربما تكون هذه فرصة لتحديث وتجديد أوسع لبرامج التعليم العالي في العالم العربي، وسنترك هذه النقطة لمناقشة أخرى.
ريادة عربية في الفلك
إن علوم الفلك، التي أُضيفت إليها علوم الفضاء في النصف الثاني من القرن العشرين، ظلّت دومًا علومًا يعشقها العرب والمسلمون لأسباب عدة، منها الحاجة إليها في معرفة أوقات الصلاة، واتجاه القبلة، وبدايات الشهور ونهاياتها، ومنها الانبهار والرهبة أمام السماء والكون العظيمين، وهو ما عبّر القرآن الكريم عنه في آيات عدة.
ليس من قبيل المصادفة أن علم الفلك كان أول علم كبير يزدهر في الحضارة العربية الإسلامية (ومن ذلك تشييد أكبر المراصد الفلكية التي عرفها التاريخ منذ القدم)، وآخر ما تلاشى منها.
ومع ذلك، فإن عدد المراصد الفلكية التي تعمل اليوم في العالم العربي، وتنتج أرصادًا وأبحاثًا تُعدُّ على أصابع اليد الواحدة، في حين أن معظم الدول العربية تحوي جبالًا عالية وطقسًا جد مناسب لإقامة مراصد فلكية، ولا تتجاوز كلفتها بضعة ملايين من الدولارات، وتقدم للمجتمع العلمي الدولي بيانات تسمح بإنتاج أبحاث جديرة بالاعتبار.
بل إن كثيرًا من الدول العربية تتمتع بمواقع جغرافية مناسبة (خطوط عرض منخفضة وبحر أو محيط يقع شرقها) لإقامة منصّات إطلاق صواريخ فضائية.
ولعلي أوجه دعوة إلى المسؤولين إلى النظر بجدية في هذه الإمكانية، حتى يكون للعرب منصّاتهم التي يطلقون منها صواريخهم – وربما صواريخ دول أخرى (كعملية ربحية) – لما لذلك من أهمية إستراتيجية.
يمكن أن تكون مهمة الأمل الإماراتية إلى المريخ تطورًا نوعيًا، إذا تم فعلا التحول نحو العلم واقتصاد المعرفة كمفتاح للتنمية والتقدم في العالم العربي. وهذا يتطلب تحديث البرامج العلمية والتكنولوجية والمناهج الجامعية عندنا، وكذلك تعزيز التعاون العلمي والاقتصادي وطنيًا وإقليميًا ودوليًا، وإعطاء الشباب العربي رؤى وخططًا وفرصًا لمستقبل مشرق.