معجزة علاجية
تخفيها جينات صامتة
أ. هند ناصر – تقانات حيوية وهندسة وراثية – جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية – الأردن
في دراسة قامت بها جامعة رايس الأمريكية (Rice University) اُكتشفت جينات صامتة تمتلك معجزة علاجية في حال تعبيرها والاستفادة منها، وفي المقال التالي سنخوض في أسارير ومكنونات هذا الخبر مع بحث مطول حول هذه المعجزة.
الجينات الصامتة (Silent Genes) هي تلك الجينات التي لا يُظهر حذفها أي ضرر أو أثر على الجينوم بسبب عدم تعبيرها (Expression) لأي من البروتينات ذات الوظيفة الحيوية والمعروفة، إذ إن الجينات يقوم عملها على تشفير بروتينات ذات أعمال مهمة ومتنوعة في الخلية.
أما عن ماهية الجين، فهو مجموعة متحدة ومتناغمة من قواعد الحمض النووي (DNA Sequences)، هذه القواعد هي التي تُشفر لإنتاج أحماض أمينية تُشكل البروتينات الأساسية. وفي حالة الجينات الصامتة، فإن هذه القواعد النيتروجينية المكونة للجين لا تُشفر أو تُشفر على مستوى بسيط بحيث لا يؤثر وجودها من عدمه على الخلية، وقد تُفعّل هذه الجينات لتعمل، لكن في حالة تعرضها لطفرة جينية أو إعادة تركيب (Recombination) مع قواعد أخرى، حينها تُصبح ذات وظيفة ونفع، وهو ما أُجري بحث عليه في جامعة رايس حتى الوصول إلى علاجٍ ناجع منها.
صوت الجينات الصامتة هو العلاج
«معجزة علاجية تخفيها الجينات الصامتة»، هكذا نُشر الخبر بعد بحث مطول قامت به جامعة رايس الأمريكية، باستخدام بكتيريا تسمى المتسلسلة والمعروفة باسم «الستريبتومايسيس»، أما عن حيثية وشرح الطريقة انتهاءً بالعلاج فهي كالتالي:
زر التحكم
أول خطوة نحو التحكم في جينات البكتيريا الصامتة، هو تصميم زر تحكم قادر على تعبير أوامر لهذه الجينات تدفعها للعمل أو التوقف حسب الرغبة، وهو ما يسمى (Novel on/off Switch)، باتباع هذه الآلية تُستحث الجينات على بدء عملية التشفير لإنتاج مضادات حيوية جديدة لا تنتجها البكتيريا في الوضع الطبيعي.
أداة كريسبر
كرسبر (CRISPR) هي مجموعة من الحروف المختصرة عن جملة (Clustered Regularly Interspaced Short Palindromic Repeats) وتعني التكرارات العنقودية المتناظرة القصيرة منتظمة التباعد، لفهمها بشكل مبسط ويسير، وهي عبارة عن وحدات قصيرة ومكررة من الحمض النووي، تُصنع بواسطة المهندسين الوراثيين، باستخدام تقنيات تندرج تحت مسمى التعديل أو التحرير الجيني (Gene Editing)، فتُحذف أو تُضاف أو تُغيَّر هذه الجينات بما يتلاءم مع البحث المعمول عليه حتى الوصول إلى النتيجة المرجوة، وفي هذه الحالة تُستخدم قطع من الحمض النووي التي تسمى، كما ذكر سابقًا بالكريسبر، تلتحم هذه القطع مع الجينات الصامتة حتى تُسهل من تعبيرها وتشفيرها لما هو نافع، أي المضاد الحيوي.
الكريسبر المستخدم في تعبير جينات بكتيريا «الستريبتومايسيس» الصامتة هو «الكريسبر-كاس 9» (CRISPR/Cas 9) وهو كريسبر مرتبط مع البروتين رقم 9.
بدء العمل
بعد إيجاد زر تحكم بتعبير الجينات الصامتة، ثم صنع قطع الحمض النووي كريسبر، قام العلماء ومهندسو الوراثة في مختبرات جامعة رايس الأمريكية ببدء تشفير هذه الجينات، وبحسب أقوال بروفيسور العلوم الحيوية في البحث جيمس شابل فإنه اُكتشف 40 جزيئًا جديدًا ومختلفًا أُنتج ضمن هذه العملية، بالإضافة إلى المضادات الحيوية المرجوة.
ماذا بعد؟
إنتاج مضادات حيوية جديدة دفع البحث للتقدم خطوة أخرى، وهي اختبار مدى فاعلية هذه المضادات الحيوية على عوامل ومسببات المرض، علاوةً على إنتاج كميات كبيرة منه بسبب وجود زر التحكم وقطع الكريسبر، هذا الأمر سيحقق قوة هائلة في العديد من الأبحاث، وفي مقاومة العديد من الأمراض، إذ إن بكتيريا الستريبتومايسيس تأتي من أكثر من 500 نوع مختلف، جميعها تقوم على صنع المضادات الحيوية، وبذلك يمكن تخيل حجم المضادات الحيوية الممكن صنعها من جيناتها الصامتة جميعًا، ومدى المعجزة العلاجية التي ستفيد البشرية.ش
تقنية الفلورسنت
الفلورسنت (Fluorescent) هي تقنية استخدمت لمراقبة تعبير الجينات وتشفيرها في الوقت الفعلي لذلك بالتحديد، لمعرفة وتحديد الجينات التي تقوم بالتشفير في نفس اللحظة ومنتجاتها وبالتالي تحديد النافع منها، وما يُصنع منه مضاد حيوي جديد ومفيد، وهي التقنية المستخدمة أيضًا في الأبحاث المُطبقة على بكتيريا «الستريبتومايسيس»، حيث تُراقب إشارات الفلورسنت المنبعثة أثناء بدء التعبير الجيني. المفيد في هذه التقنية هو القدرة على تحديد بدء تعبير جزيئات مهمة ومراقبة الجزيئات الناتجة، مثل مضادات الفطريات والعوامل المضادة للسرطان، أو حتى الجزيئات التي قد تكون مفيدة في الزراعة كون هذه البكتيريا في الأساس تعمل على تحليل المواد العضوية المفيدة للتربة. رغم ذلك كله؛ ركّز بحث جامعة رايس على إنتاج المضادات الحيوية بعد ملاحظة قضائها على البكتيريا الضارة.
مصدر الجينات الصامتة
قامت أبحاث جامعة رايس على جينات صامتة في مختبراتها اُستخلصت من بكتيريا تسمى البكتيريا العقدية أو المتسلسلة (Streptomyces Bacteria)، وهي نفس البكتيريا المتعارف عليها باسم «ستريبتومايسيس». لابد من أن الاسم مألوف جدًا أليس كذلك؟ ذلك يعود لكون هذه البكتيريا في عدة أنواع تمتلك القدرة على إنتاج العديد من أطياف المضادات الحيوية المهمة والمواد الكيميائية التي تصنعها كرد فعل اتجاه نمو كائنات أخرى على مقربة منها، لتقاوم بذلك أي غزو خارجي يهدد بقاءها. تتخذ هذه البكتيريا من الماء والتراب مسكنًا لها، إذ تقوم على تحليل المواد العضوية في التراب مما يعمل على تسميدها وزيادة خصوبتها.
المضادات الحيوية الأكثر شهرة
هناك عدة أنواع من بكتيريا الستريبتومايسيس تعمل على إنتاج مضادات حيوية ذات أهمية للجنس البشري، وهي مشهورة ومعروفة حتى لأبسط الناس كونها من أوائل المضادات الحيوية الشائعة الاستخدام والذائعة الصيت، ويمكن ذكر أهم هذه المضادات من خلال الجدول الآتي:
ماذا لو حدث العكس؟
قد يخطر في بال البعض السؤال التالي: ماذا لو لم تُفعّل الجينات الصامتة لإنتاج المضادات الحيوية في البكتيريا، وثُبطت جينات أخرى للتخلص من المرض بشكل نهائي؟ هذا السؤال ينبثق عن معرفة أن هنالك عدة أمراض ذات منشأ جيني، وبما أن العلماء قادرون الآن على ابتكار زر تحكم بالجينات الصامتة في البكتيريا، كما هو الحال في بحث جامعة رايس الأمريكية، فما المانع من ابتكار زر تحكم آخر لهذه الجينات المسببة للمرض؟
العلاج عن طريق قمع أو إسكات الجينات (Silence Therapeutics) هي تقنية متواجدة بشكل فعلي يتم فيها إدخال الحمض النووي الريبوزي (RNA interference) ليقوم بمهمته داخل الخلية، حيث يُتحكم في النشاط الجيني داخلها، للتحكم فيه بشكل دقيق ومعرفة نتائجه والتنبؤ بها، الأمر الذي يُمكّن العلماء من إيقافه حال ظهور أية آثار جانبية لهذا العلاج. ما يمكننا التصريح به الآن، هو إن البحث لايزال مستمرًا على هذه التقنية وقد اُعتمد تطبيقها فعليًا على عدة حالات مرضية جينية المنشأ.
تقوم الكائنات الحية الدقيقة بإنتاج العديد من المواد الكيميائية والجزيئات ذات النفع للإنسان، مثل المضادات الحيوية السابق ذكرها، والكيماويات الزراعية، والعوامل المضادة للسرطانات، وذلك بشكل طبيعي خلال حياتها كأسباب للعيش والاستمرار، وفي حال استغل الإنسان هذا الأمر لإيجاد العلاجات ذات النفع والاستفادة مما هو متاح، فإن ذلك سيؤدي إلى اكتشاف عديد من الأدوية والعلاجات الفاعلة.