هل‭ ‬اكتشف‭ ‬فيرميلاب‭ ‬فيزياء‭ ‬جديدة؟

د‭. ‬مَعين‭ ‬بن‭ ‬يحيى‭ ‬بن‭ ‬جنيد – أستاذ‭ ‬مساعد‭ ‬بقسم‭ ‬الفيزياء‭ ‬والفلك‭ ‬‭- ‬جامعة‭ ‬الملك‭ ‬سعود – 21 يونيو 2021م

وتتمثّل‭ ‬هذه‭ ‬التجربة‭ ‬في‭ ‬قياس‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬بالعزم‭ ‬المغناطيسي‭ ‬الشاذ‭ ‬لجسيم‭ ‬الـ‭ ‬‮«‬مِيُووَنْ‮»‬‭  (‬The‭ ‬muon‭)‬،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يعدُّ‭ ‬من‭ ‬أكبر‭ ‬المعضلات‭ ‬الفيزيائية‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العصر‭. ‬علمًا‭ ‬بأنَّ‭ ‬ما‭ ‬نُشر‭ ‬كان‭ ‬قائمًا‭ ‬على‭ ‬بيانات‭ ‬جُمعت‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2018م،‭ ‬وهذا‭ ‬لا‭ ‬يمثل‭ ‬سوى‭ ‬٪6‭ ‬من‭ ‬مجموع‭ ‬البيانات‭ ‬التي‭ ‬ستجمعها‭ ‬التجربة‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬مدّة‭ ‬عملها‭. ‬فالتجربة‭ ‬مستمرة‭ ‬في‭ ‬جمع‭ ‬البيانات،‭ ‬وستنشر‭ ‬نتائج‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬المقبلة‭.‬

الـ‭ ‬‮«‬مِيُووَنْ‮»‬‭ ‬جسيم‭ ‬أولي‭ ‬يندرج‭ ‬ضمن‭ ‬قائمة‭ ‬لَبِنَات‭ ‬المادة‭ ‬في‭ ‬الكون،‭ ‬ويعدُّ‭ ‬الأخ‭ ‬الأكبر‭ ‬للإلكترون‭ (‬Electron)؛‭ ‬لأنَّ‭ ‬كتلته‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬كتلة‭ ‬الإلكترون‭ ‬بما‭ ‬يزيد‭ ‬على‭ ‬200‭ ‬مرة‭. ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬غير‭ ‬مستقر،‭ ‬فعندما‭ ‬تتهيأ‭ ‬الظروف‭ ‬لتَكوُّنِه‭ ‬في‭ ‬الطبيعة‭ ‬أو‭ ‬المعامل؛‭ ‬فإنه‭ ‬يتحول‭ ‬إلى‭ ‬جسيمات‭ ‬أخرى‭ ‬مستقرة‭. ‬

يسلك‭ ‬المِيُووَنْ‭ ‬سلوك‭ ‬المغناطيس‭ ‬الصغير؛‭ ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬مربط‭ ‬الفرس،‭ ‬فهناك‭ ‬خاصيّة‭ ‬تسمى‭ ‬‮«‬العزم‭ ‬المغناطيسي‮»‬‭ ‬يمكن‭ ‬قياسها‭ ‬تجريبيًا،‭ ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬تحدّد‭ ‬قوة‭ ‬هذا‭ ‬المغناطيس‭. ‬وكوننا‭ ‬نتناول‭ ‬بالدراسة‭ ‬جسيمًا‭ ‬أوليًّا‭ ‬؛‭ ‬فإن‭ ‬معرفة‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الكميات‭ ‬الفيزيائيّة‭ ‬مهم‭ ‬جدًّا‭ ‬لفهمنا‭ ‬للكون‭ ‬ومركباته‭ ‬وتفاعلاتها‭.‬

وقبل‭ ‬تجربة‭ ‬فيرميلاب،‭ ‬قامت‭ – ‬وعلى‭ ‬مر‭ ‬العقود‭- ‬عدة‭ ‬تجارب‭ ‬بعمليات‭ ‬قياس‭ ‬لهذه‭ ‬الخاصيّة؛‭ ‬منها‭ ‬ثلاث‭ ‬تجارب‭ ‬في‭ ‬المعمل‭ ‬الأوروبي‭ ‬للأبحاث‭ ‬النووية‭ (‬سيرن‭ ‬CERN‭) ‬بسويسرا‭ ‬بين‭ ‬العامين‭ ‬1959م‭ ‬و1979م،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬تجربة‭ ‬في‭ ‬معمل‭ ‬بروكهافن‭ ‬الوطني‭ (‬Brookhaven‭ ‬National‭ ‬Laboratory)‭ ‬بالولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬التي‭ ‬جمعت‭ ‬بيانات‭ ‬بين‭ ‬العامين‭ ‬1997م‭ ‬و2001م؛‭ ‬غير‭ ‬أنَّ‭ ‬كل‭ ‬تلك‭ ‬النتائج‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬دقيقة‭ ‬بما‭ ‬فيه‭ ‬الكفاية‭.‬

‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬استحوذ‭ ‬فيرميلاب‭ ‬على‭ ‬الجهاز،‭ ‬ونُقل‭ ‬من‭ ‬معمل‭ ‬بروكهافن‭ ‬إلى‭ ‬فيرميلاب‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2013م،‭ ‬وهناك‭ ‬رُمِّم‭ ‬الجهاز‭ ‬وطُوِّرَ‭ ‬حتى‭ ‬بدأ‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2017م،‭ ‬وكانت‭ ‬النتيجة‭ ‬المنشورة‭ ‬مؤخرًا‭ ‬باكورة‭ ‬الإنتاج‭ ‬العلمي‭ ‬لبعض‭ ‬ما

جُمِعَ من بيانات للقياس التجريبي

إضافة إلى القياس التجريبي، فإنَّ «العزم المغناطيسي» يمكن حسابه نظريًّا بطرائق علميّة قائمة على النموذج المعتمد لفيزياء الجسيمات (اختصارًا: النموذج المعتمد).

كلما أردنا لدقة الحسابات أن تزيد، زاد تعقيد الحسابات بأضعاف مضاعفة. وبالنسبة إلى المِيُووَنْ؛ فإنَّ هذا التعقيد يصبح تعقيدًا بالغًا جدًّا موازنة بنظيره للإلكترون -الذي قِيسَ عزمه المغناطيسي تجريبيًّا وحُسِب نظريًّا، ووجد بينهما توافق منقطع النظير، وهذه الأعمال قادت إلى جوائز نوبل في الماضي-.

إذن العزم المغناطيسي للمِيُووَنْ يمكن قياسه تجريبيًّا وحسابه نظريًّا، ولكنه أمر بالغ الصعوبة على هذين الصعيدين. والهدف هو المقارنة بين القيمتين التجريبية والنظرية. فيكون الاتفاق بين القيمتين دليلًا على صحة فهمنا آلية عمل الطبيعة في نطاق الجسيمات الأوليّة والقوانين الأساس التي تحكم الكون.

ولكن إذا كان هناك خلافٌ مؤكدٌ بينهما، فإنَّ هذا يعني أحد أمرين: إما وجود خلل في التجربة، أو وجود خلل في النظرية.  فإذا افترضنا أنَّ التجربة كانت دقيقة إلى الحدّ الذي يجعلنا لا نشك في نتائجها، فهذا يعني أنَّ النظرية المعتمدة في وصف مركبات الكون فيها مشكلة. بوصولنا إلى مثل هذا الحال؛ فإننا نعرف أننا على وشك اكتشاف ما هو جديد في الطبيعة.

وفي حالتنا هذه، إذا كان هناك اختلاف مؤكد بين نتائج تجربة فيرميلاب وحسابات النموذج المعتمد، فإنَّ ذلك مؤشر إلى وجود جسيمات أوليّة جديدة أو ظاهرة جديدة في الكون، وهذه الحال نسميها بـ«لفيزياء الجديدة» أو «ما بعد النموذج المعتمد»، وهي محطُّ اهتمام عدد من الباحثين في العالم، ومنهم كاتب هذا المقال. والأبحاث والاكتشافات في هذا الحقل هي من وقود جوائز نوبل.

ما حصل بالنسبة إلى المِيُووَن هو أن نتيجة القياس التجريبي المُعلنة من فيرميلاب تشير إلى وجود خلاف بينها وحسابات النموذج المعتمد؛ غير أنَّ القضية لم تُحسم بعد؛ لأنَّ القياس التجريبي في هذا المجال يخضع لقواعد تحليليّة وإحصائيّة صارمة جدًّا، فالقياس يحتاج إلى تكرار الأحداث داخل الجهاز ملايين المرات حتى نصل إلى مستوى يقلّل من الأخطاء الإحصائيّة التي قد تنبع من تحليل البيانات. وكلما جمعت التجربة بيانات أكثر، كانت الدقة أكبر، والخطأ الإحصائي أقلّ؛ ولهذا تستمر مثل هذه التجارب سنوات طويلة.

ولقد اتُّفِقَ في مجتمع البحث العلمي في حقل فيزياء الجسيمات أنَّ المعيار الحاسم الذي على إثره تُعلن «الاكتشافات» العلمية هو أن تصل الثقة الإحصائيّة في نتيجة القياس التجريبي إلى النسبة المئويّة: ٪99.99994 (وهي التي تسمى 5 سيجما). فأي نسبة مئويّة أقلّ من ذلك لا تعدُّ دليلًا قاطعًا على وجود «اكتشاف علمي».

إنَّ نتيجة فيرميلاب تعطي قياسًا مختلفًا عن تنبُّؤ الحسابات النظريّة بنسبة ثقة تصل إلى ٪99.7. بل بالإمكان دمج نتيجة فيرميلاب بنتيجة معمل بروكهافن السابقة، والخروج بنسبة ثقة في دقة القياس التجريبي تصل إلى ٪99.994 تقريبًا. وكلاهما يعدُّ نسبة مئويّة عاليّة جدًّا، وإن كانت أقلّ من النسبة المعتمدة للاكتشافات، لذلك لم يُعلن أنَّ النتيجة تعدُّ اكتشافًا بل اكتشاف محتمل. وهذا الشرط هو من دروس الماضي التي بيّنت أن نسبة 5-سيجما هي الحدّ الذي لا نشك في النتيجة بعده.

عمومًا، هناك ما يزيد الطين بلة في شأن المِيُووَن وعزمه المغناطيسي، وذلك أنه وقبل يوم من إعلان القياس التجريبي في فيرميلاب، نُشِرَت ورقة لا صلة لها بالتجربة، بل هي ورقة تتنبأ بقيمة نظريّة جديدة للعزم المغناطيسي للميوون حُسبت بطريقة تختلف عن الطريقة المستخدمة في التنبُّؤ النظري السائد، الذي قورن به القياس التجريبي في فيرميلاب.

وتبيّن أنَّ القيمة النظريّة الجديدة أقرب إلى نتيجة القياس التجريبي المُعلن! ولكنها -أي النتيجة النظرية الجديدة- ما تزال بحاجة إلى المزيد من التمحيص والتحقق، وإن صحَّت فإنها ستُحدث ضجة في عالم فيزياء الجسيمات النظرية والحوسبية.

كل ما سبق يجعلنا ندخل في حيرة جديدة مع العزم المغناطيسي للمِيُووَن، ويُلزمنا بانتظار نتائج تجريبية، ونظرية جديدة تحسم الأمر.

وعزائي هو أن هذه هي حال البحث العلمي في هذا الحقل المعقّد من الفيزياء، وأنَّ حلّ هذه المعضلة قد يؤدي إلى جوائز نوبلية في المستقبل. وإلى ذلك الحين، لا يسعنا إلا أن نقول: «من رام اكتشاف أسرار الكون فليصبر السنين والعقود… وربما القرون!».

Share This