هل يقبل المستهلك

الأطعمة المعدّلة وراثيًّا؟

د. هبة راجحةهندسة صناعيّة – جامعة القديس يوسف – لبنان

أثّر البشر في «جينومات» النّباتات والحيوانات لتحقيق الخصائص المرغوبة منذ عصور ما قبل التّاريخ وذلك عبر عمليات الانتقاء الأولى للنباتات أو ممارسة التّدجين للحيوانات.

أدّت تجارب «جريجور مندل» على نباتات البازيلاء في منتصف القرن التاسع عشر إلى إرساء القواعد الأولى لعلم الوراثة وتطويره، الأمر الذي أودى إلى اختراقات علميّة مهمّة في دراسة الجينات وتطبيقاته في الزّراعة.  كما أدّت قدرة الانسان على استخدام أدوات الهندسة الوراثيّة والتّحكّم الدّقيق في التّغيّرات الجينية لدى الكائنات الحيّة إلى تطوير كائنات هجينة معدّلة وراثيًا.

أنشئت النّبتة الأولى المُعدّلة وراثيًا في عام 1983 وهي نبتة تبغ مقاومة للمضادات الحيويّة(1).  ومع ذلك، لم يُسَوَّق الطّعام الأوّل المعدّل وراثيًا في الولايات المتّحدة الأمريكية حتى عام 1994 وهو الطّماطم المتأخرة النّضج.  وعلى الرّغم من أنّ دراسة الطّماطم كانت ناجحة علميًا، إلا أن الرّأي العام غير المتقبّل لها أدّى إلى إخفاقها تجاريًا.  هذا الإخفاق التجاري كان نتيجة لنقاشات أخلاقيًة اعتبرت أنّ الأطعمة المعدّلة وراثيًا «غير طبيعيّة»(2).

ما الأطعمة المُعدّلة وراثيًّا؟

الأطعمة المعدّلة وراثيًا على سبيل المثال، هي تلك المشتقّة من الكائنات الحيّة الّتي غُيِّرت فيها المادّة الوراثيّة بطريقة لا تحدث بشكلٍ طبيعيّ، لا عن طريق التّزاوج ولا إعادة التركيب الوراثيّ(3).  تغيير المادة الوراثيّة يمكن أن يحصل بإدخال جين من كائنٍ حيٍّ آخرَ، أو إزالة جين معيّن، أو تغيير وظيفة الجين لتوليد سمة مرغوبة.  يمكن أن تأتي هذه الجينات من النوع نفسه أو من نوع نبات مختلف، وعليه فقد تُعبر الحدود بين الأنواع بهدف إنتاج محاصيل جديدة(4).

لماذا تعدّل الأطعمة وراثيّا؟

تشمل فوائد الهندسة الوراثيّة زيادة غلّة المحاصيل الزّراعية، وزيادة الأمن الغذائيّ، وانخفاض تكاليف الإنتاج، وزيادة قدرة النّبات على مقاومة الأمراض، وقدرتها على الازدهار في مناطق لم يكن من الممكن تصوّرها.  عُدِّلت بعض المحاصيل الغذائيّة وراثيًا لتحسين العمر الافتراضي؛ مما يهدر كمّيات أقلّ من الطّعام(5).  كما رُكِّز على قدرة النّبات للحماية من الحشرات.  لفترة طويلة من الزمن، إستخدمت بكتيريا العصوية التورنجية كمبيد بيولوجي للحشرات؛ لأنها تنتج بلورات سامة للحشرات.  في عام 1985، طورت شركة بلجيكية للمرة الأولى نباتات معدلة وراثيًا قادرة على تحمل الحشرات بإدخال جين البروتين البلوري السام الذي يأتي من البكتيريا في هذه النباتات. 

ما أهمّ الأطعمة المُعدّلة وراثيًا؟

سُوِّقت المحاصيل المعدّلة وراثيّا للمرّة الأولى في التّسعينيات كما أنّ المحاصيل الأربعة الرّائدة في مجال التّكنولوجيا الحيويّة حتى سنة 2017 كانت الذّرة؛ حيث 30% من المحصول معدّل جينيّا، القطن؛ حيث 80% من المحصول معدّل جينيّا، وفول الصّويا؛ حيث 77% من المحصول معدل جينيّا، والكانولا؛ حيث 30% من المحصول معدّل جينيّا(6).  اليوم يمتدّ الاستخدام التّجاري للمحاصيل المعدّلة وراثيًا ليشمل أطعمة أخرى، كالشّمندر، والسّكري، والبابايا، والباذنجان، والبطاطس، والتّفاح، والطّماطم، والأرزّ(7).  أمّا المنتجات الحيوانية المعدلة وراثيًا، فقد وافقت كل من وزارة الزراعة الأمريكية وإدارة الغذاء والدواء في عام 2015 على السلمون، والذي يعد أول حيوان معدّل وراثيًا للاستهلاك البشري(8). 

الأطعمة المُعدّلة وراثيًّا والمُستقبل؟

تعد الزّراعة قطاعًا وثيق الصّلة بالاقتصاد العالميّ، وتمتدّ إلى أبعد بكثير من إنتاج الغذاء.  فأحد أهمّ التّحديات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والعلميّة في عالمنا الحديث هو التزايد المستمر لعدد سكان الأرض الّذي يُقدّر بأنّه سيصل إلى 9 مليارات نسمة بحلول عام 2050.  وفقًا للمستويات الحاليّة لإنتاج الغذاء، فهو لن يكفي لتلبية الطّلبات الغذائيّة وتحقيق الأمن الغذائيّ العالميّ ممّا يشكل تحديًا خطيرًا للبشرية جمعاء.  الطّريقة الأسهل للتّغلّب على هذا التحدّي هو زيادة مساحة الأراضي الصّالحة للزّراعة، لكن تطبيق ذلك ليس سهلًا إذ إنّ الغالبيّة العظمى من الأراضي الصّالحة للزّراعة استخدمت بالفعل.  التّغير المناخيّ هو عامل مقيّد آخر يقلّل من الإنتاجيّة الزّراعيّة بأقصى حدّ، بسبب تغير درجات الحرارة، والملوحة العالية، والفيضانات… . لذلك وفي الوقت الحاضر، اقترحت التّكنولوجيا الزّراعية وإنتاج المحاصيل المعدّلة وراثيًا لتكون بمنزلة حل لمشكلة عدم توافر الكمّيات الكافية من الغذاء.  فللتعديل الجيني للنبات فوائد عديدة، منها التقليل من استخدام الأسمدة مثلًا وزيادة غلّة المحاصيل من دون الحاجة إلى توسيع المساحات المزروعة(9).

الأرزّ الذّهبي

أكثر من مليار شخص يعتمدون على محاصيل الأرز في معيشتهم؛ لذلك يجب زيادة إنتاج الأرزّ بشكل ملحوظ على مدى العقود القادمة لمواكبة الزّيادة السّكّانية.  في أواخر التّسعينيات، طوّر عالما نبات من جامعة فرايبورغ في ألمانيا الأرزّ الذّهبي المعدل وراثيًا (صورة 2) وهو نتيجة جهد لتطوير أنواع مختلفة من الأرز تنتج البيتا كاروتين لمكافحة نقص الفيتامين (أ).  إن مشكلة نقص الفيتامين (أ) هو السّبب الرّئيس لعمى الأطفال.  يعاني حوالي 190 مليون طفل و19 مليون امرأة حامل من نقص فيتامين (أ)، ويصاب ما يقرب من مليون طفل بالعمى كل عام(10).  بعد إعلان الأرزّ الذّهبي الآمن للاستهلاك في أربع دول (أستراليا ونيوزيلندا، وكندا، والولايات المتحدة الأمريكية)(11)، كانت الفليبين أوّل من وافق على زراعته، والّتي من المتوقّع أن تحدث في بنغلاديش قريبًا أيضًا(12).

هل يقبل المستهلك الأطعمة المعدلة وراثيًا؟

يعد قبول المستهلك للمحاصيل الزّراعيّة المعدّلة وراثيًا إحدى العقبات الرّئيسة أمام التّطبيق التّجاريّ لهذه التكنولوجيا(13). يستند رفض المستهلك على الحدس الأخلاقيّ والحجج العلميّة الّتي تشير إلى أنّ الأطعمة المحوّلة جينيًا غالبًا ما تكون غير فاعلة.  كشفت دراسة استقصائية مؤخرًا أنّ آراء المستهلكين بشأن الأغذية المعدّلة وراثيًا قد تغيّرت بالكاد منذ قُدِّمَتْ في منتصف التّسعينيات.  ما زال الأوروبيون يعتقدون أن الكائنات المعدلة وراثيًا غير آمنة للمستهلكين والبيئة(9) كما أن %50 من الأمريكيين غير مطّلعين على الأغذية المعدّلة وراثيًا ويعارضون إدخالها في نظام الغذاء(14).

عملت الدّراسات الحديثة على معالجة هذه المشكلة باطلاع المستهلكين على المشكلات العالميّة الخطيرة وكيفيّة إيجاد حلول لها باستخدام المحاصيل الزّراعية المعدّلة وراثيًا.  على سبيل المثال شُرح أنّ كثيرًا من الأنظمة الغذائيّة المعتمدة في أنحاء العالم تفتقر إلى الفيتامينات، وأن الأرزّ الذّهبي يمكن أن يمنع وفيات الأطفال والإصابات بالعمى.  أسهم نشر الوعي هذا بزيادة نسبة قبول المستهلكين للأطعمة المعدّلة وراثيًا(15). 

لذلك يبدو أن قبول الأطعمة المعدّلة وراثيًا من قبل المستهلك يعتمد على الهدف الذي من أجله جرت هذه التعديلات.  على سبيل المثال، التعديلات الوراثيّة التي أجريت لزيادة القيم الغذائية (كالأرُز الذهبي) مقبولة على نطاق واسع أكثر من تلك التي أجريت بهدف زيادة غلّة المحاصيل وبالتالي زيادة الربح المادّي.

من المهم الملاحظة أنّ المحاصيل المعدّلة وراثيًا قد تكون إحدى السّبل للمساعدة في التّغلب على أزمة الغذاء في العالم ومحنة المشكلات البيئية، وكما هو الحال في أي جانب من جوانب الحياة، لا ينبغي التعميم بأن جميع الأطعمة المعدّلة وراثيا جيّدة أو سيّئة، بل يجب دراستها علميًا لا عاطفيًا، ويجب إجراء تحليل المخاطر والفوائد قبل تسويق أي منتج جديد.

Share This