ترجمة‭: ‬أ‭.‬د‭. ‬محمد‭ ‬أحمد‭ ‬طجو – 29 مارس 2021م

إيف‭ ‬أجيد‭ ‬و‭ ‬بيير‭ ‬ماجيتسريتي‭:‬

‭ ‬دور‭ ‬الخلايا‭ ‬النجميّة‭ ‬في‭ ‬سلوكياتنا‭ ‬

ألا يتمثّل نهج تعزيز وجهة النظر هذه في جمع حجج لمصلحة دور العصبونات في إنتاج السلوكّيات، وفي توضيح أن الفرضيّة الدبقيّة المركزيّة ليست صحيحة. ففي هذا المنظور، تجدر معارضة جميع الحجج التي تحاول أن تظهر أن الخلايا الدبقيّة تقوم بدور في تكوين المواقف العقليّة، سواء أكانت فكريّة أم انفعاليّة. وتحقيقًا لهذه الغاية، ينبغي أيضًا اقتراح «نظريّة» دبقيّة لعمل الدماغ، تفند واحدة فواحدة، الحججَ التي أتاحت إثبات هذه النظريّة. ما هي الركائز العلميّة الأساسيّة لإسهام الخلايا الدبقيّة في عمل الدماغ؟ ليس المقصود التأكيد أن كل قوى الإنسان العقلية تولّدها الخلايا الدبقيّة، وإنما جمع الأدلة التي تتيح اعتقاد ذلك، ولو بهدف تقويضها. فما هي هذه الأدلة؟

عصبونات، وخلايا نجمية أم كلاهما؟

لنأخذ سلوكًا معينًا، مثل أخذ قلم حبر على طاولة. ما هو مسار المعلومات منذ رؤية القلم حتى الحركة التي أتاحت الإمساك به. تنشط الفوتونات الصادرة عن القلم مختلف مستقبلات الشبكيّة. فهذه المستقبلات التي تدمج حالة القلم في الفضاء وشكله ولونه تنشط عصبونات (تشكل العصب البصري) ينتهي بها المطاف، بعد متابعة طريقها، في الجزء الخلفي من القشرة الدماغيّة (القشرة البصريّة). ففي القشرة البصريّة تدمج مختلف النشاطات الكهربائيّة الحاملة اختيارًا ميزات طوبوغرافيّة وشكليّة ولونيّة للقلم في عصبونات محددة لكل ميزة من هذه الميزات الثلاث. يمثل ذلك نوعًا من التصور الحرفي للميزات التي تصف القلم في الدماغ. تدمج النشاطات الكهربائيّة لأنماط العصبونات الثلاثة هذه بعدئذ في نمط ثان من العصبونات التي تقدم حصيلة لميزات القلم الطوبوغرافية والشكلية واللونية. هذا التحول المذهل لنشاط «الفوتون» من جسم إلى «نشاط» كهربائي عصبوني لا يتيح دائما التعرف على القلم، ناهيك عن أن ننسب له معنى. يتدخل هنا نمط ثالث من العصبونات في القشرة البصرية الذي يتلقى، من جهة، رسالة الجسم الظاهر للعيان (قلم الحبر، الذي لم يتم تحديده بعد)، ومن جهة أخرى وبطريقة شبه فورية إشارات قادمة من مناطق دماغية مختلفة خزنت فيها خاصّيات الشكل واللون والصلابة التي حفظها الدماغ في الذاكرة. هذا هو التصور الملخص على وجه التقريب، لرؤية قلم حبر والتعرف إليه. والمسألة التي لم تُحَلّْ بعد، هي مسألة دلاليّة: لماذا يكون قلم حبر (وليس ضمة ريشة للكتابة أو قلم رصاص، على سبيل المثال)، الأمر الذي يستوجب أن يكون للجسم المرئي (قلم الحبر) وظيفة؟ ما فائدته؟ وبماذا يختلف عن أقلام الحبر الأخرى؟ وهي أسئلة لم تحل بعد.

إن افترضنا أنه تم التعرف إلى قلم الحبر، فإنه يفيد في الكتابة. وينبغي، حتى نكتب، أن ننفذ في آن واحد سلسلة من الحركات المتزامنة والمتتابعة التي يشارك فيها عدد كبير من العضلات في وقت قصير. إنه في الواقع «برنامج محرك» مخزن هذه المرة في القشرة الأماميّة من الدماغ (القشرة الجبهيّة)، يعمل فورًا لتأمين حركة الإمساك بالقلم- ليس حركة الأصابع فحسب،  بل أيضًا  مجمل العضو العلوي، من دون أن ننسى التغيُّر المعقّد لوضع الجسم. فاستخدام مختلف الدارات العصبونيّة التي تشارك في هذه الحركة المعقّدة والدقيقة معروفة بشكل كاف.

ينتج عن ذلك أن مختلف المكونات العصبونية التي تؤمن رؤية (الإدراك البصري) قلم الحبر واستخدامه مسلم بها تقريبًا. وما يزال التردد قائمًا بخصوص ما يجري بين الإدراك والفعل. فكما سبق أن ناقشنا ذلك، يستوجب انتشار الرسائل البصرية في الدماغ حتى الاستخدام المحرك أداء عصبونيًّا أكثر تعقيدًا بالتأكيد من مسارات الدخول والخروج. هنا يكمن الغموض بالنسبة إلى البعض، واللغز بالنسبة إلى البعض الآخر؛ عدم الفهم بالنسبة إلى البعض والنماذج الاستكشافية بالنسبة إلى البعض الآخر. ومع ذلك، ينبغي ألا ننسى أن في كل مرحلة من مراحل مسار قلم الحبر، هناك ليس فقط عصبونات (التي بدأنا نفهم علم التحكم الخاص بها فحسب) وإنما أيضا خلايا دبقية: خلايا دبقية قليلة التغصن Oligodendrocytes تشكّل الميالين الذي يتيح زيادة سرعة ناقليّة العصبونات، وعلى وجه الخصوص خلايا نجميّة تشمل مئات، لا بل آلاف العصبونات وملايين لا بل عشرات الملايين من الوصلات العصبونيّة.

ومهما كانت التأويلات، والنماذج المقترحة، ليس هناك دائمًا حقائق مقنعة تتيح تأكيد أن دماغنا، وهو ثروة بسبب عصبوناته، يمكن أن ينتج تصورًا ذهنيًّا لقلم الحبر، مثل فكرة نكون على وعي بها. وهذا من دون أن نأخذ في الحسبان كل هذه الخلايا النجميّة التي تزدحم وتتفاعل مع العصبونات الناقلة لصورة قلم الحبر. فما هي الفرضيات التي تتيح الاعتقاد أن الخلايا النجميّة تقوم بدور في سلوك الإمساك بقلم حبر عند اتصالها بالعصبونات؟

ليست العصبونات ولا الخلايا العصبونية التي تقوم فرديا بهذا العمل، وإنما كلاهما. تؤمن العصبونات دخول المعلومات والمخرج المحرك للسلوك، لكن المزدوجة العصبونية الدبقية هي التي تدمج، وتزامن، وتؤول، وتتعرف، وتتصرف، وباختصار هي التي تفكر.

تؤمن العصبونات مسار المعلومات، ولكنها غير قادرة على إنتاج فكرة، وبالنظر إلى ذلك تصوّر قلم الحبر وكمونه. ولعل المخاطب الآخر، أي الخليّة الدبقيّة، وعلى وجه الخصوص، الخليّة النجميّة، هو الذي يستطيع إنجاز هذا العمل. ففي هذه الحالة، تنقل العصبونات صورة قلم الحبر واستخدامه، ولكن الخلايا النجميّة هي التي أتاحت التعرف على قلم الحبر، وإدراك فائدته، وتسميته، وتقديره، والاحتفاظ بأثره، وتقييمه بالنسبة إلى خبرات سابقة، وتوجيه الريشة بطريقة شخصية على الورقة، وإعطاء معنى للنص الذي ينتج عن ذلك.

تقوم العصبونات بالعمل كله، ويشمل ذلك مسار المعلومات وتأويلها. ففي هذه الحالة، ينبغي التسليم بأن العصبونات تفكر، وأن الخلايا النجميّة لها دور بالتأكيد، ولكنه يخضع لأوامر العصبونات.

تقوم العصبونات بالعمل كله، ويشمل ذلك مسار المعلومات وتأويلها. ففي هذه الحالة، ينبغي التسليم بأن العصبونات تفكر، وأن الخلايا النجميّة لها دور بالتأكيد، ولكنه يخضع لأوامر العصبونات.

تؤمن العصبونات مسار المعلومات، ولكنها غير قادرة على إنتاج فكرة، وبالنظر إلى ذلك تصوّر قلم الحبر وكمونه. ولعل المخاطب الآخر، أي الخليّة الدبقيّة، وعلى وجه الخصوص، الخليّة النجميّة، هو الذي يستطيع إنجاز هذا العمل. ففي هذه الحالة، تنقل العصبونات صورة قلم الحبر واستخدامه، ولكن الخلايا النجميّة هي التي أتاحت التعرف على قلم الحبر، وإدراك فائدته، وتسميته، وتقديره، والاحتفاظ بأثره، وتقييمه بالنسبة إلى خبرات سابقة، وتوجيه الريشة بطريقة شخصية على الورقة، وإعطاء معنى للنص الذي ينتج عن ذلك.

ليست العصبونات ولا الخلايا العصبونية التي تقوم فرديا بهذا العمل، وإنما كلاهما. تؤمن العصبونات دخول المعلومات والمخرج المحرك للسلوك، لكن المزدوجة العصبونية الدبقية هي التي تدمج، وتزامن، وتؤول، وتتعرف، وتتصرف، وباختصار هي التي تفكر.

دور‭ ‬الخلايا‭ ‬النجميّة‭ ‬في‭ ‬دمج‭ ‬الرسائل‭ ‬العصبونيّة

ما‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يجعلنا‭ ‬نعتقد‭ ‬أن‭ ‬المعلومات‭ ‬التي‭ ‬تتلقاها‭ ‬وتصدرها‭ ‬العصبونات‭ ‬تتطلب‭ ‬مشاركة‭ ‬الخلايا‭ ‬الدبقية؟

ثمة‭ ‬سببان،‭ ‬تشريحي‭ ‬وفيزيولوجي

تؤمن العصبونات مسار المعلومات، ولكنها غير قادرة على إنتاج فكرة، وبالنظر إلى ذلك تصوّر قلم الحبر وكمونه. ولعل المخاطب الآخر، أي الخليّة الدبقيّة، وعلى وجه الخصوص، الخليّة النجميّة، هو الذي يستطيع إنجاز هذا العمل. ففي هذه الحالة، تنقل العصبونات صورة قلم الحبر واستخدامه، ولكن الخلايا النجميّة هي التي أتاحت التعرف على قلم الحبر، وإدراك فائدته، وتسميته، وتقديره، والاحتفاظ بأثره، وتقييمه بالنسبة إلى خبرات سابقة، وتوجيه الريشة بطريقة شخصية على الورقة، وإعطاء معنى للنص الذي ينتج عن ذلك.

تتيح‭ ‬الوضعية‭ ‬الموصلة‭ ‬للخلايا‭ ‬النجميّة‭ ‬تكوين‭ ‬شبكة‭ ‬خليوية‭ ‬مستمرة‭ ‬في‭ ‬الاتجاهات‭ ‬الثلاثة‭ ‬للحيز‭ ‬المكون‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬أجزاء‭ ‬التواصل‭ ‬المعقدة‭ ‬والمركبة‭ ‬بما‭ ‬يكفي‭ ‬لدمج‭ ‬قدر‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬المعلومات‭.‬

دور‭ ‬الخلايا‭ ‬النجميّة‭ ‬في‭ ‬دمج‭ ‬الرسائل‭ ‬العصبونيّة

ما‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يجعلنا‭ ‬نعتقد‭ ‬أن‭ ‬المعلومات‭ ‬التي‭ ‬تتلقاها‭ ‬وتصدرها‭ ‬العصبونات‭ ‬تتطلب‭ ‬مشاركة‭ ‬الخلايا‭ ‬الدبقية؟

ثمة‭ ‬سببان،‭ ‬تشريحي‭ ‬وفيزيولوجي

تتيح‭ ‬الوضعية‭ ‬الموصلة‭ ‬للخلايا‭ ‬النجميّة‭ ‬تكوين‭ ‬شبكة‭ ‬خليوية‭ ‬مستمرة‭ ‬في‭ ‬الاتجاهات‭ ‬الثلاثة‭ ‬للحيز‭ ‬المكون‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬أجزاء‭ ‬التواصل‭ ‬المعقدة‭ ‬والمركبة‭ ‬بما‭ ‬يكفي‭ ‬لدمج‭ ‬قدر‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬المعلومات‭.‬

تؤمن العصبونات مسار المعلومات، ولكنها غير قادرة على إنتاج فكرة، وبالنظر إلى ذلك تصوّر قلم الحبر وكمونه. ولعل المخاطب الآخر، أي الخليّة الدبقيّة، وعلى وجه الخصوص، الخليّة النجميّة، هو الذي يستطيع إنجاز هذا العمل. ففي هذه الحالة، تنقل العصبونات صورة قلم الحبر واستخدامه، ولكن الخلايا النجميّة هي التي أتاحت التعرف على قلم الحبر، وإدراك فائدته، وتسميته، وتقديره، والاحتفاظ بأثره، وتقييمه بالنسبة إلى خبرات سابقة، وتوجيه الريشة بطريقة شخصية على الورقة، وإعطاء معنى للنص الذي ينتج عن ذلك.

ثمة ثلاث فرضيات

وهكذا تندمج المعلومات الكهربية والكيميائية الآتية من العصبونات في الملتحم الخلوي النجمي، وتتزامن بفضل الذبذبات الكلسية التي تصدرها المفاصل الفجوية (Volterra et Meldolesi, 2005). تكمن الفائدة الفيزيولوجية بالنسبة إلى «المذهب العصبوني» في اقتراح مفهوم اندماج وتزامن العصبونات في الزمان والمكان، وهو شرط ضروري ولو لم يكن كافيا لإنتاج عملية ذهنية. كيف يتيح هذا الاندماج، على شكل تزامن كهربي كيميائي، الانتقال من المرحلة الماديّة الدماغيّة إلى المرحلة اللاماديّة للفكر؟  يبقى هذا السؤال بلا جواب، بيد أن الخليّة النجمّية تبدو الخلية النموذجيّة القادرة على الإسهام في هذه الخيمياء. ولكنّْ إلام نستند في ذلك؟  وما هي الحجج التي توحي أن الخلايا النجميّة تقوم بدور في تكوين السلوك؟

التعلّم والذاكرة

يرتبط التعلُّم بعدد من الثوابت التي يؤدي غياب أحدها إلى انتفائه. ومن هذه الثوابت، هناك الموجّهات وقدرة الذاكرة (Agid, 2013). فعمل الموجّهات (اليقظة، والانتباه، والدافعيّة، والمزاج) الجيد ضروري: إذا نمتُ، وشردتُ، وكنت لا مباليًّا، ومكتئبًا … فإنني أتعلّم وأحفظ بشكل سيء. وأما فيما يتعلق بتاريخ خبراتنا الشخصيّة الماضيّة، مثل ذكرياتنا المخزنة، الحديثة والقديمة، الشعوريّة واللاشعوريّة، فهو أساسي. فعندما نتعلّم أحداثًا جديدة فإنها تتّحد بطريقة معقّدة لتندمج في الذاكرات الموجودة. ففي المكان، تندمج المعلومات التي تم تعلمها حديثا- كيف؟ وهذا لغز- في تجمعات العصبونات الموزعة في مختلف مناطق الدماغ، بوجه الاحتمال في مناطق معيّنة من القشرة الدماغيّة. وأما في الزمان، فإن اندماج المعلومات يتم خلال ساعات عدة، وأيام، وشهور أو سنوات، ويتجاوز تجاوزًا كبيرًا الملليثانية أو الثانية التي تميّز إشارة العصبونات.

إن تعلمتُ، يبقى عليّ أن أحفظ. كيف؟ تبقى الآليات وثيقة الصلة بالذاكرة غامضة حتى لو كان التعلّم الوظيفة الأكثر دراسة حتى يومنا هذا. وبما أن التشوير الكهربي يشكّل الأساس الرئيس للنشاط الدماغي، فإن العصبونات التي تمثل دعامته عُدّت لفترة طويلة في المقدمة – لا بل  ينظر إليها بشكل حصري- من أجل شرح أسس الذاكرة.

إن العصبونات المختصّة على نحو لافت للنظر في تأمين النقل الكهربي للإشارات ضروريّة في الواقع لإيصال المعلومات المراد حفظها إلى المناطق الدماغيّة التي تسهم في الذاكرة، لا سيما من خلال لدونتها الدماغيّة: مسار تفضيلي للمعلومات التي تم تعلمها في دارة عصبونية واحدة؛ وإعادة تنظيم الوصلات العصبية أثناء التعلم المتكرر. إن الرأي السائد اليوم هو أن العصبونات «تتعلم» من خلال آليات اللدونة المشبكية؛ الأمر الذي يفترض التطابق الزماني والمكاني المدهش لكمية كبيرة من السيالات العصبية التي تتجه في الوقت نفسه إلى العصبون ذاته، وبالتالي التزامن الكامل لموجات النشاطات العصبونيّة التي ينبغي أن تلتقي في مرحلة ما، والاندماج الكامل للرسائل انطلاقًا من المعلومات التي جرى تلقيها في مختلف مناطق الدماغ. يصعب تخيّل ذلك، ولكن لم لا؟

ومع ذلك، إن شرح الذاكرة بمساعدة العصبونات بشكل حصري يثير تساؤلًا. كيف يمكن لانتقال جنوني لعدد لا يحصى من المعلومات التي تمّ تعلمها أن يرسخ في مجموعات عصبونيّة لتأمين تخزين ذاكري قوي؟ كيف يتيح النقل العصبي نقطة فنقطة تفسير اندماج كميّة كبيرة من المعلومات التي يعود مصدرها لمناطق دماغيّة مختلفة؟ كيف يمكن لعمليّة الذاكرة، التي تتم على المدى القريب وعلى المدى البعيد، من بضع ساعات إلى شهور عدة، أن تفسر فقط بالعصبونات التي تعبر عن نفسها وفق مقياس زمني يمتد من الملليثانية إلى الثانية؟ هل هناك آلية تتيح تأمين اندماج الرسائل هذا في الزمان والمكان؟ أجل هناك الخلايا الدبقية…

باستثناء تصور طريقة خلويّة معينة ينبغي اكتشافها، تعدُّ الخلايا النجميّة مرشحًا مهمًا للنظر في تحليل عمليّة معرفيّة معقّدة مثل الذاكرة. فإضافة إلى عددها الكبير وخصائصها الكيميائيّة الحيويّة غير المتوقعة، تتميّز الخلايا النجميّة بخصائص تشريحيّة وفيزيولوجيّة تتيح، ليس تفسيرًا كليًّا، وإنما إسهامًا في وظيفة الذاكرة، التي تتطلب اندماجًا مكانيًّا وتنظيمًّا زمانيًّا على المدى البعيد. 

من وجهة نظر تشريحيّة

تتميّز الخلايا النجميّة البشريّة بتعقيد فريد مقارنة بالحيوانات الأخرى، ومنها القوارض. إن حجمها أكبر بكثير (حجم الخلية النجميّة لدى الإنسان أكبر من حجمها لدى الفأر)؛ وتتصل بعدد مذهل من المشبكات العصبيّة حولها (تتصل خلية نجمية مع نحو 2 مليار مشبك عصبي لدى الإنسان، ومع نحو 100 ألف لدى الفأر)، ما يفسر قدرتها على دمج عدد كبير من المعلومات؛ وأخيرا، إنها مقر تغصنات كثيفة ومعقّدة على وجه الخصوص، ما يعزّز قدرة دمج الإشارات هذه التي تميّزها (Busong et al, 2002).

وهكذا تبدو الخلايا النجميّة مثل مذكرات حقيقيّة. فوفقًا للنظريّة السائدة ردحًا طويلًا من الزمن، يرتكز تكوين الذاكرة على حقيقة أن آليّات اللدونة العصبونيّة تزيد فعالية نقل المعلومة على مستوى الاتصالات بين العصبونات (المشبك العصبي) بطريقة مستدامة: وهذا ما يطلق عليه اسم التأييد طويل الأمد   أو LTP. ولكنَّ العصبونات ليست الوحيدة التي تشارك في تكوين الذاكرة. تقوم الخلايا النجميّة بدور المذكرة، كما توضح ذلك على سبيل المثال التجربة التي أجراها هينبرجر Hennberger وفريقه في عام 2010م. ففي النموذج التجريبي التقليدي، يجري الحصول على إنتاج التأييد طويل الأمد في الحصين بإثارة تنبيهات كهربيّة متكرّرة للعصبون داخل المشبك العصبي، الأمر الذي يزيد القوة المشبكيّة العصبيّة، لتسلك الإشارة الكهربية المسار نفسه. وقد اتفق الباحثون في هذه التجربة على تعديل نشاط خليّة نجميّة واحدة بمساعدة ماصة مجهريّة. وهذا ما حصلوا عليه:

– بعد تنبيه العصبون 1 بتردد عالٍ، عززت الزيادة التي أثارها تركيز الكالسيوم في الخليّة النجميّة النقل المشبكي العصبي، ما أدى إلى تكوين التأييد طويل الأمد (العصبون 2).

– إذا منعت زيادة نسبة الكالسيوم في الخليّة النجميّة بحقن الخليّة النجميّة بمحلول مناسب، فإن التأييد طويل الأمد لم يعدّ يظهر.

إذا سلمنا بأن إنتاج العصبونات للتأييد طويل الأمد دلالة على الذاكرة، فإن هذه الأعمال توضح أن إنتاج الذاكرة هذا يمكن أن يحدث أو لا يحدث إن قررت الخلايا النجميّة ذلك أو لم تقرره، وهذا برهان يشير إلى أنه حتى لو قامت العصبونات بدور في ظاهرة الترسيخ في الذاكرة، فإنها لا تستطيع فعل ذلك من دون مساعدة الخلايا النجميّة.

من وجهة نظر فيزيولوجيّة

إن للخلايا النجميّة التي لا تصدر إشارات كهربيّة قدرات لدمج المعلومات لا تملكها العصبونات. إنها تستطيع:

– تنظيم النقل المشبكي العصبي بين العصبونات.

– تعديل القوة المشبكيّة العصبيّة.

– الجمع بين مختلف المجالات المشبكيّة العصبيّة في اجتماعات وظيفيّة.

– تسهيل تخلق عصبونات جديدة.

وهكذا، تتيح خصائص الخلايا النجميّة تنظيم قدرات التخزين وزيادتها، وأيضًا مضاعفة درجة الحرية من أجل تخزين المعلومات. وإنه من غير الواضح كيف يمكن للتركيب العصبوني أن يقوم بهذا الدور بمفرده.

إن التجارب التي تبرهن في الواقع على أن الخلايا النجميّة تشارك في التعلّم والترميز والتخزين في الذاكرة كثيرة. فالتجارب الفيزيولوجيّة الخلويّة التي تشهد على أن الخلايا النجميّة يمكن أن تنشط التأييد طويل الأمد أو أن تحذفه مؤكدة لدى الحيوان. على سبيل المثل، إن زراعة خلايا نجمية بشرية في دماغ فئران حديثة الولادة يتيح لها التعلم بشكل أسرع، وامتلاك قدرات إضافية في الذاكرة (Han et al, 2007). وإن زراعة الخلايا النجميّة هذه لدى الفأر حديث الولادة يؤدي في الواقع إلى تحسين قدرات الذاكرة.  وفضلًا عن ذلك، عندما يتم تحضير الخلايا النجميّة انطلاقًا من دماغ فأر وليس من دماغ إنسان، فإن الزراعة لا تعدل قدرات ذاكرة الفئران.

إن هذا النمط من التجربة يتيح استخلاص نتيجتين:

على أية حال، تتسق هذه النتائج مع ما نعرفه عن خصائص الخلايا النجميّة لدى الإنسان والفأر.

إن الخلايا النجمّية البشرية أكبر حجمًا، ولها تفرعات أكثر امتدادًا وخصائص كيميائيّة حيويّة أكثر ثراءً من العصبونات التي تتغيّر بنيتها وشكلها تغيرًا طفيفًا خلال تطوّرها.

هل الوعي دبقي؟

إن أكثر الوظائف العقليّة البشريّة تعقيدًا ورفعة، أي الوعي، له تعريفات تساوي عدد المؤلفين المختصين في هذا المجال. هل الوعي هو الوصول إلى صورة ذهنيّة؟ وهل هو قدرة الفرد على التفاعل مع بيئة تتغيّر باستمرار؟ والقابليّة لتوجيه الذات؟ والتفكير في فكرة وإدراك أو فعل أو في الذات؟ مهما يكن من أمر، الدماغ الواعي هو القادر على معالجة مجموعة من المعلومات الواردة بطريقة موحّدة، في حين أن هذه المعلومات مجزأة بطريقة غير مفهومة ظاهريًّا. فكميّة المعلومات هذه ينبغي أن تدمج في مكان ما في الدماغ بطريقة تشكّل مجموعة ذهنيّة متسقة. والحال أنه حتى إذا كان القسم الأمامي من الدماغ، أي القشرة الجبهيّة، يقوم بوضوح بدور أساسي في إدارة وظيفة الوعي، فإن الكيانات التشريحية المسؤولة، الموزعة احتمالًا بطريقة معقدة، لديها واجب «ربط» المعلومات ببعضها بعضًا، وهو ما يطلق عليه في الإنجليزية اسم Binding لتوليد الوعي.

ما هي، والحال هذه، العناصر الخلويّة الدماغيّة القادرة على تأمين اتصال مجمل هذه المعلومات؟

هل هي العصبونات؟ هذا ممكن، ولكن مهما كان تعقّد الواردات والصادرات العصبونيّة، فإن مسار هذه المعلومات مقولب إذا ما اعتمدنا على الوصف التشريحي الفيزيائي الكيميائي للعصبونات. فإلى جانب العصبونات، تتلقى الخلايا النجميّة الموجودة بكثرة نسخة من المعلومات الحواسية. أليست مرشحة بامتياز بوصف أن كلًا منها يضم عشرات عدة أو مئات الآلاف من النهايات العصبيّة، ويملك خاصيّة إنتاج موجات كلسيّة بطيئة، قادرة على تأمين دمج وتزامن كل المعلومات العصبونيّة؟ كيف يتم تأمين نوعية إشارة في المستودع العصبوني هذا في ظلّ عدم وجود قدرة الاندماج هذه التي تملكها العصبونات المنظمة في ملتحم خلوي.

على الرغم من التقدم اللافت للنظر لعلم النفس المعاصر، لا سيما بفضل تقنيّات التصوير الدماغي، ينبغي أن نقول وأن نكرر أننا لا نجيد دائما الإجابة عن أسئلة جذابة مثل: كيف نعطي عالمنا وأنفسنا معنى؟  أو: ما هو الأساس الفيزيولوجي لذاتنا؟ ومع ذلك، إن وجود الخلايا النجميّة هو احتمال، أو على الأرجح شرط ضروري لتفسير حقيقة «الوعي» حتى لو لم يكن ضروريًّا.

الإيقاع  اليوماوي والدبق

إن تغيّرات البيئة مثل شدّة الضوء، والحرارة، ووجود الخاتل أو غيابه يرافقها لدى الحيوانات، ومنها الإنسان، تغيّرات سلوكيّة مختلفة وفقًا للوقت، ولكوننا نائمين أو يقظين، والليل أو النهار.  فهذه التغيّرات السلوكيّة ترتبط بإيقاع خلال 24 ساعة وفقًا لدورة الليل-النهار التي أطلق عليها اسم الإيقاع اليوماوي. فهذا الإيقاع يخضع لساعة بيولوجيّة داخليّة تقدم تصورًا فطريًّا للوقت لدى معظم الكائنات الحيّة. وهكذا، تتيح هذه الساعة التكيّف باستمرار مع تغيّرات الوقت. ويمكن أن تكون حيويّة، على سبيل المثال بتحديد أوقات النشاط والراحة لدى الحيوان. وبدأت معرفة الدارات العصبونات التي تولد هذه «الناظمة» اليوميّة. يتعلّق الأمر بمناطق دماغيّة عصبيّة صغيرة تقع في قاع الدماغ، مثل تحت المهاد والغدة الصنوبريّة. وبدأ حتى تحديد الناقلات العصبيّة التي تسهم في شبكة العصبونات هذه. ومع ذلك، لم يتمكّن أحد حتى وقت قريب من تصوّر أن الخلايا النجميّة تقوم بدور في تنظيم هذه الإيقاعات اليوماومية.

ويختلف الأمر اليوم منذ أن جرى توضيح أن تعديل مختلف الجزيئات الموجودة حصرًا في الخلايا النجميّة يمكن أن يغيّر هذه الإيقاعات. على سبيل المثال، إن التلاعب بالجينات الذي يتيح أو لا يتيح التعبير عن أنزيم انتقائي للخلايا النجميّة (Ebony) يؤدي إلى إخلال واضح في الإيقاع اليوماوي لدى ذبابة الفاكهة (Emery et Freeman,2007).

وهكذا، توضح هذه الأعمال أن الخلايا النجميّة يمكن أن تعدل بطريقة فيزيولوجية الدارة العصبونيّة المسؤولة مباشرة عن السلوكيات اليوماوية. ويمكن تخيّل أهمّية هذه الأعمال بالنسبة إلى الذين يعانون من إيقاع يوماوي (الأرق ليلًا، والنعاس نهارًا) والذين لا يستجيبون بشكل جيد للعلاجات التقليديّة. فهل سيكون بوسعنا إيجاد أدوية تؤثر في الخلايا النجميّة من أجل استعادة إيقاع نومهم؟

النوم والدبق: نجوم في الليل

إننا نمضي نحو ثلث حياتنا في النوم. ورغم أننا لا ندرك ذلك، فإن النوم هو في الواقع حالة للدماغ الذي يتصّف نشاطه بالتنظيم الجيد. ثمة مرحلتان أساسًا يمكن توضيحهما بقياس النشاط الكهربي للدماغ من خلال التخطيط الكهربائي للدماغ EEG: مرحلة النوم بطيئة الموجات التي تكون خلالها العصبونات في القشرة الدماغيّة نشطة بطريقة متزامنة، الأمر الذي ينتج موجات طويلة منخفضة التردد؛ ومرحلة أخرى، تسمى النوم المتناقض (Jouvet, 1967, 1992 )، لأن  نشاط الدماغ، الذي يشبه النشاط الذي جرى قياسه خلال حالة اليقظة، يظهر لدى شخص ينام نومًا عميقًا! إنها أيضا المرحلة التي نحلم خلالها. ورغم أننا لا نعرف اليوم وظيفة النوم، فإنه من المؤكد أنه مهم من أجل عمليّات الترسيخ في الذاكرة، وإتاحة التعويض الأيضي.

وللدور الذي تقوم به الخلايا النجميّة في النقل المشبكي العصبي، فليس من المستغرب أن يزداد عدد الدراسات التي توضح دور الخلايا النجميّة الدماغيّة في تنظيم دورة اليقظة/ النوم. وهكذا، برهنت دراسات حديثة باستخدام المجهر الإلكتروني أن العمليات الخلويّة النجميّة التي تحيط بالمشبكات العصبيّة تتراجع في أثناء النوم بطيء الموجات.

هذا الانخفاض في غطاء المشبكات العصبيّة الذي تحدثه الخلايا النجميّة له نتائج وظيفيّة: في الواقع، تتمثّل إحدى الوظائف الرئيسة للخلايا النجميّة في «إعادة ضخ» الغلوتامات الذي تم إطلاقة للمشبكات العصبيّة، ما ينتج منه إنقاص الامتداد المكاني لفعل هذا الناقل العصبي. فإذا نقص الغطاء المشبكي العصبي بفعل العمليّات النجميّة الخلويّة، «يكثر» الغلوتامات خارج المشبك العصبي، ويمكن أن ينشط كثير من المشبكات العصبيّة الأخرى، الأمر الذي سوف يحصل في تزامن نشاط عدة عصبونات.

والحال أن هذا التزامن هو على وجه الخصوص ما يلاحظ خلال النوم البطيء الموجات. وتلاحظ الصورة المعكوسة خلال اليقظة: الغطاء المشبكي العصبي بفعل العمليّات الخلويّة النجميّة أكثر وضوحا، ما يحدّ موضعيًّا فعل الغلوتامات (Bellesi et al, 2015).

كان لدى سانتياغو رامون كاخال Santiago Ramón Cajal،  منذ أكثر من 100 سنة، حدس عن دور ديناميكيّة العمليّات  الخلويّة النجميّة في النوم، ولكنه أخطأ في الاتجاه. كان في الواقع يعتقد أن العمليّات الخلويّة النجميّة خلال النوم تتدخل بين العصبونات على مستوى المشبكات العصبيّة فتوقف بذلك التواصل بين العصبونات (Tso et Herzog). ولكن الأمور لا تجري بهذه الطريقة تمامًا. والواقع أن العمليّات الخلويّة النجميّة خلال اليقظة تحيط بالمشبك العصبي فتحسن الفاعليّة بعد المشبكّية للغلوتامات؛ وتقلّ العمليّات الخلويّة خلال النوم، وهو عكس ما صادر عليه كاخال، فتتيح زيادة الغلوتامات خارج المنطقة المشبكيّة، وتجعل بذلك انتقال الإشارة أقل فاعليّة.

إن البرهان على أن النوم عملية فعالة هو زيادة التعبير عن كثير من الجينات التي يتم التعبير عنها بنوع خاص في الخلايا النجميّة خلال النوم، لا سيما جينات أيض الطاقة، لا سيما الجينات التي تقوم بنقل لبنات الخلايا النجميّة للعصبونات. والحال أن نقل اللبنات مهم للتخزين في الذاكرة، وهو أحد وظائف النوم (Petit et al, 2013).

بعد هذه الأمثلة التي توضح التفاعل الفيزيولوجي القوي بين العصبونات والخلايا النجميّة، وأنه لا يمكن لأحدها أن يعمل من دون الآخر، يبقى أن نعرف إن كانت العصبونات قادرة بمفردها على توليد سلوكياتنا أو إن كان الزوج عصبونات-خلايا نجمّية هو الذي يقوم بهذا الدور الأساسي بالنسبة إلى النشاط البشري.

Share This