تقنية النانو
وعلوم الأدلة الجنائية
د/ مسلّم بن محمد المسلّم استشاري وخبير علـوم جنـائية
أصبح هناك اليوم الكثير من التطور المتسارع في التقنيات الحديثة المستخدمة في شتى مجالات الحياة. وقد أسهمت أبحاث النانو وما توصلت إليه من حقائق علمية، وبشكل فعّال، في هذه النقلة النوعية من اختراعاتِ وابتكاراتِ هذا العصر. إنَّ الخصائص الكيموفيزيائية الممَيّزة للمواد في حجمها المتناهي في الصغر (النانو = 6-01 في الملليمتر)،التي تم قياسها وتحليلها، قد أظهرت قدرتها على تحسين التطبيقات في عدة مجالات في المجتمع، كالاتصالات، والطاقة، والتحاليل المخبرية، والأدوية الطبية. وفي مجال علوم الأدلة الجنائية يُنظر إلى هذه الجسيمات النانونية بدرجة من الأهمية والرغبة في التعرف إليها أكثر للتوسع في استخدامها، إذ لا تزال هناك حاجة في زيادة معرفة خصائصها المرتبطة بالقضايا الجنائية، كمستوى السمّية أو أثر التخدير. كما أنَّ إمكانية تطبيق مميزات تقنية النانو في كشف الأدلة الجنائية، أو تطوير أجهزة الاستشعار، والفحص للآثار والعينات قد دخل بالفعل حيِّز الاستخدام مع وجود فرص أكبر للتحسين من خلال نتائج أبحاث هذا المجال.
ونتيجةً للتطور السريع في علوم النانو ظهر حديثًا مصطلح جديد يُعرف بـ((النانو فورينسك)) (Nano forensic)، وهو تخصص علمي متقدم جدًّا مرتبط بالدراسات البحثية المتعلقة بتطوير أجهزة استشعار بتقنية النانو. وتُستخدم هذه الأجهزة للفحوصات الجنائية والتدقيق المخبري على أنشطة الجرائم من خلال تحديد وجود الغازات المتفجرة والمخدرات، وتحليل العينات البيولوجية وربطها بالتحقيق الجنائي. وتوضح هذه المقالة العلمية أهمية هذا التخصص (النانو فورينسك)، وتستعرض أهم ما تم التوصل إليه من تطبيقات، كما تُلقي الضوء على الاستراتيجية البحثية لتطوير تقنية النانو في مجال علوم الأدلة الجنائية.
تتم عملية فحص الآثار والعينات للحوادث، وتحديد ما هيتها في علوم الأدلة الجنائية بطرائق وأساليب مختلفة بحسب نوع الدليل، فمثلاً هناك تقنيات للتعرف على المواد، وتحديد أثرها الجنائي (سامة، متفجرة، إشعاعية … إلخ)، كما يوجد كواشف لإظهار البصمات ومقارنة النتائج، إضافة إلى أسلوب التحليل المخبري للعينات البيولوجية، وغير ذلك من الطرائق التي تُستخدم مع الأدلة التي يتم استنطاقها من مسرح الحادث للاستفادة منها في قضايا التحقيق. وتعتمد فحوص الأدلة الجنائية، وبشكل أساسي على الطرائق التحليلية والتقنيات لمتطورة، بهدف التعرف على تلك الآثار والعينات، ومن أجل استخدامها في الإثبات أو النفي للقضايا الأمنية والعدلية. وقد ارتبطت علوم الأدلة الجنائية بكثير من التخصصات العلمية، كعلوم الفيزياء، وعلوم الكيمياء، وعلوم الأحياء، وأيضاً علوم تقنية المعلومات في عصرنا الحديث. وامتدت علاقة علوم الأدلة الجنائية بكل ما يستجد من قوانين وتقنيات علمية حتى أصبح لتقنية علم النانو مجالاً في علوم الأدلة الجنائية.
ترتكز هذه التقنية على استخدام مواد نانوية الحجم تُعرّف من الهيئة العالمية للمعايير والقياسات «الآيزو» (ISO) بأنها تلك المواد التي لها قياس أقل من 100 نانومتر في أحد أضلاع أشكالها الخارجي (شكل 1). ويُعدُّ عالِم الفيزياء والحائز على جائزة نوبل ((ريتشارد فينمان)) (Richard Feynman) صاحب أول فكرة للاهتمام بعلم النانو وخصائص مواده من خلال محاضرته الشهيرة في الاجتماع السنوي للجمعية الأمريكية للفيزياء في عام 1959 بعنوان (ثمة حيز شاسع في القاع)، ويعني بذلك البحث في خصائص المواد على مستوى حجمها المتناهي في الصغر، والاستفادة منها في تطبيقات التقنية الحديثة، وهذا ما أكده العالم الياباني نوريو تانيقوتشي (Norio Taniguchi) في عام 1974عندما استخدم مصطلح ((تقنية النانو)) في أبحاث المواد أحادية الجزيء.
وتحمل الجسيمات عند مستوى حجم النانو خصائص غير متوقعة كيميائية وفيزيائية وحيوية وأيضاً سمية. ويتم اعتماد اختيار المواد النانوية في التطبيقات بناءً على خصائصها ومجال استعمالها، فعلى سبيل المثال في الأجهزة الإلكترونية يتم تطبيق الجسيمات النانوية التي لديها إمكانات أكبر على التيارات الإلكترونية، أما في الاستخدام الطبي فتكون المواد النانوية الأقل سمية هي المصدر. ولاتزال تلك الخصائص الممَيّزة لمواد النانو تحمل الكثير من علامات الاستفهام حول ماهية صفاتها أو مدى الاستفادة الكاملة منها، فبالرغم مما قدمته من تطبيقات فإنَّ الحاجة للبحث في هذه التقنية، وما يمكن أن تسهم به في شتى المجالات بصفة عامة، وفي تخصص علوم الأدلة الجنائية بصفة خاصة لا تزال قائمة.
شكل (1): تصنيف جسيمات النانو بحسب أشكالها
تطبيقات تقنية النانو في علوم الأدلة الجنائية
اليوم، ونتيجة لتطوّر أبحاث علم النانو أصبح هناك الكثير من التطبيقات لها، وفي مجالات متنوعة تخدم حضارة القرن الواحد والعشرين. ومن تلك التطبيقات ما أدى إلى تطوّر الأداء الفني لأعمال الأدلة الجنائية، وسنذكر منها، وعلى سبيل المثال، دورها في أقسام تحقيق الشخصية، والمختبرات الجنائية، والأسلحة والمتفجرات.
مواد النانو وبصمات الأصابع
تُستخدم بصمات الأصابع التي تترك أثرًا على الأسطح المختلفة في مسرح الجريمة دليلًا تعريفيًّا بمن لهم ارتباط في الحوادث الجنائية. ويكون للبصمات دور مهم في تحقيق الشخصية وتعقب المطلوبين، وحل الكثير من القضايا الجنائية. وبالرغم من سهولة المبدأ إلا أنه من الصعب للعين المجردة رؤية تلك الآثار للأصابع، وتحليل التباين بينها، نتيجة اختلاف نوعية الأسطح أو الظروف الطبيعية المحيطة بالبصمات. لذلك اُستُخدمت عدة أساليب تساعد في إظهار آثار البصمات الكامنة، ومنها في هذا المجال طريقة مسحوق الغبار، وتقنية الترسيب المتعدد المعادن، وأيضًا الكواشف الإشعاعية. وبالرغم من التحسن في نتائج إظهار آثار البصمات الكامنة عند استخدام تلك الأساليب إلا أنَّ هناك بعض المشاكل التي برزت خلال العمل بها، كعدم الوضوح الكامل للبصمات أحيانًا، أو تأثر تلك الأساليب بالظروف غير القياسية في بيئة البصمات، أو درجة سمية المواد المستخدمة في إظهار آثار البصمات الكامنة وخطورة التعامل معها من قبل الفاحصين. ومن هنا تتبيّن مدى الحاجة لتطوير الأساليب في علوم الأدلة الجنائية لاستخدام تقنيات أكثر كفاءة وفاعلية.
استخدمت المختبرات الفنية لقسم تحقيق الشخصية مواد الفضة النانوية لإظهار البصمات الكامنة للأصابع، وكانت قادرة على تكوين صور لبصمات أصابع بقيت في بيئة خارجية لعدة ساعات بدرجة حرارة مرتفعة، وأخرى ظهرت على أسطح رطبة، لكن لهذه التقنية تكاليف عالية، وتترك دائمًا أثرًا على أسطح موضع الفحص(1). أما بالنسبة إلى مواد الزنك النانوية فقد بقي استخدامها محدودًا بالأسطح غير المسامية(2). وبالرغم من أنَّ مواد أكسيد الألومنيوم النانوية مستقرة جدًّا، وصديقة للبيئة، إلا أنها ذات تكلفة عالية، كما أنَّ عملية الفحص باستخدامها تأخذ وقتًا طويلاً(3). لذا تم الاهتمام في أبحاث تطوير تقنية النانو في هذا المجال على تجاوز تلك السلبيات والتركيز بشكل أكبر على استخدام المواد النانوية الفلورية لإظهار بصمات الأصابع الكامنة. إذ تبيّن أنَّ استخدامها أكثر سلامة للفاحص، كما أنَّ النتائج لها وضوح عالٍ في التباين مع حساسية وانتقائية شديدة عند فحص البصمة (شكل 2).
ويَظهر التفاعل عندما تلتصق مواد النانو فلورية بالمكونات المائية أو الزيتية لبصمات الأصابع الكامنة. وتعتمد التفاعلات الناتجة بين هذا النوع من المواد النانونية وبقايا بصمات الأصابع بشكل أساسي على الأكسدة العالية لها، التي تحفز عوامل الامتصاص والجذب الكهروستاتيكي، ولا تزال الأبحاث مستمرة لتحسين هذه التقنية للحفاظ على بصمات الأصابع على المدى الطويل.
شكل (2): إظهار البصمات الكامنة للأصابع باستخدام مواد نانو فلوريسنت (4)
تقنية النانو والبصمة الوراثية
يعد التطابق في تسلسل القواعد النيوكليتايدية في الحمض النووي، الذي يستخلص من العينات البيولوجية في مسرح الحادث دليلاً مرجعيًّا مُميزًا لكلِّ شخص يمكن مقارنة تتطابقه مع عينات المشتبه فيهم. إذ إنه، ومن الأقرب إلى المستحيل تكرار حدوثه بين البشر تمامًا كتمييز الأشخاص ببصمات أصابع اليد وتفَرُّدها بينهم، وإن تشابهت أعراقهم وقَرُبت أنسابهم. ويعد البروفيسور السير أليك جيفريز (أستاذ جامعة لستر/ المملكة المتحدة) أوّل من طبق تقنية تحليل الحمض النووي واستخدام بصمته في علوم الأدلة الجنائية، وذلك في عام 1984. ويوجد الحمض النووي في جميع خلايا الجسم ما عدا كريات الدم الحمراء لعدم وجود نواة فيها، ويمكن استخلاص الحمض النووي من جميع العينات البيولوجية التي يتم الحصول عليها من مسرح الحادث، كالشعر، والدم، والسائل المنوي، واللعاب، والجلد، والعظام. ويتكون الحمض النووي من قواعد نيوكليتايدية يرتبط بعضها مع بعض بتسلسل فريد (شكل 3).
شكل (3): يظهر طريقة ارتباط القواعد الأربع الأساسية المكونة لسلسلة البصمة الوراثية “الجوانين، الأدنين، الثايامين، السايتوسين”(5)
وقد استخدمت عدة تقنيات لقراءة وتمييز ترتيب هذه القواعد النيوكليتايدية ومن أهمها وأكثرها انتشارًا تفاعل البلمرة المتسلسل (PCR) لإنتاج نسخ متعددة وفي مواقع محددة من التسلسل الجيني. وكان لعلم النانو مساهمته في هذه التقنية، إذ استخدم في عملية استخلاص الحمض النووي من العينات البيولوجية جسيمات النانو ماغناتك. وبالرغم من النتائج المذهلة من استخدام هذا الفحص في إظهار البصمة الوراثية في العلوم الجنائية، إلا أنَّ الحاجة لا تزال لتطوير طرائق أخرى، والاستفادة من ثورة تقنية النانو في تجاوز بعض سلبيات طريقة فحص البصمة الوراثية بتفاعل البلمرة المتسلسل، كطول مدة الفحص، وارتفاع كلفته، إضافةً إلى محدودية استخدامه في العينات الضئيلة جدًّا، أو تلك التي تعرضت إلى تلوث خلال نقلها من مسرح الحادث أو أثناء الفحص.
مستشعرات النانو وكشف المتفجرات
شهد هذا العصر ارتفاعًا في وتيرة الأعمال الإرهابية المعتمدة على المواد المتفجرة نتيجة الأثر البالغ الذي تحدثه الكميات القليلة منها في مسرح العمليات، كنترات الأمونيوم، أو الـ (تي إن تي)، أو مادة ال (سي فور). ومن هنا تبرز أهمية التعامل مع هذه الأحداث باستخدام تقنيات شديدة الحساسية تستطيع كشف المتفجرات من مسافات بعيدة، أو التعرف على نوعية المواد المستخدمة بعد وقوع الحادث بفحص آثار الانفجار.
ويُعَد استخدام الأجهزة فائقة الصغر التي لها قدرات استشعار عالية ذات أهمية بالغة في هذا المجال. وكان لعلم النانو دوره عندما بدأ الباحثون بتوظيف جسيمات الذهب النانونية على منصة جهاز مطياف رامان لزيادة حساسية قياس المتفجرات(6). كما قاموا باستخدام الأنابيب النانوكربونية كمنصة استشعار كهروكيميائية للكشف عن المتفجرات النتروجينية (شكل 4). ونظراً للخواص الممَيّزة لجسمات النانو زادت حساسية القياس ودقة النتائج حتى مع الآثار الضئيلة جدًّا لهذا النوع من المتفجرات. ولا تزال الجهود مستمرة في تطوير أبحاث هذا المجال لمواجهة تحديات هذا النوع من الجرائم. ويعمل الباحثون في هذه التخصص على الأخذ في الحسبان طبيعة المواد المراد فحصها، وأهميتها، وضرورة تحسين طرائق التعامل معها وفق استراتيجية محددة.
شكل (4): الشكل الهندسي لمواد النانو كربون يزيد من فعالية تطبيقه كمستشعر للمواد المتفجرة (7)
استراتيجية تطوير تقنية النانو في علوم الأدلة الجنائية
وعلى الرغم من أنَّ التطوّر في تكنولوجيا طرائق الفحص في علوم الأدلة الجنائية باستخدام الطرائق التحليلية التقليدية لا يزال مستمراً، إلا أنَّ في تقنية النانو فورينسيك، وباستخدم رقائق الجسيمات الدقيقة بدلاً من الأدوات الضخمة، يزيد من حساسية طرق التحليل للحصول على النتائج في الوقت المناسب وبدقة أكثر. وتعطي تقنية النانو بما قدَّمت من حلول في مجال الأدلة الجنائية انطباعاً بأن يكون لها تأثير كبير في تحسين مهام أداء الفحوص الجنائية والمساهمة في تحقيق أهدافه الاستراتيجية المهمة، وهي:
- المواءمة لنوعية آثار الفحص وعيناته
تختلف طبيعة الآثار والعينات في القضايا الجنائية من حيث نقاوتها، أو ضآلة حجمها، أو الثبات في تركيزها عن غيرها من عينات الفحص المخبرية الأخرى، وهذا الأمر تزداد فيه صعوبة التعامل معها لإظهار النتائج عطفًا على أهميتها من حيث كونها مستندًا ودليلاً يُستخدم في العمل الجنائي وتطبيق العدالة. لذا فإنَّ الطرائق التحليلية المتطورة والحساسة، كتقنية النانو قد تكون قادرة على التعامل مع هذه النوعية من العينات.
- الربط المباشر بين الدليل والنتائج
إنَّ التباعد في الظرف المكاني بين آثار الأدلة الجنائية وعيناته في مسرح الحادث مع موقع الفحص المخبري لها باستخدام أجهزة متقدمة يجعل من الضروري البحث عن طرائق تقلل من أخطاء سلسلة استلام الدليل وتسليمه، وهنا يظهر دور تقنية النانو في ابتكار حساسات متنقلة ((سهلة الحركة)) توضح وفي تحليل أوليّ ومبدئي نتائج فحص الآثار والعينات، وذلك في مسرح الحادث وقبل نقلها.
- صحة النتائج ودقتها
على الرغم من أنَّ التقنيات المستخدمة في الوقت الراهن لتحليل نتائج فحص الأدلة الجنائية من آثار وعينات تعد ذات اعتمادية عالية، إلا أنَّ لها حدودًا صغرى في قبول تراكيز مادة الفحص لا يمكن تجاوزها للحصول على النتائج الصحيحة. وقد أظهرت تقنية النانو، ونتيجة لحساسيتها الشديدة، القدرة على فحص مستويات ضئيلة جدًّا للآثار والعينات وبدقة عالية.
- سرعة النتائج
تعتمد الكثير من القضايا الجنائية على سرعة نتائج فحص آثار الأدلة وعيناتها نتيجة الإجراءات الأمنية التي قد تترتب عليها، لذا فإنَّ استخدام تقنيات ذات أداء سريع وخطوات بسيطة كما هو مؤمَّل من استخدام تقنية النانو في علوم الأدلة الجنائية سوف يسهم في رفع كفاءة المختبرات الجنائية وفعاليتها.
وختاماً، تسهم النقلة النوعية في دعم الأبحاث العلمية، ومن خلال استراتيجية رؤية 2030 في تلبية متطلبات العمل الوطني وتوطين التقنيات، وقد برزت جامعات المملكة العربية السعودية للقيام في مهامها بهذا الدور، وهذا الأمر سنرى نتائجه في المستقبل القريب بإذن الله.