هل سمعت يومًا أن
الضوضاء العشوائية قد تُزيد قدرتك على التعلم؟
د. آلاء عصمت- صيدلة إكلينيكية- جامعة طنطا- مصر
على عكس ما اعتدناه دائمًا من البحث عن مكان هادئ للقراءة والاستذكار، مكان خالِ من الضوضاء والناس من حولنا، يعمه الصمت والهدوء، حتى نحصل على أكبر قدر من التركيز وتحصيل المعلومات، فنحن الآن بصدد طرح دراسة جديدة وشيقة تتحدث عن أثر الضوضاء العشوائية على زيادة قدراتنا على التعلم. ولكنها ليست الضوضاء بالمعنى الحرفي والمتداول، إنما هي تقنية جديدة تسمى (tRNS) أو تحفيز الضوضاء العشوائية عبر الجمجمة، فهيا معًا لنرى ما هي فوائد هذه التقنية؟!
تحفيز الضوضاء العشوائية عبر الجمجمة (tRNS)
أثبتت دراسة حديثة أجرتها جامعة إيديث كوان (ECU) عن أثر تحفيز الجمجمة بتقنية الضوضاء العشوائية وهي ليست قائمة من بعض الأغاني المُعدَة للاسترخاء، ولكنها شكل من أشكال التحفيز الكهربائي عبر الجمجمة (tES) وهي ضمن عدة طرق تحفيز الدماغ غير الجراحية (NIBS)، تُجرى باستخدام أقطاب كهربائية توضع على فروة الرأس يمر من خلالها شحنات كهربائية ضعيفة بترددات عشوائية تستهدف أماكن معينة في المخ. وقد ثبت بالعديد من التجارب أن الضوضاء العشوائية لها العديد من الفوائد مقارنةً بأشكال التحفيز الكهربائي الأخرى. وعلى سبيل المثال فشعور عدم الراحة الناجم عن استخدامها أقل، وقد أثبتت العديد من الدراسات أن الضوضاء العشوائية لها تأثير أكبر على تعديل العمليات العصبية من خلال إحداث تغيرات عصبية فسيولوجية وسلوكية أكبر مقارنةً بأشكال التحفيز الأخرى.
أوضح الدكتور أونو فان دير جروين (Onno Groen)، وهو قائد هذه الدراسة أن هذه التقنية (tRNS) تعدُنا أن يكون هناك أداة جديدة تساعدنا على التعلم بشكل أفضل مستقبلًا. ويقول الدكتور جروين: “سيكون التأثير على التعليم واعدًا، فهذه التقنية ستُسرع من عملية التعلم وستساعد الأشخاص الذين يعانون من أمراض عصبية، فضلًا عن الأشخاص الذين يعانون صعوبة في التعلم، سيكون بإمكانهم استخدام هذه التقنية لتحصيل المعلومات بطريقة أسرع”. وأضاف: “كما أّنها اُختبرت أيضًا على الأشخاص المصابين بالقصور البصري الذي يحدث بعد السكتات الدماغية، وإصابات الدماغ”.. وتابع قائلًا: “ستشعر بتحسن في أدائك إذا جربت استخدام هذا النوع من التحفيز أثناء التعلم، وستزداد سرعة تعلمك أيضًا ويليها تركيزك نحو الأفضل”.
تشكيل مسارات جديدة
إن الضوضاء العشوائية تعمل عن طريق السماح للمخ بتكوين مسارات وروابط جديدة من خلال عملية تسمى بالمرونة العصبية. كما أوضح دكتور جروين: “إذا أردت تعلم شيء فيجب أن يكون هناك تغيرات في المرونة العصبية بمخك، وستساعدك هذه التغيرات بدورها في تلقي هذه المعلومات، فالضوضاء العشوائية هي أداة لتحسين هذه المرونة العصبية”. وأشار إلى أن للضوضاء العشوائية تأثيرين على المخ: أولهما التأثير الحاد الذي يدفع الشخص لأداءٍ أفضل، وهو تحت تأثير الضوضاء العشوائية، والثاني هو التأثير المُعدّل طويل المدى الذي يمكن من خلاله تحسين الأداء المعرفي في المستقبل حتى بعد توقف الضوضاء العشوائية. أثبتت الدراسات أن الضوضاء العشوائية من الممكن أن تزيد من الإدراك البصري، وتساعدنا في تعلم المعلومات بكفاءة أكثر، وتُحسن قدرتنا على التركيز، وأفاد العلماء بأنها قد تكون نافعة في بعض المناطق المُدمَرة بالدماغ، أو تلك التي في طريقها للتعافي من ضررٍ ما. وقد أشار باحثو الدراسة إلى أنه في حال خضعت لعشر جلسات من الإدراك البصري باستخدام الضوضاء العشوائية، ثم أُعيدت هذه الجلسات بدونها ستجد أنك تؤدي أفضل من المجموعة المرجعية التي لم تستخدمها.
هل يمكن للضوضاء العشوائية أن تجعل الأشخاص أكثر ذكاءً؟
إن مفهوم توسيع إمكانيات تعلم الأفراد شيء جميل، فمن منا لا يريد أن يصبح أكثر ذكاءً؟ ولكن مؤلفي الدراسة يشيرون إلى أن تكنولوجيا كالضوضاء العشوائية، تأتي بالعديد من التساؤلات العالقة وغير المجابة. وفي حين أنها ملائمة أكثر للأشخاص الذين لديهم قصور أو متاعب في التعلم، فقد تساءل الباحثون عن التأثير الناجم عن تطبيقها على الأشخاص العصبيين، فقد يكون بإمكانهم الانتقال بذكائهم لمستويات جديدة مثل ذلك المفهوم المطروح بفيلم (limitless). ويقول دكتور جروين: إن الإمكانيات موجودة، ولكن هناك مؤشرات أيضًا أنها لن تخلق مستوى جديد من الذكاء. وأوضح قائلًا: “السؤال هو إذا كنت عصبيًا هل بالفعل تؤدي أفضل ما لديك؟”.
من المهم أن نعلم أن الضوضاء العشوائية ليست الأداة التي تعمل في جميع المواقف، ولا تستطيع الارتقاء بمستوى عقولنا إلى الأبد، وفي بعض السيناريوهات لم يلق تطبيق الضوضاء العشوائية أي تأثير على الإطلاق في بعض الفئات العمرية. كما أشار مؤلف الدراسة إلى أن هناك دراسة حالة حاولوا فيها تحسين المهارات الحسابية لعالم رياضيات عظيم، ولكن لم يكن لها تأثير كبير على أدائه، ويُفترض أن ذلك يرجع إلى أنه بالفعل الأفضل في هذا المجال”، ولكن يمكنك استخدامها إذا كنت تتعلم شيئًا جديدًا. على الرغم من كل هذه التجارب السابقة، فإن الآلية الدقيقة لعمل الضوضاء العشوائية داخل الدماغ تظل غير واضحة. ويُعتقد أن الضوضاء العشوائية قد تساعد بعض الخلايا العصبية كي تبقى في تزامن ووفاق أفضل، أو قد تؤثر على مستويات الناقل العصبي الرئيس، المسمى بحمض جاما أمينوبيوتيريك، وعلى الرغم من ذلك فلا يوجد من هو على ثقة بآليتها حتى الآن.
هل العلاج بالضوضاء العشوائية متاح للاستخدام الآن؟
حاليًا لا تزال الضوضاء العشوائية في مراحلها الأولى، والطريقة الوحيدة التي يمكن للناس من خلالها استخدام الضوضاء العشوائية هي التجارب المحكمة، ولكن الباحثين لازالوا متفائلين بأن الضوضاء العشوائية سيكون لها العديد من التطبيقات المختلفة يومًا ما في العالم الواقعي. وأفاد الدكتور جروين بأن تطبيقها العملي وسلامتها الجلية تعنى أنه سيكون هناك الكثير من التطبيقات المرتقبة لها. وأضاف: “إن المفهوم بسيط نسبيًا، إنها مثل البطارية حيث تنتقل الشحنات من الموجب للسالب، ولكنها تمر خلال رأسك كذلك، ونعمل على دراسة نرسل خلالها المعدات للأشخاص، وهم يطبقون كل شيء بأنفسهم عن بُعد، لذلك وبهذا الصدد فإنها سهلة الاستخدام للغاية”.
كما أن العلماء حول العالم يدرسون تأثيرات الضوضاء العشوائية على الإدراك، وعمل الذاكرة، والمعالجة الحسية، وجوانب السلوكيات الأخرى، مع إعطاء التكنولوجيا وعودًا بمعالجة مجموعة من الحالات الطبية. ولازال الباحثون يحاولون اكتشاف الطريقة الأفضل لاستخدامها. وما نراه جليًا في هذه الدراسة أن التنبيه بالضوضاء العشوائية قد يكون له بعض التأثيرات الإيجابية على التعلم على الأقل لفترة محدودة لبعض الأشخاص، وهذا يعني أن هناك الكثير من الإمكانات المرتقبة في البحث المستقبلي. وفي النهاية وكما نرى أن الضوضاء والتركيز هما كالزيت والماء لا يمكن خلطهما، فقد بينت دراسة حديثة في برشلونة أن ضجيج حركة المرور بجانب المدارس يؤثر بشكل سيء على تطوير الذاكرة العاملة لدى الأطفال، ولكن كما رأينا أن الباحثين بجامعة إيديث كوان قد أثبتوا لنا أن الاستخدام المُحكم لتكنولوجيا التنبيه بالضوضاء قد يكون له الكثير من التطبيقات والنتائج المدهشة. ونحن في انتظار المزيد من الأبحاث والدراسات عن الضوضاء العشوائية وتأثيرها الرائع على التعلم.