الفولاذ الأخضر
حد من الانبعاثات الكربونية ويوفر الطاقة
أ. حسن الخاطر فيزياء- وزارة التعليم- السعودية
تُعتبر هندسة المواد عاملًا أساسيًا في تطور الحضارة البشرية منذ صناعة الخزف في العالم القديم وحتى الثورات الصناعية الحالية. ومع الفهم العلمي للخصائص الفيزيائية والكيميائية التي تميز كل مادة عن الأخرى ابتداء من القرن التاسع عشر، فُتح الباب واسعًا أمام علم وهندسة المواد الحديث لابتكار مواد جديدة ليست موجودة في الطبيعة تناسب متطلبات التطور التكنولوجي. ويُعوَّل اليوم على هذا العلم لتطوير هذه المواد بحيث يتم إنتاجها بحدٍ أدنى من الانبعاثات الكربونية. والمادة الأكثر استخدامًا وضررًا على البيئة، بعد الإسمنت، هي الفولاذ أو الصلب، الذي قُدر إنتاجه عام 2020 بـ 1860 مليون طن، تسهم بحوالي 8 % من إجمالي انبعاثات غازات الاحتباس الحراري في العالم، كما جاء في إحصاءٍ قامت به “رابطة الفولاذ العالمية” ونشر في مجلة “ريسايكلينغ توداي”، مايو 2021.(i) ويجهد علماء المواد اليوم لإدخال خصائصَ جديدةً على الفولاذ تحد من الانبعاثات الكربونية عند إنتاجه إلى حدود الصفر، وجعله فولاذًا أخضر.
أهمية الفولاذ
يعود أقدم الشواهد الأركيولوجية على استخدام الفولاذ إلى حوالي 4000 عام في الأناضول. (ii) كما أن هناك بعض الأدلة على هندسة معقدة للفولاذ الكربوني قبل 2000 عام في غرب تنزانيا، كما يقول عالم الأنثروبولوجيا في جامعة واشنطن بيتر شميدت. (iii) لكن استخدامه بقي محدودًا في مجالات معينة، خاصة في الأدوات الحربية حتى انطلاق الثورة الصناعية. ويعود استخدام الفولاذ على نطاقٍ واسعٍ، منذ القرن السابع عشر، لخصائصه الاستثنائية التي لا تتوفر في الخشب مثل: القوة، والصلابة، والمرونة، ومقاومة التآكل. والتي تجعله مناسبًا للكثير من التطبيقات، كبناء المنازل والجسور، وصناعة السيارات والطائرات وأبراج الطاقة الكهربائية وأنابيب الغاز الطبيعي، وغيرها من الأشياء والأجهزة التي أصبحت جزءًا من حياتنا اليومية.
تصنيع الفولاذ
يُعد الفولاذ من السبائك. والسبيكة هي خليط من عنصرين كيميائيين أو أكثر، على أن يكون أحدها معدنًا. ويتكون الفولاذ النقي من الحديد والكربون؛ لأن الحديد بمفرده ليس قويًا جدًّا. لكن التركيز المنخفض للكربون بأقل من 1 في المائة في هذا الخليط، يمنح الفولاذ خصائصه المهمة. ويتم الحصول عادة على الكربون في الفولاذ من الفحم. وتحتوي سبائك الفولاذ الأخرى، بالإضافة إلى الكربون، على خليط من المنغنيز وغيره بنسب مختلفة من أجل التلاعب بخصائصه، مثل قابليته للتصلب، وعدم التآكل، والمقاومة، والقوة، والتشكيل. والحال أن وسائل تصنيع الفولاذ تطورت بشكل ملحوظ منذ بداية الإنتاج الصناعي وحتى الآن. والعملية السائدة هي تصنيع الفولاذ من خام الحديد، الذي يتكون في معظمه من أكسيد الحديد، وذلك عن طريق تسخينه بالكربون في أفران الصهر عند درجة حرارة 1600 درجة مئوية. وينتج عن هذه العملية ثاني أكسيد الكربون كمنتج ثانوي. وكل طن يتم تصنيعه من الفولاذ يطلق طَنَّين (2 طن) من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون.
وهناك عدة أنواع من الفولاذ يتم تصنيعها طبقًا لمتطلبات استخدامها، وأكثرها استخدامًا هو الفولاذ الكربوني(Carbon Steels)حيث يشكل نسبة 90 % من الإنتاج العالمي للفولاذ. (iv) وللحصول على الأنواع الأخرى، كالفولاذ السبائكي (Alloy steel) أو الفولاذ المقاوم للصدأ (Stainless Steel) يتم دمج الفولاذ الكربوني مع عنصر أو أكثر من عناصر السبائك الأخرى مثل المنغنيز والسيليكون والنيكل والتيتانيوم والنحاس والكروم والألمنيوم والتنغستن والفانديوم. وتضاف هذه المعادن بنسب متفاوتة لإنتاج خصائص لا توجد في الفولاذ الكربوني. (v) وكمثال على ذلك فإن إضافة مقدار 5 % من النيكل سوف يزيد في قوة الفولاذ 12 % ويصبح أكثر مقاومة للتآكل.(vi)
التحليل الكهربائي للأكسيد المنصهر
هناك تقنية حديثة واعدة للتخفيف من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في صناعة الفولاذ، وإنتاج المعادن الخالية من الكربون تعرف باسم “التحليل الكهربائي للأكسيد المنصهر”(vii). وهي تقنية كهروكيميائية خالية من الكربون يمكن من خلالها إنتاج المعدن في الحالة السائلة، وإنتاج غاز الأكسجين من الأكسيد الذي يمثل خام التغذية. (viii) والجدير بالذكر هنا أن هذه التقنية استُلهمت من أبحاثٍ حول تقنيات فضائية ممكنة لتوليد الأكسجين خارج كوكب الأرض. وقد نُشر في هذا الصدد ورقة علمية في مجلة نيتشر بعنوان “مادة مِصعَد جديدة لتطور الأكسجين في التحليل الكهربائي للأكسيد المنصهر”( ix) قام بإعدادها أنطوان ألانور ودونالد ساداوي، من قسم علم المواد وهندستها في جامعة (MIT) وغيرهما (x). يذكر فيها سادواي أن فكرة هذه الطريقة الجديدة نشأت عندما حصل على منحة من وكالة ناسا للبحث عن تقنية لإنتاج الأكسجين على سطح القمر للمساعدة في بناء القواعد القمرية المستقبلية. ووجد سادواي أن التحليل الكهربائي للأكسيد المنصهر ينتج الأكسجين من التربة القمرية، وذلك عن طريق أكسيد الحديد.
وتم بالفعل اختبار العملية باستخدام تربة شبيهة بتربة القمر حصلوا عليها من حفرة نيزك بارينجر في أريزونا (Meteor Crater)، تحتوي على أكسيد الحديد ناتج عن تأثير نيزك من الحديد والنيكل منذ حوالي خمسين ألف سنة(xi). وأنتجت العملية الفولاذ كمنتج ثانوي(xii). إن المادة المستخدمة في المِصعد (الأنود) المذكور هي معدن الإريديوم (Iridium)، وهو عنصر كيميائي ينتمي إلى عائلة البلاتين، وكثافته عالية جدًّا تساوي (22562) كجم لكل متر مكعب، وصلابته عالية ومقاوم للتآكل، ودرجة انصهاره (2446) درجة مئوية(xiii). ولهذا السبب يُعد مناسبًا لتطبيقات مهمة جدًّا. كما تم تصنيع المتر المعياري من سبيكة البلاتين والإريديوم بنسبة 90 % من البلاتين و10 % من الإريديوم(xiv). فأكسيد الإريديوم لا يتشكل عند درجة الحرارة العالية، وهذا يعني أنه سوف يظل محافظًا على خصائصه ويقاوم التآكل الذي تسببه الأكسدة أثناء عملية التحليل الكهربائي.
لكن هذه العملية غير فعالة ولا تنتج الفولاذ بكميات كبيرة بسبب أن الإريديوم باهظ التكلفة لأنه من العناصر النادرة، ونسبته (0.4) جزء في المليار من القشرة الأرضية فقط(xv). لكنها أرست نهجًا جديدًا للتفتيش عن بديل للإريديوم. لا بدّ إذًا من البحث عن مادة مِصعدٍ أخرى تقاوم درجة حرارة تصل إلى حوالي 1600 درجة مئوية، ولا تتأثر بالأكسجين الذي تنتجه العملية. فالأكسجين سريع التفاعل، ومعظم المعادن تتآكل في مثل هذه البيئة القاسية. وبعد المزيد من البحث تم اختيار سبيكة معدنية رخيصة في مِصعَد “التحليل الكهربائي للأكسيد المنصهر” بدلًا من الإريديوم. وتبين أن سبائك الحديد والكروم مثالية لمقاومة الأكسدة ودرجة الحرارة العالية معًا. بالإضافة إلى أنه لن تكون لذوبان المصعد (Anodic Dissolution)، إذا حدث، نتائج سلبية تلوث الحديد بالشوائب، كما هي العادة. على العكس من ذلك، فإنه مفيدٌ جدًّا للحديد؛ ذلك أن الكروم يعمل على تقليل أكسدة الحديد. وعند تصنيع الفولاذ المقاوم للصدأ بإضافة الكروم، نحصل على فولاذ بنقاوة استثنائية وخالٍ من الشوائب. ويرجع استقرار السبيكة المكونة للمصعد إلى تكوين محلول صلب موصل إلكترونيًا من أكسيد الكروم وأكسيد الألمنيوم، الذي كان مصدره الإلكتروليت أثناء عملية التحليل الكهربائي.
إنتاج الفولاذ بالهيدروجين
تحاول الشركات الأوروبية المنتجة للفولاذ تغيير طريقة التصنيع المتبعة من خلال عدد من المشاريع التجريبية ومعاهد الأبحاث بهدف تخفيض الانبعاثات الكربونية، بشكل عام، في الاتحاد الأوروبي من 80 إلى 90 % بحلول عام 2050. يدفع ذلك إلى تطوير تقنيات جديدة في صناعة الفولاذ عن طريق استخدام الهيدروجين الصديق للبيئة في إنتاجه. وهذا بدوره يتفاعل مع الأكسجين الموجود في خام الحديد لينتج بخار الماء بدلًا من ثاني أكسيد الكربون. فالهيدروجين يتفاعل مع أكسيد الحديد بطريقة مشابهة لأول أكسيد الكربون. وهذا يعني إنتاج الفولاذ دون وجود انبعاثات كربونية على الإطلاق. بناء على ذلك من المتوقع أن نشهد في المستقبل القريب العديد من الشركات التي تعتمد تقنية الهيدروجين في إنتاج الفولاذ(xvi).
مشاريع واعدة
هناك مشاريع واعدة لتحقيق هذا الحلم في إنتاج فولاذ صديق للبيئة بكميات كبيرة للإنتاج التجاري. وتُبذل في هذا الخصوص جهودٌ ضخمةٌ، خاصةً في أوروبا لجعل هذه التقنية حقيقة تجارية(xvii). فقد موّل الاتحاد الأوروبي مثلا مشروع إتش تو فيوتشر (H2FUTURE)، الذي يهدف إلى توليد هيدروجين صديق للبيئة من مصادر الطاقة المتجددة لاستخدامه في صناعة الفولاذ(xviii). وكانت هناك مبادرة واعدة، في عام 2016، عندما تعاونت الشركات السويدية المتخصصة في مجال تصنيع الفولاذ والتعدين وإنتاج الطاقة (SSAB)، (LKAB) (Vattenfall) لإنشاء هيبريت (HYBRIT) (xix)، لتصنيع الفولاذ باستخدام الهيدروجين وتوليد بخار الماء بدلًا من ثاني أكسيد الكربون – وهو مشروع مشترك يسعى إلى إحداث تقنيات جديدة في صناعة فولاذ صديق للبيئة دون وجود انبعاثات كربونية- وقد بدأت أعمال بناء المصنع التجريبي في عام 2018، في مدينة لوليا السويدية. وسوف تستمر المرحلة التجريبية في هذا المشروع البحثي حتى عام 2024، بعد ذلك ستليها مرحلة العرض التجاري حتى عام 2035. وتلحظ خطط هذا المشروع الضخم الحصول على فولاذ دون انبعاثات كربونية بحلول ذلك التاريخ (xx).
تدوير الفولاذ
بالإضافة إلى ما تقدم من إنتاج نظيفٍ للفولاذ، هناك مسألة في غاية الأهمية هي تدوير الفولاذ التالف بدل أن ينتهي به المطاف إلى مكب النفايات التي تدمر البيئة. فمع النمو المتزايد للاقتصاد الأخضر وريادة الأعمال الخضراء، في السنوات القليلة الماضية، ازدهرت ظاهرة التدوير. إضافة إلى أن تقنية إعادة تدوير الفولاذ سوف تساهم في تقليل الضغط العالمي المتزايد على الفولاذ، مما يعني تقليل عمليات التعدين التي تدمّر البيئة الطبيعية للكائنات الحية حيث يتم استخراج خام الحديد المكون الرئيس للفولاذ. ومن المحتمل أيضًا أن ترتفع المخزونات العالمية من الفولاذ التالف القابل لإعادة التدوير في العقود القادمة لأسباب عديدة سنأتي على ذكر بعضها لاحقًا. ومن المتوقع أن يقلل ذلك الحاجة إلى الإنتاج الأولي للفولاذ إلى ما يقرب من الصفر في الثلاثين السنة القادمة، وهذا يعني تخفيض الانبعاثات الكربونية بشكل كبير جدًّا والمحافظة على البيئة والتنوع البيولوجي. ومن المعروف أن أفران القوس الكهربائي (EAF) المستخدمة لإعادة تدوير الفولاذ هي أكثر كفاءة بكثير في استخدام الطاقة من أفران الصهر التي تنتج فولاذًا جديدًا من خام الحديد، حيث تصل نسبة تخفيض الانبعاثات الكربونية %75. وإذا كانت مصادر الطاقة المستخدمة متجددة فإن هذه النسبة ستصل تقريبًا إلى الصفر. وعادة ما يكون الفولاذ المعاد تدويره ذي جودة أقل، وقد لا يكون مناسبًا للتصنيع. إلا أن الخصائص المغناطيسية للفولاذ وسهولة الفصل المغناطيسي (Magnetic Separation) تمكن العلماء من إزالة الشوائب من الفولاذ المعاد تدويره ليتم معالجته بعد ذلك بسهولة ليمتلك جودة نفس الفولاذ الأولي(xxi).
الفولاذ وتقنية النانو
تقدم تقنية النانو حلولًا واعدة في التطبيقات المستقبلية المختلفة. فمن الممكن هندسة الفولاذ على المقياس النانوي لتصل قوته إلى عشرة أضعاف الفولاذ العادي وأكثر مقاومة للتآكل وأقل كثافة، وهذا سوف يفتح الباب واسعًا لتطبيقات جديدة في البناء الثقيل كالجسور، وصناعة السيارات والطائرات لتكون أخف وزنًا وبالتالي أكثر كفاءة في استهلاك الوقود. كما أن استخدام هذا النوع من الفولاذ المعالج بتقنية النانو سيجعل العمر الزمني أطول للتطبيقات المعتمدة عليه(xxii).
بدائل الفولاذ
وكما أسلفنا سابقًا، أن إيجاد بدائل للفولاذ صديقة للبيئة سيسهم في الحد من الانبعاثات. فتقنية النانو تقدم مادة واعدة تسمى أنابيب الكربون النانوية (Carbon Nanotubes)، وهي شبكات فائقة القوة ذات شكل سداسي تتكون من ذرات الكربون على المقياس النانوي. فهذه المادة تمتلك خصائص استثنائية مميزة وقوة عالية جدًّا تتفوق على الفولاذ بعشرات المرات. كما أن كثافتها منخفضة جدًّا مقارنة بالفولاذ، حيث تبلغ سدس كثافة الفولاذ. وهذه الخصائص تجعل منها مناسبة لتطبيقات عديدة جدًّا تتطلب قوة كبيرة مثل ناطحات السحاب العالية، التي تتكون من مئات الطوابق، أو الجسور. ونظرًا لكثافتها المنخفضة فإن الطائرات والسيارات المستقبلية ستكون أكثر قوة وكتلتها منخفضة أيضًا، فتخيل أن سيارة مصنوعة من الفولاذ كتلتها آلاف من الكيلوجرامات سوف تنخفض كتلتها إلى مئات من الكيلوجرامات إذا تم تصنيعها بأنابيب الكربون النانوية! هذه المادة إذا استخدمت بديلًا للفولاذ سوف تقلل من وزن السيارات، مما يجعلها أكثر كفاءة في استخدام الوقود. وبهذه الطريقة سوف تساهم أنابيب الكربون النانوية في تقليل استخدام الطاقة على جميع الصعّد. كما أن حلم العلماء بوجود مصعد فضائي بين الأرض والفضاء الخارجي قد تجدد نتيجة وجود هذه المادة القوية، وعلى هذا سوف تدخل أنابيب الكربون النانوية في تطبيقات صناعية عديدة لا حدود لها في المستقبل حيث لا يستطيع الفولاذ الحالي القيام بها، خاصة أن تقنية النانو تشهد تطورًا سريعًا خلال هذا القرن.
والحال أن العمل ما زال مستمرًا في الحصول على فولاذ صديق للبيئة دون وجود بصمة كربونية. وبالتأكيد سوف تكون له آثار إيجابية هائلة في المستقبل على جميع الأصعده. وستعتبر الأجيال المقبلة أن هذا الفولاذ كان هدية جميلة قدمها علماء المواد وهندستها في جيلنا إلى كوكب الأرض.