الترانزستور

الاختراع الأهم في القرن العشرين

م. عفراء محمد الهندسة الكهربائية – جامعة دمشق – سوريا

يعتقد الكثير من مؤرخي العلوم بأن الترانزستور هو أهم اختراع في القرن العشرين، فلا يمكن تخيل أي جهاز إلكتروني حديث يعمل بدونه. خذ أقرب جهاز لك وستجد تلك الدارات الكهربائية والصناديق السوداء الصغيرة المصنوعة من أشباه الموصلات، التي غيرت الحياة الإنسانية خلال المائة عام السابقة. يتم تصنيع الترانزستور من أشباه الموصلات، وهي تقع في منطقة وسطى بين المواد الموصلة للكهرباء مثل النحاس، والمواد العازلة للكهرباء مثل الزجاج. ويعتبر السيليكون من أكثر المواد التي تُستخدم في هذه الصناعة ويأتي بعده الجرمانيوم والغاليوم. تعمل أشباه الموصلات كأداة لتمرير الكهرباء باتجاه واحد، وبالإمكان إضافة مواد لها للتحكم في خصائصها، لذلك استطاعت الشركات تصنيع الإلكترونيات الحديثة بأحجام صغيرة وكفاءة عالية في استهلاك الطاقة، مثل الجوال القادر على عمل مليارات العمليات الحسابية في اليوم ببطارية صغيرة، والساعة الإلكترونية التي تحمل في طياتها كل ما تتخيل من ميزات، وسماعة الرأس الصغيرة القادرة على عزل الأصوات بفضل معالج بحجم رأس الدبوس. 

تاريخ أشباه الموصلات:

يمكن إرجاع تاريخ اكتشاف أشباه الموصلات إلى القرن التاسع عشر، أي قبل 200 سنة تقريبًا. لم تكن هناك نية لاختراع أشباه الموصلات في ذلك الوقت لصناعة جوالات وكمبيوترات وإلكترونيات متعددة، وإنما كان الباحثون يريدون دراسة خصائص المواد الكهربائية وتأثير العوامل المختلفة على التوصيل الكهربائي بأدواتهم البسيطة، وكان أول هؤلاء العلماء هو الألماني توماس يوهان (Thomas Johann)، فعبر دراسته للخواص الكهربائية للمعادن، أراد أن يبحث تأثير الحرارة على هذه الخواص، وهل الحرارة تزيد التوصيل الكهربائي للمعدن أم تقلله ؟، اكتشف أن الحرارة لها تأثيرها بزيادة التوصيل، بل تؤثر كذلك على مغناطيسية المعدن، وقام بنشر تجاربه وتوثيقها في عام1281م، وأوضح بأننا نستطيع التحكم في اتجاه الكهرباء في المعادن عبر التلاعب بالبيئة المحيطة في المعدن مثل درجة الحرارة.

بعد سنوات من ذلك، استنبط مايكل فاراداي (Michael Faraday) من تجربة أجراها في 1833 م، أن المقاومة الكهربائية لكبريتيد الفضة تقل عندما يتم تسخينه، وهذا يتعارض مع معدن آخر وهو النحاس، مما أضاف فكرة جديدة بأن الحرارة ونوع المعدن عاملان حاسمان في تحديد الصفات الكهربائية للموصلات. أما إلكسندر ادمون بيكريل (Alexandre- Edmond) فقد أضاف عاملاً جديدًا وهو الضوء، عبر تجربة أجراها على توصيل المواد الصلبة عام 1839، وهو ما يُسمى بتأثير الخلايا الضوئية، ثم أضيف لها تأثير الحقل المغناطيسي على التوصيل الكهربائي عام 1878م.

استمر البحث العلمي يتطور حول هذا الموضوع، وتسابق الباحثون لتوثيق تأثير مختلف العوامل المؤثرة على التوصيل الكهربائي في المعادن، ولكن هذه الاكتشافات كانت تتم في ظل ظروف نظرية مبهمة وغير معروفة، حيث إن طبيعة الذرة والإلكترونات والبروتونات لم تُكتشف بعد، وهي نظريات تطورت في النصف الأول من القرن العشرين، وعندما اكتُشِف الإلكترون على يد طومسون في عام 1897، صيغت أول نظرية للنقل الإلكتروني في المواد الصلبة، وصُنِّفت المواد إلى موصلة، عوازل، ومواد شبه موصلة (موصلات متغيرة)، حيث شرح الباحث بلوخ نظرية حركة الإلكترونات عام 1928م، وأكد خلال الصياغة النظرية بأن سبب الطبيعة المتغيرة لأشباه الموصلات تُعزى إلى الشوائب الموجودة بداخلها.

كان الجو العلمي العام يستفيد من دراسة تأثير العوامل المختلفة على التوصيل الكهربائي، بتحويلها إلى أدوات لخدمة الناس وتسهيل حياتهم وخاصة التلفون والراديو، حيث تم اختراع الصمام الثلاثي الذي اعتمد في صناعته على أشباه الموصلات بشكل كامل وباستخدام مواد مختلفة، وله أنواع كثيرة، إلا أن فيه الكثير من العيوب التي أرادت الشركات التخلص منها.

لقد كان تحديًا كبيرًا أن تقوم بصناعة شبه موصل من المواد الصلبة وتُلغِي استخدام الصمام الثلاثي، إلى أن جاءت النقلة النوعية مع الاختراع الأعظم وهو الترانزستور الصلب، فقد كانت الأجهزة تعتمد على الصمامات الكبيرة الثلاثية ذات الحجم الكبير والكفاءة القليلة والتكلفة العالية، وبعد اختراع الترانزستور على يد ثلاثة علماء، وهم جون باردين ووالتر هاوسر وويليام شوكلي في شركة AT&T Bell Telephone عام 1947م، دخل العالم في ذلك العام في حقبة الإلكترونيات المصنوعة من أشباه الموصلات ذات الأحجام الصغيرة والقابلة للنقل والحمل من قبل المستخدم العادي. وأصبحت العمليات الصناعية الميكانيكية تُستبدل بالترانزستور للتحكم بها. كان يومًا مصيريًا وقد أخبر العالم برادين أصدقاءه في ذلك اليوم بأنه قام بـ ” أهم تجربة في حياته على الإطلاق”. واجه الترانزستور في بداياته بعض الصعوبات، وكان يُسمى ترانزستور النقطة الاتصالية، ولكن العمليات التحسينية رفعت من كفاءته للحد المرغوب به، وتم اختراع أنواع أخرى من الترانزستورات فيما بعد، وأعطت الشركة صاحبة براءة الاختراع أحقية الإنتاج للعديد من الشركات بترخيص منها لإنتاج سماعات الأذن والمولدات وأجهزة توجيه الهاتف.

في عام 1947م، في نهاية ديسمبر، بعد أسبوعين فقط من النجاح الأولي لترانزستور النقطة الاتصالية، سافر الباحث شوكلي إلى شيكاغو لحضور الاجتماع السنوي للجمعية الفيزيائية الأمريكية. في ليلة رأس السنة، بدأ في تصميم ترانزستور خاص به ومطور عن النسخة السابقة، وفي غضون ثلاثة أيام، كتب نحو 30 صفحة من الملاحظات. وبحلول نهاية الشهر، كان لديه التصميم الأساسي لما سيُعرف باسم الترانزستور الثنائي القطب، أو BJT، الذي سيحل محل ترانزستور النقطة الاتصالية ويسود كترانزستور رئيس حتى نهاية السبعينيات من القرن الماضي.

استند ترانزستور الثنائي القطب “BJT” إلى قناعة شوكلي بأن الشحنات يمكن أن تتدفق عبر شبه الموصلات الحجمية بدلًا من أن تكون عبر طبقة رقيقة على سطحها. كان الجهاز يتكون من ثلاث طبقات شبه موصلة، مثل الساندويتش: مصدر الإشارة، والقاعدة في الوسط، والمجمع.

كان الترانزستور ثنائي المحاور (BJT) أكثر صلابة وموثوقية من ناحية الأداء من الترانزستور ذي الاتصال النقطي، وهذه الميزات قد وضعت أُسسًا عالية للكفاءة، انتقل شوكلي بعدها إلى بالو ألتو وأسس عام 1956م شركة قادت التحول من الاعتماد على الجرمانيوم إلى استخدام السيليكون في أشباه الموصلات، عبر تأسيس شركة فايرشايلد سيميكونداكتر ثم شركة إنتل، وأطلق اسم وادي السيليكون على ذلك المكان.

وفي عام 1958م اختُرِعت الدوائر الكهربائية المتكاملة (Integrated Circuits) وتختصر بالحرفين (IC)، وهي تلك المربعات السوداء التي نجدها في أي جهاز إلكتروني يحيط بنا، ولها اسم آخر وهو الرقائق الإلكترونية (Microchips). ومن المحتمل حاليًا أن تقرأ هذا المقال عبر جوال يعمل بمعالج يحتوي على رقاقة إلكترونية بها مليارات الترانزستورات التي يبلغ حجم الواحد منها 10 نانو ميتر، وهي مساحة في غاية الصغر، ويتم تصنيع هذه الدوائر بأعلى التقنيات في دول قليلة في العالم.

Share This