أشباه الموصلات

من نوع II-VI

د. محمد التركستاني الفيزياء – جامعة أم القرى – السعودية

من خلال تعاملنا مع المواد في حياتنا اليومية نعلم أنه يمكن تصنيفها من ناحية قدرتها على توصيل الكهرباء إلى مواد “موصلة” للكهرباء مثل النحاس والذهب مثلا، ومواد أخرى لا توصل الكهرباء، وبالتالي تُسمى موادًا “عازلة” مثل البلاستيك والمطاط. إلا أن هناك نوعا ثالثًا من المواد، نتعامل معه بشكل دائم، ولكن ربما لا نعلم عن خواصه ومميزاته الكهربائية. هذا النوع في الواقع له خواص غريبة نوعًا ما، حيث إنه لا يكون موصلًا جيدًا للكهرباء مثل النحاس، وفي المقابل لا يعزل الكهرباء بشكل فعَّال مثل المطاط، إنما يتصرف بشكل متوسط بين الموصلات والعوازل. وهذا النوع من المواد لا يمكن تصنيفه ا مع الموصلات ولا مع العوازل، فقد قرر العلماء تسميتهُ “أشباه الموصلات”. ويظهر من المسمى المختار أن هذه المواد تتصرف بشكل يمنعنا من اعتبارها تابعة لأي من القسمين الأساسيين (الموصلات والعوازل). ولكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: ما السبب العلمي الذي يجعل المواد توصل أو تعزل الكهرباء أساسا؟ هذا السؤال لو فكرنا فيه لوجدنا أن قدرة المواد على توصيل الكهرباء فيها قدر كبير من الغرابة حيث إن – كما هو معلوم – جميع الأجسام في هذا الكون مكونة من ذرات، والذرات في الحقيقة ليست إلا نواة تحتوي على بروتونان ذات شحنة كهربائية موجبة وأيضا نيوترونات متعادلة كهربائيا، ويوجد حول هذه النواة جسيمات أخرى نُسميها الإلكترونات وتكون ذات شحنة كهربائية سالبة، أي أن جميع الأجسام في هذا الكون دون استثناء ما هي إلا تجمع من الجسيمات الصغيرة المشحونة بشحنات كهربائية، وبالتالي يمكن أن نُعيد صياغة السؤال السابق كما يلي: لماذا يمكن للتيار الكهربائي (الذي هو ببساطة سيل من الإلكترونات) المرور في النحاس ولكن لا يمكنهُ المرور في المطاط على الرغم من أن كلا المادتين مكونة من نفس الجسيمات (بروتونات ونيوترونات وإلكترونات)؟ يكمن السبب في قدرة نواة كل ذرة في التمسك بإلكتروناتها، بمعنى أن بعض الإلكترونات في ذرات النحاس مثلا ترتبط بشكل ضعيف نسبيا مع أنويتها، وبالتالي يمكن أن تهجر هذه الإلكترونات ذراتها (وتصبح إلكترونات حرة) إذا أأُعطِيت قدرًا بسيطًا من الطاقة الإضافية، بينما الإلكترونات في الذرات المكونة لمادة المطاط تكون مرتبطة بشكل قوي مع أنويتها مما يمنع هذه الإلكترونات من ترك الأنوية عند منحها نفس مقدار الطاقة التي مكّنت إلكترونات الموصلات من ترك أنويتها، وبالتالي نشعر نحن بهذا السيل من الإلكترونات “الحرة” في النحاس ونُسميه “التيار الكهربائي”، بينما لا نجد هذا السيل من الإلكترونات في المطاط وبالتالي نُصنف المطاط بأنه عازل.

من خلال تعاملنا مع المواد في حياتنا اليومية نعلم أنه يمكن تصنيفها من ناحية قدرتها على توصيل الكهرباء إلى مواد “موصلة” للكهرباء مثل النحاس والذهب مثلا، ومواد أخرى لا توصل الكهرباء، وبالتالي تُسمى موادًا “عازلة” مثل البلاستيك والمطاط. إلا أعند النظر إلى أشباه الموصلات، نجد أن الإلكترونات تكون ذات ارتباط متوسط نسبيًا بأنويتها، أي أن إلكترونات أشباه الموصلات ليست حرة مثل إلكترونات النحاس، وفي المقابل ليست مرتبطة بشدة مثل إلكترونات المطاط، وبالتالي إذا منحنا إلكترونات أشباه الموصلات طاقة إضافية كافية فإن هذه المواد تزداد قدرتها على توصيل التيار الكهربائي (وتصبح كأنها موصلة)، بينما إذا حجبنا أي طاقات إضافية عن أشباه الموصلات فإنها تقيد إلكتروناتها وتصبح مادة عازلة. يُعد مفهوم “الطاقة الإضافية” حجر الزاوية لفهم تصرفات وتطبيقات أشباه الموصلات في جميع المجالات، ولتبسيط الصورة، يمكن أن نعتبر أنّ شِبه الموصل هو عازل كهربائي عادة إلا إذا منحناه طاقة خارجية (وهي التي أسميتها “طاقة إضافية”). لاحظ أن هذه “الطاقة الإضافية” قد تكون على شكل: حرارة، ضوء، إشعاع نووي.

نظرًا لوجود هذه الخاصية في أشباه الموصلات، قام العلماء بمحاولة استغلالها بعدة طرق ذكية جدا، فمثلا يمكن استخدام أشباه الموصلات كمجسات وكواشف لوجود الحرارة، فنقيس تغير قدرتها على توصيل الكهرباء مع تغير درجة الحرارة حول هذه المادة، أي أننا سنعرف ببساطة بأن درجة الحرارة ارتفعت حول هذه المادة كلما أصبحت المادة أكثر توصيلة للكهرباء، وبنفس الطريقة يمكن استغلال أشباه الموصلات لمعرفة وجود إشعاعات نووية في منطقة ما (تزيد التوصيلية الكهربائية بزيادة “الطاقة الإضافية” الممنوحة لشبه الموصل عن طريق الإشعاع النووي)، بل إنه يمكن أخذ نفس الفكرة لمرحلة أكبر حيث نحول الطاقة المخزنة في ضوء الشمس إلى كهرباء بشكل مباشر (وهذه هي فكرة الخلايا الشمسية بكل بساطة). بعض العناصر الكيميائية بصورتها النقية تُصنف على أنها أشباه الموصلات بطبيعتها (أي بدون أن تتفاعل وترتبط بغيرها من العناصر) مثل عنصر الجرمانيوم وعنصر السيليكون. ويُلاحظ أن هذه العناصر النقية التي تتمتع بهذه الخواص توجد في المجموعة الرابعة في الجدول الدوري للعناصر الكيميائية (كل عمود في الجدول الدوري يُسمى “مجموعة”). في المقابل، بعض العناصر الكيميائية الأخرى لا تكتسب صفات أشباه الموصلات إلا عند تفاعلها وارتباطها كيميائيا بعناصر أخرى. على سبيل المثال، العناصر من المجموعة الثالثة (III) يمكن أن تكوّن أشباه موصلات إذا ارتبطت بعناصر من المجموعة الخامسة (V) وبالتالي يسمى هذا الصنف من أشباه الموصلات بـ III-V semiconductors، وبالمثل العناصر من المجموعة الثانية (II) يمكن أن تكوّن أشباه موصلات إذا ارتبطت بعناصر من المجموعة السادسة (VI) وبالتالي نُسمي هذا الصنف بـ II-VI semiconductors، إشارةً إلى المجموعات الكيميائية المحتوية على العناصر المكونة لكل شِبه موصل كما تم ذكره سابقًا. وهناك أسباب علمية تفسر تغيّر قدرة هذه المركبات الكيمائية على اكتساب صفات أشباه الموصلات، ولكن لا يتسع المجال في هذا المقال لسرد هذه التفاصيل، بل سنكتفي بالتعرف بشكل مختصر على بعص أنواع أشباه الموصلات من نوع II-VI ومجالات تطبيقاتها التي تمس حياتنا بشكل مباشر.

من أهم خصائص هذا النوع من أشباه الموصلات (II-VI) هو المدى الواسع من مقدار “الطاقة الإضافية” التي يحتاجها شبه الموصل لرفع قدرته على توصيل الكهرباء، بمعنى أنه يمكن لبعض أصناف أشباه الموصلات من نوع II-VI أن تحرر إلكتروناتها (وبالتالي زيادة التوصيلية الكهربائية) عن طريق امتصاص قدر ضئيل جدًا من الطاقة، بينما تحتاج بعض الأصناف الأخرى إلى طاقة كبيرة نسبيًا لتحرير إلكتروناتها. فعلى سبيل المثال، مركب تيلوريد الزئبق HgTe (لاحظ أن الزئبق من المجموعة الكيمائية II بينما التيلوريوم من المجموعة VI) يمكنه أن يحرر إلكتروناته حتى عند تعريضه لأشعة ذات طاقة ضعيفة مثل الأشعة تحت الحمراء، في المقابل مركب كبريت الزنك ZnS لا يمكنه تحرير إلكتروناته إلا عند تعريضه لأشعة طاقتها تفوق جميع الطاقات الموجودة في الضوء المرئي، وتتفاوت بقية الأصناف الأخرى داخل هذا المدى الواسع من “الطاقات الإضافية” التي تستجيب لها أشباه الموصلات II-VI . من ناحية أخرى، يمكن أن نصنع أشباه موصلات بأي “طاقة إضافية” نرغبها عن طريق تفاعل 3 عناصر من نفس المجموعتين II و VI ولكن بنسب معينة، فمثلا يمكن تركيب عناصر الزئبق والكادميوم والتيلوريوم CdHgTe، والتحكم في مقدار “الطاقة الإضافية” اللازمة لتحرير إلكترونات المركب الناتج، وذلك عن طريق تغيير نسبة الزئبق إلى نسبة الكادميوم في هذا المركب. هذه الخاصية منحت أشباه الموصلات II-VI مرونة عالية وميزة عظيمة بحيث تُمكِّن العلماء والمهندسين من تصنيع الكثير من المنتجات عن طريق استخدام هذا النوع من أشباه الموصلات.

لعل أحد أهم التطبيقات لهذا النوع من أشباه الموصلات استخدامها في تصنيع الخلايا الشمسية لتوليد الطاقة الكهربائية من ضوء الشمس. أشهر هذه الأصناف هو مركب تيلوريد الكادميوم CdTe، الذي لفت انتباه العلماء والمصنعين نظرًا لسهولة تصنيعه وانخفاض تكلفة إنتاجه مقارنة بالتقنيات السائدة. هذا المركب يُستخدم حاليا في تصنيع الخلايا الشمسية في شركة First Solar، وهي شركة أمريكية تعد أحد أكبر 5 منتجين للخلايا الشمسية في العالم. أيضًا، هناك بعض أشباه الموصلات التي يرتبط فيها الأكسجين (وهو عنصر من المجموعة VI) مع عناصر من المجموعة II مثل أكسيد الزنك ZnO، الذي يلعب دروًا محوريًا في تصنيع الخلايا الشمسية بمختلف تقنياتها، حيث يمكن لهذا المركب أن يوصل التيار الكهربائي بشكل ممتاز مع كونه مركبًا شفافا يمرر الضوء المرئي بكفاءة عالية، بمعنى أنه يمكن استخدام ZnO كموصل شفاف يسمح لضوء الشمس بالنفاذ خلاله كما يسمح أيضًا بتوصيل الكهرباء الناتجة من الخلية الشمسية! هذه الخاصية مهمة جدًا عند تصنيع الخلايا الشمسية.

تدخل أشباه الموصلات من نوع II-VI في تصنيع مجموعة متنوعة من الأجهزة الإلكترونية الضوئية، مثل الثنائيات الباعثة للضوء (LED)، التي تُستخدم في الشاشات وكذلك في الإضاءة. على سبيل المثال، يتم استخدام سيلينيد الزنك ZnSe وأكسيد الزنك ZnO في تصنيع مصابيح تُنتج ضوءًا بألوان مختلفة. وفي مجال آخر لا يقل أهمية عما سبق ذكره، نجد أن أشباه الموصلات من نوع II-VI تُستخدم أيضًا في أجهزة الكواشف مثل تلك الخاصة بالكشف عن الإشعاع، كالمستخدمة في التصوير الطبي وتجارب الفيزياء النووية. فعلى سبيل المثال، يُستخدم مركب تيلوريد الكادميوم CdTe ومركب كادميوم تيلوريد الزنك CdZnTe بشكل شائع في كاشفات الأشعة السينية وأشعة جاما. بل إن بعض هذه الأنواع تدخل أيضا في تقنية حديثة من تقنيات الكشف عن محتويات الحقائب وأغراض المسافرين في المطارات. هذه التقنية الجديدة تتميز بأمانها العالي مقارنة بالأشعة السينية التي تُستخدم عادة في أجهزة الكشف في المطارات، ويمكن لهذه التقنية أن تتعرف على نوعية ومكونات السوائل التي يحملها المسافرون في الطائرة، مما يسهل بشكل كبير الكشف عن أي سائل أو مركب قد يشكل تهديدًا على سلامة الطائرات، وبالتالي أصبح من الممكن السماح للمسافرين بحمل كميات أكبر من السوائل الآمنة، بفضل هذه التقنية. 

 ومن التطبيقات المهمة التي تدخل فيها أشباه الموصلات II-VI مجال تصنيع الأجهزة الكهروحرارية. هذا النوع من الأجهزة يقوم بتحويل الطاقة الحرارية إلى تيار كهربائي (أو العكس، أي يحول الكهرباء إلى حرارة/برودة). فعلى سبيل المثال، تيلوريد الرصاص (PbTe) وتيلوريد القصدير (SnTe) تتمتع بكفاءة كهروحرارية عالية، ولذلك تُستخدم في المولدات الكهروحرارية والمبردات. بشكل عام، تدخل أشباه الموصلات II-VI في مجموعة واسعة من التطبيقات في مختلف المجالات الأخرى التي لا يتسع المجال لذكرها في هذا المقال، ويستكشف البحث المستمر فرصًا جديدة لهذه المواد في مجالات جديدة بشكل مستمر. 

بعد معرفة كل هذه الميزات لأشباه الموصلات II-VI، هل هناك سلبيات تختص بها هذه المواد؟ الجواب: نعم، مثلها مثل جميع المركبات الكيميائية الأخرى. سأوجز في السطور القليلة القادمة بعض أهم هذه السلبيات:

السُميّة: بعض أشباه الموصلات II-VI، تحتوي على عناصر تعتبر ذات سُميّة عالية مثل الكادميوم والزئبق والرصاص، وقد تشكل خطرًا على صحة الإنسان والبيئة. أدى ذلك إلى مخاوف بشأن استخدام هذه المواد في تطبيقات مثل الخلايا الشمسية وشاشات العرض، إلا أنه تجب الإشارة إلى أن مصنَعي هذه التطبيقات يأخذون اشتراطات الحماية بكل جدية عند استخدام هذه العناصر حتى لا تتسرب للمستخدمين أو للبيئة، كما أن مقدار ضرر هذه العناصر السامة ينخفض بشكل كبير جدا عند ارتباطها بغيرها من العناصر الأخرى لتكوين أشباه الموصلات التي تحدثنا عنها، مما يقلل درجة سُميتها وتأثيرها المباشر على الإنسان والبيئة. وتظل نقطة السُميّة الخاصة بهذه المواد محل جدال في الأوساط الأكاديمية على كل حال، كما يظل العلماء مستمرين في ابتكار التقنيات التي تعزز من سلامة المستخدمين مما يساعد في استخدام هذه المواد بشكل أكثر أماناً.

التكلفة: يمكن أن تكون أشباه الموصلات II-VI في بعض الأحيان أكثر تكلفة من الأنواع الأخرى من أشباه الموصلات، مما قد يؤدي إلى الحد من استخدامها في بعض التطبيقات، لا سيما تلك التي تكون التكلفة فيها عاملاً رئيساً.

التوافر المحدود: بعض أشباه الموصلات II-VI، مثل التيلوريوم، نادرة نسبيًا مما يتسبب في رفع أسعار هذه المواد، وأيضا قد تخضع بعض العناصر لقيود التعدين والإمداد مستقبلا.  

تجدر الإشارة إلى أن الأبحاث العلمية مستمرة في سعيها لتعزيز الإيجابيات الخاصة بهذه المواد كما تسعى إلى التخلص من سلبياتها، ويبقى هذا النوع من أشباه الموصلات (أيII-VI ) يمثل جزءًا كبيرًا من الأبحاث وكذلك التطبيقات التي ترتكز عليها الكثير من التقنيات الحديثة في مجالات شتى نظير الخصائص المميزة لهذه المواد، والتي تطغى على سلبياتها.

Share This