أ.د. تركي التركي – مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية-السعودية

الأصول الوراثية النباتية وأهميتها

منذ القدم كانت علاقة الإنسان بالزراعة علاقة حياة وبقاء. ومع استئناس زراعة العديد من المحاصيل عبر العصور وتوارث بذور الأصناف ذات القيمة الغذائية والإنتاجية العالية من جيل إلى آخر أضحت «الأصول الوراثية» لهذه الأصناف ثروة لا تقدّر بثمن لكل بلد، وعامل حاسم من عوامل تحقيق الأمن الغذائي بتقدير الله عز وجل. ومن هنا تأتي أهمية المحافظة على الأصول الوراثية النباتية للمحاصيل، خصوصًا وأن التغيرات البيئية والمناخية وأنماط الزراعة وآلياتها في العصر الراهن، وإدخال العديد من الأنواع والأصناف التجارية الدخيلة على حساب الأصناف المحلية. كل ذلك ساهم بشكل مباشر أو غير مباشر فيما دعي «بالتآكل الوراثي» للأصناف المحلية النقية. وقد لاحظ العلماء في حقبة العشرينات والثلاثينات من القرن المنصرم أن بعض الأصناف من المحاصيل الهامة في العديد من بلدان العالم بدأت في الاندثار بسبب التغيرات البيئية والممارسات غير المخطط لها في أنماط وممارسات الزراعة وإدخال أصناف غير محلية بشكل اعتباطي، وهذا ما أدّى إلى تركيز الجهود نحو صيانة التنوع النباتي الوراثي وذلك بجمع الأصول الوراثية النباتية (Germplasm) وحفظها في البنوك الجينية النباتية (Botanical Gene Bank). وأصبحت هذه الممارسات الإيجابية لحفظ الأصول الوراثية النباتية من الأمور الملحّة التي تنادي بها العديد من المؤسسات الدولية المعتبرة، ومن أهمها منظمة الأغذية والزراعة (FAO)، والمجلس العالمي للأصول الوراثية النباتية (IPGRI)، والمجموعة الاستشارية العالمية للبحوث الزراعية (CGIAR).

ويقدّر عدد البنوك الجينية النباتية حاليًا بأكثر من 1500 بنك جيني نباتي موزعة في العديد من بلدان العالم (FAO, 1996). ويقدّر عدد العينات المحفوظة حاليا من الأصول الوراثية في البنوك الجينية والأماكن ذات العلاقة بأكثر من 6 ملايين عينة بذرية محفوظة خارج مواطنها الطبيعية (Ex-Situ- Conservation). وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى المعاشب النباتية (Herbaria) التي تمثّل أماكنًا لحفظ العينات النباتية الكاملة (وخصوصًا الأجزاء الخضرية وأزهارها) في صورة مجففة عادة ببيانات أسمائها العلمية والدارجة وفصائلها وأماكن وتواريخ جمعها والمعلومات ذات العلاقة، والدور البحثي الهام الذي تساهم به في تعريف وتصنيف النباتات، برية كانت أو مزروعة. ومما سبق يتبيّن الارتباط الوثيق بين البنوك الجينية والحدائق النباتية والمعاشب.

ما هو البنك الجيني (الوراثي) النباتي (Botanical Gene Bank)؟

يعرف البنك الجيني النباتي (Botanical Gene Bank) بأنه «مركز لحفظ الأصول الوراثية النباتية (Germplasms)» التي تشمل (البذور، حبوب اللقاح، الأنسجة المرستيمية الحية كالبراعم النامية القمية والطرفية، والحمض النووي). ويتم حفظ هذه الأصول الوراثية في غرف تبريد ذات درجات حرارة منخفضة، تتراوح بين 5 درجات مئوية إلى 20 درجة مئوية تحت الصفر (-20°C)، أو تحت درجات حرارية منخفضة جدًا في بعض المعاملات، تتراوح بين 170 إلى 196 تحت الصفر (-170°C to -196°C) وذلك بغية حفظ البذور الصغيرة وحبوب اللقاح والأنسجة الجنينية الحية للبراعم القمية والطرفية، والحمض النووي ، وتعرف مثل هذه المعاملات من الحفظ بالحفظ بالتبريد (Cryopreservation).

حفظ الأصول الوراثية النباتية في البنوك الجينية هي وسيلة لحفظ هذه الأصول خارج مواقعها البيئية الطبيعية. وتعتبر البذور (Seeds) من أهم أجزاء النبات التي يتم تخزينها. ولا يخفى أن أغلب سكان العالم (أكثر من 09% يعتمد على البذور بشكل مباشر أو غير مباشر كمصدر للغذاء، وكذلك كأعلاف لماشيته؛ ولذا فلا غرو أن أصبح الطلب على البذور، ذات الجودة والإنتاجية العالية، حاجة ملحة تتزايد أهميتها مع تزايد أعداد البشر).

ماهي الأهداف من إنشاء البنوك الجينية النباتية؟

يهدف العمل في البنوك الجينية النباتية إلى المحافظة على الأصول الوراثية للنباتات ذات القيمة الغذائية والاقتصادية، وتأمين وتزويد المراكز العلمية البحثية والتعليمية ومحطات التجارب والمزارعين بكميات كبيرة وكافية من البذور، وإكثار البذور في محطات التجارب الخاصة التابعة للبنوك الجينية النباتية، وتبادل توزيع الأصول الوراثية النباتية والمعلومات مع مراكز البنوك الجينية النباتية المحلية والعالمية، إضافة إلى التدريب والتعليم وعقد ورشة عمل وحلقات دراسية لإعداد كوادر وطنية مؤهلة للعمل بمراكز البنوك الجينية النباتية. وتجدر الإشارة إلى أن البنوك الجينية النباتية تقسم إلى أربع فئات مختلفة، هي – البنوك الجينية البحثية، البنوك الجينية الإقليمية، البنوك الجينية الوطنية، والبنوك الجينية العالمية.

ما هي طرق الحفظ في البنوك الجينية النباتية؟

يمكن إجمالًا تقسيم طرق الحفظ للعينات النباتية (الأصول الوراثية) إلى نمطين رئيسين:

1. المحافظة على الأصول الوراثية النباتية خارج مواطنها الطبيعية (البذور، حبوب اللقاح، الأنسجة النباتية الجنينية الحية والحمض النووي) وذلك في غرف تبريد ضمن درجات حرارة منخفضة كما سبق.
2. المحافظة على الأصول الوراثية النباتية في مواطنها الطبيعية، كالحقول الزراعية (Field Gene Bank).

وبالنسبة للمحافظة على الأصول الوراثية النباتية خارج مواقعها الطبيعية، يجب أن تكون الأصول الوراثية المحفوظة (في حالة البذور) ذات محتوى رطوبي منخفض جدًا، ويعتمد ذلك على أمد التخزين المطلوب، كما يلي:

1. في حالة التخزين لأقل من خمس سنوات (short term storage)، يكون التخزين عند درجة حرارة (5°C)، ومحتوى رطوبي للبذور لا يتجاوز 20 % (Active Collections).
2. في حالة التخزين لأقل من عشر سنوات (Medium term storage) يكون التخزين عند درجة حرارة (-10°C)، ومحتوى رطوبي للبذور لا يتجاوز 10 %(Active collections).
3. في حالة التخزين لأكثر من عشر سنوات (Long term storage) يكون التخزين عند درجة الحرارة -18) إلى -20 درجة مئوية C°)، ومحتوى رطوبي للبذور لا يتجاوز 4-6 % (Base Collections).
4. في حالة التخزين لأكثر من خمسة وعشرين عامًا، يكون التخزين عند درجة حرارة (-170 إلى-196 درجة مئوية C°)، ومحتوى رطوبي للبذور منخفض جدًا، لا يتجاوز 5 %(Base Collections).

إن حفظ البذور في الظروف القياسية كما سبق، والمتحكم بها بشكل صارم؛ تضمن بمشيئة الله تعالى وتقديره أن تحتفظ هذه البذور بحيويتها لفترات طويلة بدون أن تتلف بالإصابة بالفطريات أو غيرها من الكائنات أو عوامل التلف الأخرى. ويمكن التأكد من حيوية البذور (seed viability) قبل، وأثناء، تخزينه بعدة طرق، أهمها:

1. إنبات البذور (Seed germination)؛ حيث تعطي البذور الحية نسب إنبات عالية (تتجاوز %85، كشرط أساسي لعملية التخزين).
2. اختبار التترازوليم (Tetrazolium test)، وهو اختبار لوني يبيّن حيوية البذور عن طريق تصبغ الجنين الحي بنمط معيّن.
3. استخدام أشعه أكس (X-Ray test)، وهذه التقنية تعتمد على التصوير بأشعة إكس لإظهار التفاصيل الداخلية للبذرة (الجنين وغذاؤه) وهل هي سليمة أم حصل بها تلف (من حشرات وخلافها). وقد أظهرت كافة هذه الطرق كفاءه عالية في تقدير حيوية البذور.

المحافظة على الأصول الوراثية النباتية بالمملكة العربية السعودية

تضم المملكة العربية السعودية تنوعًا كبيرًا في المحاصيل، بتنوّع نطاقاتها ومناطقها الإدارية. وبالرغم من هذا الغنى في المحاصيل، وتوارث أصولها الوراثية منذ القدم جيلًا بعد جيل، إلا أن بعض المحاصيل المحلية الهامة في المملكة العربية السعودية بدأت تختفي من المزارع نتيجة لعدة عوامل، من أهمها الإصابات الحشرية، والإصابات بالأمراض الفطرية والفيروسية. ولعل من أشهر الآفات الحشرية سوسة النخيل الحمراء (Red Palm Weevil) التي قضت على الكثير من أصناف النخيل العالية الجودة (كالخلاص والسكري والشيشي). هذا، إضافة إلى شح المياه الجوفية، وقلة الأمطار، وزيادة الملوحة والجفاف، وقلة الأيدي العاملة، كل ذلك أسهم بشكل مباشر في تدهور الأراضي الزراعية، إضافة إلى أن الكثير من المزارعين هجروا زراعة الأصناف التقليدية المحلية، وبالتالي أصبحت هذه المحاصيل الزراعية مهددة بالزوال أو في طريقها لذلك تدريجيا، ومن هذ المحاصيل المحلية المهددة بالاندثار (على سبيل المثال): كزبرة القصيم، الدخن الأصبعي، الحندبان، البوبر (اليقطين). وتجدر الإشارة هنا إلى دور مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية (KACST)، التي سارعت منذ فترة مبكّرة إلى إنشاء المعشبة النباتية والبنك الجيني النباتي البذري الواقع بمحطه المزاحمية للأبحاث والدراسات العلمية (وقد كان لكاتب هذه المقالة شرف التأسيس وذلك في عام 1994). وقد تم في هذا الصدد جمع العديد من العينات النباتية المعشبية وذلك بعد حصرها وتصنيفها علميا إلى مجاميع نباتية مختلفه حسب القواعد العلمية المتعارف عليها دوليًا (كدراسات التصنيفية والبيئية للعائلة الرمرامية، ودراسة فلورا منطقة جازان، ودراسة فلورا جبال أجا وسلمي بمنطقة حائل)، كما تم جمع وحفظ أكثر من 900 عينة نباتية بذرية للمحاصيل الزراعية والعديد من النباتات البرية، إضافة إلى دراسات متخصصة لأشجار البن (.Coffea L) والأرز الحساوي (.Oryza sativa L).

التوصيات

1. إنشاء العديد من المراكز الوطنية للبنوك الجينية النباتية في العديد من المواقع البيئية الهامة في المملكة.
2. إنشاء مركز إقليمي للبنوك الجينية النباتية للمحافظة على الأصول الوراثية النباتية يهتم بجمع كافة المورثات النباتية بالجزيرة العربية ومنطقة الخليج العربي.
3. أهمية إنشاء الحدائق النباتية في المواقع البيئة الإستراتيجية؛ مما يسهم بشكل إيجابي (مع المعاشب النباتية والبنوك الجينية النباتية) في التعرف على العديد من خصائص النباتات (من المحاصيل المحلية والنباتات البرية) وذلك باستزراع العديد منها والمحافظة عليها وتتبع دورة حياتها وأنماط معيشتها.