أين نحن يا فاينمان؟
م. سليمان المزيد
مضت ستة عقود منذ أن قدم ريتشارد فاينمان (Richard Feynman) الأب الروحي لتقنية النانو، محاضرته الشهيرة ((ثمةَ حيِّزٌ شاسع في القاع)) (There’s plenty of room at the bottom)، التي ألقاها في ديسمبر عام 1959، خلال الاجتماع السنوي للجمعية الفيزيائية الأمريكية بمعهد كاليفورنيا للتقنية(1). لم تكن لتلقى تلك المحاضرة اهتمامًا كبيرًا في حينها لو لم تشتمل على تحديين بقيمة ألف دولار أمريكي لكلٍّ منهما، وهو ما يعادل ربع متوسط الدخل السنوي للأسرة الأمريكية في ذلك الوقت (2)، إضافةً إلى أنَّ فاينمان أحد الفيزيائيين الذين عملوا في مشروع مانهاتن الشهير مع علماء عمالقة، مثل هانز بيث (Hans Bethe)، وجوليس أوبينهايمر(3)(Juluis Oppenheimer). وما يؤكد نبوغه حصوله على جائزة نوبل للفيزياء عام 1965، مشاركةً مع الياباني سنتشيرو توموناغا (Sin-Itiro Tomonaga) والأمريكي جوليان شوينقر(Julian Schwinger)، نظير اكتشافاتهم الأساسية في كهروديناميكا الكم (Quantum Electrodynamics). وقد تمحور إنجاز فاينمان بإصداره ما يسمَّى ((مخططات فاينمان)) التي ربطت نظريّة النسبيّة الخاصة، ونظريّة الميكانيكا الكميّة. وهذا ما سهّل حساب احتمال اصطدامات وتفاعلات الجسيمات الأولية المشحونة. وبذلك قاد إلى فهم أعمق لكيفية تفاعل الجسيمات المشحونة مع الحقول الكهرومغناطيسية، وتأثير بعضهما على بعض(4).
لماذا يعد فاينمان الأب الروحي لتقنية النانو؟
يرى الآن كثير من المختصين بعد مضي تلك العقود الستة، أنَّ فاينمان هو الأب الروحي لما يسمَّى بـ« تقنية النانو»، على الرغم من أنَّ هذا المصطلح ينسب رسميًّا للعالم الياباني نوريو تانيقوتشي(Norio Taniguchi) ، الذي قام لأول مرة في عام 1974؛ أي بعد خمسة عشر عامًا من محاضرة فاينمان ((ثمة حيِّزٌ شاسع في القاع))، بتعريف تقنية النانو بأنها تقنية معالجة المواد وفصلها ودمجها وإعادة تشكيلها بواسطة ذرة واحدة أو جزيء واحد من المادة(5). خرج فاينمان عن المألوف، ونظر إلى القاع واعتبره القمة، فطرح عبر محاضرته تلك تساؤلات مثيرة حول إمكانية التحكم والتلاعب بالأشياء المتناهية الصغر. تساءل فاينمان بداية: لماذا لا يمكننا كتابة مجلدات موسوعة بريتانيكا الأربع والعشرين على رأس قلم؟ وزاد في تأملاته عندما ناقش المساحة اللازمة لكتابة جل المعرفة البشرية الموجودة في مكتبات العالم الضخمة، كمكتبة الكونجرس الأمريكيّة والمكتبة الوطنيّة الفرنسيّة وغيرهما. ووصل إلى أنها لن تتعدى اثنين ونصف متر مربع. ثم عرّج يشرح إمكانية كتابة هذا الكم الهائل من البيانات على رأس القلم، عبر تصغير حجم الخط بخمسة وعشرين ألف مرة، وكيف يمكن لنا الكتابة بذلك الصغر، ورؤية تلك الكتابة باستخدام أساليب وأدوات معروفة في ذلك الوقت، كالطباعة الحجرية (Lithography)، والمجهر الإلكتروني (Electron Microscope)، معترفًا في الوقت نفسه بالحاجة إلى التطور في تلك التقنيات والأدوات(1).وتعرف اليوم تقنية النانو بأنها التقنية التي تتعامل مع أبعاد أقل من 100 نانو متر (النانو متر يوازي 910- m)، وللمقارنة فإنَّ سماكة شعرة الإنسان تبلغ حوالي 80 ألف نانو متر(6).
حيزٌ شاسع أم كافٍ فقط؟
بيّن فاينمان سبب إضافة كلمة ((شاسع)) (Plenty) إلى عنوان محاضرته، فالقاع لا يحوي فقط حيِّزًا محدودًا، لكنّه يحوي مساحات هائلة تستوعب أكثر مما نتخيَّل. أصّل فاينمان لذلك باستخدام مفهوم مساحة السطوح ثلاثية الأبعاد وإمكانية استغلالها(1). ولتوضيح هذا المفهوم، علينا أن نتخيَّل مكعبًا طول ضلعه متر واحد، وداخله مكعب آخر طول ضلعه أقل بقليل من السابق، وداخله مكعب آخر أصغر منه وهكذا. والآن احسب مساحة سطوح هذه المكعبات من الوجهين، وقارن النتيجة بمساحة سطوح المكعب الأول! بحساب تقريبي، وجد فاينمان أنَّ مجلدًا من موسوعة بريتانيكا يمكن حفظه في كوادرليون بت (ألف ترليون أو 1015 بت)، البت (Bit) هي وحدة قياس المعلومات. وبذلك تبيّن أنّ كل ما جمعه الإنسان من معلومات على مرّ العصور، يمكن استيعابه داخل مكعب صغير عرضه نصف ملليمتر، أي ما يماثل ذرّة واحدة من الرّمل، التي لا تكاد تُرى بالعين المجردة، مستشهدًا على إمكانية احتوائه كمًّا هائلًا من المعلومات في حيّز صغير جدًّا، بما هو معلوم لدى علماء الأحياء في ذلك الوقت. فالخلية البشرية، التي لا تُرى بالعين المجردة، تحوي داخلها جل المعلومات المنظمة لحياة كائن معقَّد، مثل الإنسان وصفاته الوراثية، من تفاصيل ظاهرة كلون العين وحجمها، وصولاً إلى أدق التفاصيل الخفية كوجوب تشكل فتحة في عظمة الفك، خلال مرحلة التكوُّن في رحم الأم، لينمو داخلها عصب فيما بعد(1). ذلك الكم الهائل من المعلومات مخزن في جزء ضئيل من الخلية على شكل سلسلة طويلة من الجزيئات تسمَّى الحمض النووي (DNA)، الذي يقدِّر العلماء أنَّ كل خمسين ذرة منه تحوي مقدار بت واحد من المعلومات(7). ولكن كيف يمكننا كتابة تلك الشفرة بذلك المستوى من الصغر؟ ثم كيف يمكننا قراءة ما كتبنا؟ توقع فاينمان أن ذلك لن يكون صعبًا في حال لقي هذا الحقل مزيدًا من الاهتمام. وأشار إلى أنَّ المجهر الإلكتروني في حال تعديله وزيادة قدرته لمئة ضعف قد يؤدي الغرض، وهو ما عرّضه لبعض الانتقادات، إذ إنَّ زيادة قدرة المجهر الإلكتروني تؤدي إلى تشوهات في الصورة، وقد تؤثر في العينة الخاضعة لهذا الكم الهائل من الإلكترونات وتمزقها(8). وعلى الرغم من التطورات الهائلة التي شهدها المجهر الإلكتروني، إلا أننا لا نستطيع رؤية الذرّات بالمعنى الحرفي للرؤية، فالعين ترى الضوء الساقط عليها جرّاء انعكاسه من الأجسام، وطول موجة الضوء المرئي أكبر بكثير من حجم الذرة، إذ إنَّ قطر الذرة يبلغ حوالي 100 بيكو متر (4110-) بينما يراوح طول الموجات الضوئية المرئية للعين البشرية بين 400 ألف بيكومتر إلى 700 ألف بيكو متر(6). لكن لنكن منصفين وننظر إلى مغزى حديث فاينمان «إنه لايزال هناك حاجة لتطورات جذريّة تسهّل تلك العملية» هو ما حدث بعد فترة وجيزة.

إناء إسلامي قديم
تقنية النانو قبل فاينمان
جسيمات وهياكل النانو ليست شيئًا حديثًا، إذ استخدمها الإنسان، وإن لم يعرف ماهيتها، منذ العهد الروماني. ولعلّ كأس ليكورغوس (Lycurgus Cup) هو أقدم ما سجّله المؤرخون من الأمثلة على ذلك، وهو كأس يتغيّر لونه بحسب حال الضوء الذي يتعرَّض له، فيكون أخضر اللون إذا سلط الضوء مباشرة أمامه، وأحمر اللون إذا شعَّ الضوء من خلاله. وقد استخدم المسلمون خلال القرون من التاسع وحتى السابع عشر السيراميك الزجاجي المحتوي على جسيمات النانو من الفضة والنحاس في أداوتهم وبناياتهم(9). وفي عام 1956 اكتشف، صدفة، أرثر أوهلير(Arthur Uhlir Jr.)، وإينجيبورج أوهلير(Ingeborg Uhlir)، خلال عملهما على تطوير تقنية لتلميع سطوح السيليكون، في مختبرات بيل (Bell Labs)، مركب نانو يسمَّى السيليكون الإسفنجي (Porous Silicon) وإن لم يعرفا أنه نانوني في حينه(9).

تطورات المجهر وتقنية النانو
يتفق الكل على أن أهم حدث تاريخي في عالم النانو أتى حين اخترع، عام 1981، العالمان هنريك روهرر (Heinrich Rohrer) و جيرد بينج (Gerd Binnig)، الحائزان على جائزة الملك فيصل للعلوم عام 1984(10)، ونوبل للفيزياء عام 1986(11)، المجهر الماسح النفقي (“Scanning Tunneling Microscope “STM)، الذي ينتج صورًا لسطح العينة عبر تمرير رأس سلك معدني حاد جدًّا، وخاضع لجهد كهربائي فوق سطح عينة ما، يولّد تيارًا كهربائيًّا يسمَّى التيار النفقي (Tunneling Current)، يزيد مقدار هذا التيار عندما تقل المسافة بين السطح ورأس السلك، ويقل عند الابتعاد، ويترجم الحاسوب هذا التغيّر في مقدار التيار النفقي إلى صورة طبوغرافية للعينة يمكن أن نراها بأعيننا.

صورة لذرات على سطح عينة بالمجهر الماسح النفقي

طريقة عمل المجهر الماسح النفقي

كأس ليكورغوس
قاد اختراع هذا المجهر إلى اختراع مجاهر أخرى تعمل على المبدأ نفسه، تصل دقتها إلى 1 بيكومتر(2110-)؛ أي أقل من عرض الذرة بكثير، لعل من أهمها وأكثرها استعمالًا في وقتنا الحاضر في أبحاث تقنية النانو(8):
1- مجهر القوة الذرية (“atomic force microscope “AFM ) الذي يعمل عبر قياس التغيُّر في زاوية انعكاس شعاع الليزر المرتد من ذراع المجهر، وينحرف بسبب قوى الجذب بينه وبين سطح العينة، كما يعطي هذا المجهر قياسات تحليلية تصل إلى جزء من النانومتر.
2- مجهر المسبار الماسح (“Scanning Probe Microscope “SPM ) ولهذا النوع عدة أشكال، جميعها تعمل بالمبدأ نفسه، ولا يفرقها إلّا طبيعة التفاعل بين الرأس والعينة، كما أنَّ المجهر الماسح النفقي، الذي سبق ذكره، يعد أحد أشكاله. هل يا ترى سيكون فاينمان سعيدًا بما وصلنا إليه في مجال المجاهر؟ أم مازال هناك حيِّز شاسع؟ لعلَّ ما حدث بعد عام من وفاة فاينمان يجلب له السعادة، إذ تمكّن الفيزيائي دون إيقلر (Don Eigler) في سبتمبر 1989، خلال عمله في شركة أي بي أم (IBM)، من كتابة اسم الشركة باستخدام المجهر الماسح النفقي عبر تحريك 35 ذرة، كل واحدة على حدة، من الزينون (Xenon).

مكتوبًا باستخدام 35 ذرة زينونIBM اسم شركة
النانو في الكيمياء والأحياء
أشار فاينمان، خلال محاضرته تلك، إلى أنَّ التحكم بالمادة على مستوى الذرة يعظِّم من قدراتنا على التحكم بالمنظومات التي تكونها، كالخلايا والأنسجة، كما يحسّن عملها ويسرِّعه، وهو ما يتفق عليه الجميع. قادت التطورات العلمية في تقنية النانو إلى اكتشافات جوهرية كثيرة لعلَّ من أهمها:
– الفلورينات(Fullerenes):مركبات كربونية على شكل كرات مجوفة تستخدم في تطبيقات كثيرة، كتنقية المياه، والموصّلات الكهربائية، وخلايا الطاقة، وغيرها. ويعود الفضل في اكتشافها عام 1985 إلى: هارولد كروتو (Harold Kroto)، وريتشارد سمالي (Richard Smalley)، وروبرت كيرل (Robert Curl).
– النقاط الكمية (Quantum Dots): جزيئات كيميائية شبه موصلة للكهرباء، يبلغ طولها بضع نانومترات، تتمتع بخواص فيزيائية وضوئية مختلفة عن شبيهاتها ذات الحجم الأكبر بسبب ميكانيكية الكم. اكتشفها ألكسندر إفروس (Alexander Efros)، و لويس بروس (Louis Brus)، وألكسي إيكموف (Alexey Ekimov) عام 1982، ولها استخدامات في جميع المجالات، كعلاج السرطان والكواشف والمشعات الضوئية وغيرها(9).
– أنابيب الكربون النانوية(Carbon Nanotubes): أسطوانات تتشكل من جدران ملتفة على نفسها، ويتكون كل جدار من شريحة رقيقة عرضها ذرة واحدة من الكربون. اكتشفها سوميو إيجيما (Sumio Iijima) عام 1991، ولها تطبيقات كثيرة في تنقية المياه والدوائر الكهربائية وغيرها(5).

: مركب فلوريني من 60 ذرة كربون (Buckyball) كرة باكي
– مركبات التجمع الذاتي(Self-Assembling Molecules): والآلات الجزيئية (Molecular Machines):يعد جيمس ستودارت (James Stoddart)، الحائز على جائزة الملك فيصل للكيمياء عام 2007(15)، ونوبل عام 2016(16)، رائد هذا المجال. ولهذه التقنية تطبيقات حاليّة ومستقبليّة في كافة المجالات، لعل من أحدثها دهان السيارات المعالج لنفسه من الخدوش (Self-healing Paint)، الذي يستخدمه بعض مصنِّعي السيارات الحديثة(14).
تجدر الإشارة إلى أنه برغم توفر كم هائل في الأسواق من المنتجات والتطبيقات النانونية، إلّا أن هناك كثيرًا من المنتجات والتطبيقات التي لا تزال في مراحل البحث العلميّ الأولى، مثل المنتجات الدوائية والحواسيب الكمية وغيرها.

أنبوب كربوني متعدد الجدران

الحوسبة والذكاء الاصطناعي
تساءل فاينمان عن الحجم الضخم للحواسيب، الذي كان يملأ غرفة بأكملها في ذلك الوقت، عمّا إذا كان من الممكن تصغيرها باستخدام أسلاك ومكونات كهربائية لا يتعدى عرضها مئة ذرة أو حتى بضعة آلاف نانومتر؟ وتساءل عن قدرة العقل البشري على التعرّف إلى الوجوه. وتوقَّع فاينمان أنَّ هذه الحواسيب ذات المكونات الصغيرة جدًّا ستكون قادرة، من واقع تجاربها الماضية، على اختيار أفضل السبل لإيجاد حلول لما يطرح عليها من مسائل واستفسارات معقدة، وذلك هو أساس الذكاء الاصطناعي في وقتنا الحالي. لعلَّ فاينمان سيكون سعيدًا حين يرى أنَّ ساعة اليد الصغيرة في وقتنا الحالي يمكنها قراءة قياسات الإنسان الحيوية والقيام بكثير من العمليات الحاسوبية خلال ثوانٍ بسيطة، وهي التي كان حاسبه الضخم يستغرق ساعات كثيره للقيام بها، إضافةً إلى عملها كهاتف للتواصل بين الناس. وقد يسعد أكثر عندما يعلم أنَّ تقنية التعرّف إلى الوجوه قد شهدت قفزات كبيرة حتى وصلنا إلى استخدامها في التعرف إلى المسافرين، وحضور المباريات، ومخالفي أنظمة المرور أو المطلوبين أمنيًّا.
ألف دولار لكتابة صفحة ومثلها لمحرك صغير
أشرنا في مقدمة المقالة إلى تحديين خصص فاينمان لكلٍّ منهما ألف دولار أمريكي. التحدي الأول هو كتابة المعلومات الموجودة في صفحة عادية على مساحة أصغر بما يعادل 1\25000 من المساحة الأصلية. استغرق الفوز بهذا التحدي وقتًا طويلًا، حيث فاز به توماس نيومن (Tom Newman) عام 1985، أي قبل وفاة فاينمان بثلاث سنوات فقط. أما التحدي الثاني فكان لعمل محرك كهربائي بحجم 1\64 بوصة مربعة، وقد فاز به وليم مكليلين (William McLellan) بعد بضعة أشهر من طرحه.

من هو “فاينمان” للستين عامًا القادمة؟
لقد دأبت، منذ قراءتي لمحاضرة فاينمان أول مرة قبل أكثر من عشرين سنة، على إعادة قرأتها كل سنة، والتمعّن بما ورد فيها، ومقارنته بواقعنا وما تحقق منها. واليوم، وبعد ستين عامًا من تلك المحاضرة الشهيرة، يبدو أنَّ البشرية قد أوشكت على الإجابة عن جلِّ أسئلة فاينمان، التي كانت محفزًا للبحث في القاع لأجيال تلته. ولم يتبق لدى كاتب هذه السطور سوى سؤال واحد هو: من سيكون فاينمان للستين عامًا القادمة؟

محرك وليم مكليلين الفائز بتحدي فاينمان، عرضة نص مليمتر.

فاينمان يفحص أصغر محرك في العالم الذي صنعه وليم مكليلين عام 1960