البيروني …
إنجازات ومشاريع واعدة
مصطفى عبدالنبي – جيولوجيا – جامعة القاهرة
«البيروني أعظم عقلية عرفها التاريخ» تلك هي الجملة التي قالها العالم الألماني الشهير إدوار سخاو (E. Sachau) بعد أن اطلع على بعض مؤلفات البيروني وبعد دراستها والوقوف على دقائقها (1). ومما يدعو إلى الأسف الشديد، أننا لم نفعل شيئا يستحق الذكر سوى القليل الذي لا يتناسب مع مكانة هذا العالم العربي وقيمته، في تاريخ العلم ما زالت مؤلفاته الكبرى مثل القانون المسعودي» و«تحقيق ما للهند» و«الآثار الباقية» و«الجماهر في معرفة الجواهر» وغيرها من مؤلفاته التي جاوزت المائة كتاب، ما زالت تلك المؤلفات لم تحقق التحقيق العلمي الذي يجعل من المخطوط من مجرد كتاب مطبوع إلى دائرة أرحب من ذلك بكثير وهي جعله ركنا فاعلا من أركان تاريخ العلم. وعلى الرغم من قلة الدراسات حول تلك المؤلفات، فيما عدا استثناءات محدودة، إلا أن هناك نقصًا واضحًا في الدراسات التي تتعلق بالبيروني في مجال الجيولوجيا وعلومها المختلفة، ولعل هذا النقص راجع إلى أن البيروني لم يؤلف كتابًا خاصًا يتعلق بهذا العلم، غير أن المعطيات الجيولوجية مبثوثة في مؤلفاته، وبعض تلك المعطيات هي من الآراء الرائدة غير المسبوقة في بابها والتي تجعل من البيروني من رواد الجيولوجيا الأوائل في العصر الوسيط. وفيما يلي بعض الآراء الرائدة للبيروني في عدد من فروع علم الجيولوجيا:
الجيولوجيا الفيزيائية (Physical Geology)
في كتاب قدر له أن ينجو من الضياع وعناكب النسيان؛ لأنه لا توجد منه سوى نسخة واحدة، وجدت في مكتبة «السلطان الفاتح» في إسطنبول وهو كتاب «تحديد نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن»(2). وقد وردت بعض الآراء الجيولوجية غير المسبوقة ضمن ثنايا الكتاب، وفيما يلي عرض لبعض آرائـه التي سبق بها غيره وهي آراء أحرى بها أن توضع في مكانهـا الصحيح في تاريخ العلم:
أولا: يقول البيروني في كتابه المذكور عن بداية تاريخ الأرض: «إنه لا سبيل إلى تحقيقها من لدن أول الخليقة… ولا نعلم من أحوالها، يعني الأرض، إلا ما يشاهد من الآثار التي تحتاج في حصولها إلى مدد طويلة، وإن تناهت في الطرفين، كالجبال الشامخة المتركبة من الرضراض الملس المختلفة الألوان المؤتلفة بالطين والرمل المتحجر عليها. فإن من تأمل الأمر من وجهه وأتاه من بابه علم أن الرضراض والحصى حجارة تتكسر من الجبال بالانصداع والانصدام، ثم يكسر عليها جري الماء وهبوب الرياح فيدوم احتكاكها ويأخذ البلى فيها من جهة زواياها وحروفها، حتى يذهب بها فيدملكها»(3).
والرضراض: الحصى الصغار. ورضاض الشيء: فتاته. وكل شيء كسرته فقد رضرضته (4). وعلى الرغم من غرابة الكلمة ووحشيتها، إن جاز التعبير، وعدم استعمالها إلا فيما ندر، إلا أن البيروني كان موفقًا كل التوفيق في اختيار هذه الكلمة في هذا السياق؛ إذ إن الكلمة تعني في أدبيات علم الجيولوجيا وخاصة في علمي الصخور الرسوبية (Sedimentary Rocks) وكذلك علم الترسيب (Sedimentology)؛ الفتات الصخري (Rock Cuttings) أو في تعبير آخر الصخور الفتاتية (Detrital Rocks).
أما ما يعنيه البيروني هنا في تلك الفقرة الوجيزة للغاية فتتمركز حول ما يلي من آراء وأفكار:
1- أن البيروني قد نحا منحى غير تقليدي ينم عن عقلية علمية، وهو يحاول التعرف على تاريخ الأرض، وهذا المنحى: هو دراسة تتابع التغيرات الجيولوجية التي تحدث على الأرض منذ أزمان سحيقة في البعد والتي عبر عنها بقوله «التي تحتاج في حصولها إلى مدد طويلة» ولعل هذا القول هو اللبنة الأولى في معرفة تاريخ الأرض عبر التغيرات التي تطرأ على ظواهرها من جبال ووديان وسهول… وهذا هو الأساس الذي اتخذه علماء الجيولوجيا فيما بعد لمعرفة عمر الأرض. إن إشارة البيروني هذه أحرى بأن توضع في مكانها الصحيح في تاريخ العلم وخاصة في علم الجيولوجيا التاريخية (Historical Geology).
عندما يقول البيروني: «ولا نعلم من أحوالها …» إن هذه الفقرة إنما تلخص واحدة من أهم العمليات الجيولوجية وهي عملية التعرية (Denudation) التي تتكون من عملية التجوية حيث يتحدث البيروني عن التجوية الميكانيكية (Mechanical Weathering) «الرضراض والحصى حجارة تتكسر من الجبال بالانصداع والانصدام» وللمرة الثانية يظهر توفيق البيروني في اختيار ألفاظه عندما يقول «الانصداع والانصدام» والانصداع هنا تصدع الصخر نفسه بواسطة الزلازل، أما الانصدام فهو اصطدام الصخور المتصدعة والتي تسقط من أعلى الجبل المتصدع إلى السفح لتصير فتاتا صخريا مختلف الأحجام، وعندما يصير الصخر فتاتا صخريا يتميز، بطبيعة الحال، بزواياه الحادة حيث تعمل وسائل النقل المختلفة مثل المياه الجارية والرياح المحملة بالرمال على تآكل الحواف الحادة للفتات الصخري نتيجة للاحتكاك الحادث بين حبيبات الفتات الصخري مع بعضها البعض لتصبح في النهاية صخورا مدملكة أي مستديرة(5).
ثانيا: وفي موضع آخر يقول البيروني: «ينتقل البحر إلى البر، والبر إلى البحر في أزمنـة إن كانت قبل كون الناس في العالم فغير معلومـة، وإن كانت بعــده فغير محفوظـة؛ لأن الأخبار تنقطع إذا طال عليها الأمد، وخاصـة في الأشياء الكائنـة جزءا بعد جزء، بحيث لا تفطن لها إلا الخواص فهذه بادية العرب، وقد كانت بحرًا فانكبس، حتى أن آثار ذلك ظاهرة عن حفر الآبار والحياض بهــا، فإنهــا تبدى أطباقا، أي طبقات، من تراب ورمل ورضراض، ثم فيها من الخزف والزجاج والعظام ما يمتنع أن يحمل على دفن قاصد إياها هنا، بــل تخــرج منها أحجــار إذا كســرت كانت مشتمــلة علـــى أصداف وودع وما يسمى آذان السمك، إما باقية على حالها وإما بالية قد تلاشت وبقى مكانها متشكلًا بشكلها»(6).
إن هذه الفقرة يمكن تفسيرها بلغة الجيولوجيا المعاصرة فيما يلي:
1- أن البيروني قد أدرك بحسه العلمي الثاقب أن هناك تغيرًا يحدث في القشرة الأرضية وأن هذا التغير يحدث ببطء شديد لا يلحظه الإنسان «جزءًا بعد جزء» وأن هناك تبادلا في المواقع ما بين البحار واليابسة، فمرة تغمر البحار اليابسة فتصير بحرًا، ومرة تنحسر البحار عن اليابسة فتصير أرضًا.
2- أن هذا التغير الحادث ما بين البحار واليابسة إنما قد كان عبر أزمنـة سحيقة قبل ظهور الإنسان “قبل كون الناس في العالم” وهو ما يسميه الجيولوجيون الآن: العصور أو الأزمنـة الجيولوجيــة.
3- يدلل البيرونـي على صدق كلامـه بالحديث عن بلاد العرب، وأنهـا كانت بحرًا ثم صارت يابسة على هيئـة طبقات تحتوي على صخور طينيـة وآخرى رملية وثالثـة حصوية «أطباق من تراب ورمال ورضراض».
4- ولعل البيرونـي كان أول من أشار إلـى حقيقة الأحافير (Fossils) وأنها كانت كائنات بحرية قد تحجرت بطول مرور الزمن عليهـا، فقد ظن أهل أوروبا في العصور الوسطى أنها مجرد رجس من عمل الشيطان، كان يقلد فيه خلق الله للحياة ولكنه أخفق فاجتنبوها ونهى رجال الدين الناس عن مسها أو التفكير فيها(7). ليس هذا فحسب، بل إن البيرونــي هو أول من أشار أيضا إلى طبيعـة شكل الأحفورة وهي إما أن تكون محفوظة حفظا كاملًا أو تحللت وتركت وراءها ما يعرف في علم الأحافير (Paleontology) بالطابـع(8) (Print). ويمثل الحديث عن الأحافير هنا إشارة ضمنية، إلا أنها لافتة للنظر وهو أن البيروني كان أول من لفت الانتباه إلى أهمية الأحافير في تأريخ الصخور.
ومما يؤكد من اعتقادنا بأن البيرونـي كان أول من أدرك تلك الحقائق العلمية، أن ما أدركـه البيروني كان مجهولًا تمامًا في العصور الوسطـى، بل ظلت هذه الحقائق بعد عصر النهضة الأوروبية زمنًا طويلًا بين أخذ ورد حتى تبيّنت أوروبا صحتهـــا.
ثالثا: للبيروني كتاب توقف المستشرقون عنده طويلًا وهو كتاب «تحقيق ما للهند من مقولة» لأن العالم قد عرف بهذا الكتاب معارف شتى عن الهند التي لولا هذا الكتاب لظلت محجوبة ولضاع قدر كبير من تاريخ الهنود وعاداتهم وثقافتهم. ومن ضمن المعارف الغزيرة التي تضمنها الكتاب معطيات جيولوجية بعضها كانت بالمشاهدة وبعضها الآخر بالاستنتاج الصادق الناتج عن الرؤية العلمية الصائبة لما يشاهد، وهو في الحالتين مستقل في التفكير تمام الاستقلال من دون التأثر بكتابات آخرين من يونان وفرس وهنود. ولأن المعارف الجيولوجية تتشابك مع بعضها بعضًا وتشترك مع بعضها بعضًا وتكمل بعضا، فإن هناك فقرة في الكتاب حوت أنماطًا شتى من المعارف الجيولوجية التي تصب جميعها في الجيولوجيا التاريخية. يقول البيروني في كتابه عن الهند: «وأرض الهند من تلك البراري يحيط بها من جنوبها بحرهم المذكور، ومن سائر الجهات تلك الجبال الشوامخ، وإليها مصاب مياهها. وإذا تفكرت عند المشاهدة فيها، وفي أحجارها المدملكة الموجودة حيث يوجد الحفر العظيم بالقرب من الجبال وشدة جريان مياه الأنهار وأصغر من التباعد وفتور الجري، ورمال عند الركود والاقتراب من المغايض والبحر، لم تكن تتصور أرضه إلا بحرًا في القدم قد انكبس بحمولات السيول»(9).
وفي هذه الفقرة على إيجازها فإنها تلخص قصة تطور الأنهار، فالأنهار قرب منابعها حيث مساقطها من الجبال تتميز بالحفر الرأسي العميق مكونة الخوانق (Canyon) التي تعرف في أدبيات الجيولوجيا بمرحلة الشباب للأنهار، وعندما تبتعد عن منابعها فإن شدة جريان النهر تقل وهي مرحلة النضج، وأخيرًا يضعف النهر وتقل مقدرته على حمل الرواسب فيبدأ في التخلص منها في قاعه أو على جوانبه أو عند مصبه في البحر وتعرف هذه المرحلة بمرحلة الشيخوخة (10). وفي هذه الفقرة يلمس البيروني جانبًا من جوانب التاريخ الجيولوجي لعدد من المناطق في الهند، وهي أن تلك المناطق كانت بحرًا تراكمت عليه مصبات السيول وتركت حمولتها التي أصبحت يابسة بعد انحسار البحر عنها التي عبر البيروني عنها بكلمة «انكبس»، والانكباس هنا تعني بلغة الجيولوجيا حدوث عملية الترسيب (Deposition).
الجيولوجيا التاريخية (Historical Geology)
من الأشياء التي حيرت العلماء والفلاسفة تاريخ الأرض غير أنهم لم يصلوا إلى إجابة حاسمة شافية بل كانت كتاباتهم حول هذا الموضوع ما بين تهويمات وتخمينات، على حين أن البيروني قد حسم الأمر بقوله: «كل تلك الأحوال بالضرورة ذواتها أزمان عديدة غير مضبوطة الكمية، وتحت تغايير غير معلومة الكيفية»(11) وحول هذا المعنى يقول في موضع آخر: «ينتقل البحر إلى البر، والبر إلى البحر في أزمنة إن كانت قبل كون الناس في العالم فغير معلومة، وإن كانت بعده فغير محفوظة؛ لأن الأخبار تنقطع إذا طال عليها الأمد»(12) ومعنى هذا أن التاريخ الجيولوجي للأرض، في عصر البيروني، لا سبيل إلى معرفته فهو تاريخ سحيق في أزمانه والمعروفة في أدبيات الجيولوجيا التاريخية بالعصور الجيولوجية التي تقدر بملايين السنين، والتي هي أيضا حتى في العصر الحديث عرضة للنقص والزيادة في تلك الملايين كما نطالع المراجع الجيولوجية من اختلاف في المدة الزمنية في هذا العصر أو ذاك، وهو ما عناه البيروني بقوله «غير مضبوطة الكمية». ويذهب البيروني مذهبًا واضحًا وقاطعًا لمن يحاول أن يفسر ما حدث في تلك العصور السحيقة بقوله: “وتحت تغايير، يقصد تغيرات، غير معلومة الكيفية هذا في حالة عدم وجود بشر كما في قوله وعلى حد تعبيره «قبل كون الناس في العالم»”. أما إذا وجد الإنسان فهو أيضًا تاريخ غير معلوم لأن «الأخبار تنقطع إذا طال عليها الأمد». وعلى الرغم من هذا كله فإن البيروني قد أعمل عقله وفكره بناءً على مشاهداته وهو يجوب شبه القارة الهندية ورأى أنهارها وسيولها وجبالها وسهولها فتوصل إلى ما يشبه النواة الأولى للتاريخ الجيولوجي كما ورد في فقرة سابقة «وأرض الهند من تلك البراري …».
إن هاتين الفقرتين تبين منهج البيروني في تناول الأشياء المجهولة؛ إذ تظل مجهولة ما لم يكن هناك دليل أو قرينة تؤدي إلى استنتاج ما قد يقرب من الحقيقة، ولكن البيروني لا يتحدث بغير علم، وهي ميزة العالم الحق. ويستطرد البيروني في فقرة موجزة يلخص فيها التاريخ الجيولوجي للمنطقة الواقعة بين جرجان وخوارزم بقوله: «ونحن نجد مثل هذه الحجارة التي يتوسطها آذان السمك في المفازة الرملية بين جرجان وخوارزم. فقد كانت البحيرة فيما مضى وقد كان جيحون، يقصد نهر جيحون، حينئذ يخترق هذا الموضع، التي هي الآن مفازة؛ فيغمر البلاد والقرى التي بها إلى لدن بلخان وينصب إلى البحر بين جرجان والخزر، فاتفق له من الانسداد ما مال ماؤه إلى نواحي أرض الغزية اعترض له جبل فاجتمع وطما بحيث تلاطم الأمواج باقية على علاوته …»(13). ومعنى هذه الفقرة أن الصخور الرسوبية التي تزخر بالأحافير في تلك الصحراء الرملية كان يخترقها نهر جيحون، وقد حدث عائق في هذا النهر فاجتمع له من مياه النهر ما فاض عن الحاجة فاتخذ طريقا نحو «الغزية» وعندما اعترضه جبل كثرت مياهه وتلاطمت أمواجه، كل هذا من الأمور المنطقية التي سردها البيروني، غير أن ما يلفت الانتباه حقا إلى موضع من مواضع السبق التي لم يفطن لها سوى البيروني نفسه، ولم يفطن إليها الباحثون في التراث الجيولوجي عند العرب، وهو قوله في آخر الفقرة «فاجتمع وطما بحيث تلاطم الأمواج باقية على علاوته». هنا يشير البيروني لأول مرة إلى ما يعرف بـ «علامات النيم» (Ripple Marks). وهي علامات تموجات صغيرة تتكون على سطح الرسوبيات (مثل الرمال نتيجة لفعل التيارات المائية) ويمكن بدراسة هذه العلامات تحديد اتجاه التيارات المائية، ووجودها في الرسوبيات دلالة على المياه الضحلة (14).
الجيولوجيا الاقتصادية (Economic Geology)
الجيولوجيا الاقتصادية أحد فروع الجيولوجيا المهمة التي تختص باستكشاف الخامات الاقتصادية من المعادن والصخور، وكذلك دراسة وتقويم الخام ومعرفة الاحتياطي المؤكد منه… وقد أبلى البيروني في هذا الباب بلاءً حسنًا في جلاء كثير من المعطيات الجيولوجية التي تترجم إلى ثروات معدنية ويقول البيروني في «الجماهر» في البحث عن اللعل وهو أحد الأحجار الكريمة التي كانت رائجة في زمنه: «وطلب اللعل ينقسم إلى قسمين أحدهما بحفر المعدن في الجبل، والآخر بتفتيشه بين الحصى والتراب المنهالة من تقطع تلك الجبال بالرجفات وإسالة السيول إلى السفوح، واستنباط المعادن كالخصال في القمار، وكاعتساف المهامه جزافا والقفار والتهور في ركوب البحر لا دليل عليها معينا على بلوغ المرام غير التفرس. وكذلك هؤلاء يبتدئون في عمله وأكل الجبل كأكل السوس والأرضة على عمياء ليس فيها لعل وعسى؛ فإن طال بهم الأمر على ذلك عادوا بالخسران والخيبة، وإن وصلوا لحجر أبيض يشبه الرخام استمروا فيه على العمل، وكان أول أمارات النجاح في العمل والأمل…»(15). إن البيروني يتحدث عن عملية استكشاف (Prospecting) للمعدن، وهو هنا الحجر الكريم المسمى باللعل، والذي عبر عنها بكلمة «استنباط» يرسي مبدأين من أهم مبادئ الجيولوجيا الاقتصادية؛ المبدأ الأول: معرفة أماكن البحث المأمولة عن الأحجار الكريمة والتي تنسحب تلك المعرفة أيضا على عدد من المعادن ذات الندرة النسبية كالذهب، حيث توجد إما في موضعها (In Situ) أي تكون في الصخر الحاوي لها وإما أن يكون ضمن التجمعات النهرية (Stream Placers) وذلك عندما تفكك وتحلل الصخور بفعل عوامل التعرية (التجوية والنقل والترسيب) فإن الفتات الصخري الحاوي على الأحجار الكريمة ينتقل بواسطة السيول والأنهار ليترسب على الشواطئ مكونًا أنواع شتى من الرواسب، سواء رواسب نهرية أو رواسب وديانية وهي تلك الرواسب التي تعرف في أدبيات الجيولوجيا الاقتصادية بـ «رواسب البرقاء» (Placer deposits) حيث تتجمع حصيلة عملية التجوية الميكانيكية التي من شأنها تفتيت الصخور والتي قد تحتوي، في الغالب، على حبيبات أو بلورات من الأحجار الكريمة(16).
أما المبدأ الثاني: فيتعلق بطبيعة الاستكشاف التعديني، وخاصة إذا كانت المعادن المراد البحث عنها هي من القلة بمكان كالأحجار الكريمة؛ فمن المعروف أن عمليات استكشاف الخامات هي من أصعب العمليات تكلفة ونفقة وجهدا، باعتبار أن القائم بهذا العمل لا علم لديه مسبقًا بمكامن الخامات المطلوبة، ومن هنا يتطلب الأمر كثيرًا من المسح الجيولوجي لمناطق واسعة وعمل الخرائط الجيولوجية التفصيلية، وأعمال التنقيب التي تتطلب بدورها آلات الحفر وأخذ العينات من الصخور على أبعاد مختلفة من سطح الأرض. وبعد هذا الجهد فإن تلك الأعمال قد تؤتي بثمارها أو لا تؤتي فهي كما صدق البيروني في وصفها «كالقمار واعتساف المهامه جزافا…» غير أن غلاء ثمنها يغري بالمزيد من أعمال التنقيب والحفر بحثا عنها (17). ومعنى هذا أن البيروني قد فطن إلى معرفة أماكن التمعدن للمعدن المطلوب استكشافه أو استنباطه بلغة البيروني، وحددها بمكانين؛ الأول: وهو غير مؤكد من وجود المعدن فيه وهو الحفر في الجبل. والثاني: الرواسب الوديانية. وقد كان البيروني مصيبًا في قوله بأن البحث عن اللعل أشبه بالقمار، أو السير في الصحراء بلا دليل أو التهور في ركوب البحر، وغير ذلك من الصفات التي لا تجزم بوجود المعدن أو عدم وجوده من الأساس؛ لأنهم يبحثون وينقبون ويحفرون في الجبل عسى أن تظهر إشارة أو أمارة أو دليل على وجود المعدن. والإشارة هنا هو العثور على طبقة صخرية حاملة للمعدن والذي وصفه البيروني بقوله: «حجر أبيض يشبه الرخام». إن ما قاله البيروني عن عملية الاستكشاف بأنها أشبه بالقمار صحيح كل الصحة ما يحدث في عالمنا المعاصر من عمليات استكشاف النفط، وتكبد النفقات الطائلة من الأموال، وقد تصاب بالخيبة والخسران في النهاية. وفي موضع آخر يقول البيروني: «فأمـا قيم الجواهر فليس لها قانون ثابت على حال لا يتغير باختلاف الأمكنــة ومضيّ الأزمنــة وتلـوّن الشهوات بحسب الأمزجــة وانحطاطها إلى هوى الرؤساء فيها وابتياعها إياهم ثم حدوث أحوالها من جهــة الكثرة والقلة»(18).
يذكر هنا البيروني عددا من الحقائق المهمـة التي تتعلق باقتصاديات المعادن النفيسة وعلى وجه أخص بالأحجار الكريمـة، فهي المثال الحــي للقانون السائد في عالم التجارة وهو قانون العرض والطلب الذي لا يتقيد بمكان أو زمان، ولما كانت الأحجار الكريمة تتميز بغلو ثمنها بوجه عام إلا أن أغلاها ثمنًا هو أقلها وجودًا وأكثرها ندرة؛ إذ إن عامل الندرة من العوامل الأساسيــة التي تعلــى من قيمــة الحجر الكريم فلو فرض مثلًا أن حجرًا كريمًا قد اكتشفت له مكامن جديدة وأصبح مطروحًا بكثرة في الأسواق لهبط ثمنـه على الفور. كما أن الرغبة في اقتناء هذا الحجر وشدة الطلب على ذلك راجع إلى رغبات الناس ومزاجها من التفاؤل أو التشاؤم أو ما وقر في أذهان العامة من خصائص طبية أو سحرية مزعومة التي تختلف من بلد إلى آخر. يقول البيروني: «وحكى لي بعض اليهود أنه رأى مع آخر حجرًا يجذب الذهب إلى نفسه، وهذاَ إن صدق الحاكيَ يغني الصيارفة عن إخراج الزغل، من دقاق الذهب الترابي بمغناطيس مطاول على هيئة الإصبع يسوطونه فيها ويخضخضونه بينها فيلتصق الزغل وهو رمل ثقيل أسود يكون مع الذهب ولا يكاد الغسل ينقيه فيخلصونه بالمغناطيس، ويدل هذا على حديدية في حجر يسمى عورسنك؛ لأن هذا الرمل الأسود هو نحاتته، بل هو يدل على أن باقي الرمال من حباتها السود هو من مثل ذلك الجنس؛ لأن المغناطيس يميزها من سائرها»(19).
إن ما ذكره البيروني هو ما يحدث الآن في معامل ومختبرات بل وكذلك المصانع التي تعنى باستخلاص الفلزات من خاماتها وهي العملية التي تعرف بـ «تقويم الخامات» (Ore Dressing) فمن أهم عمليات رفع رتبة الخام (Upgrading) هو تخليص الفلز المراد رفع درجة رتبته، وهو غالبا ما يكون الذهب، من الشوائب التي عادة ما تكون مختلطة به. ويعلم المشتغلون بعمليات تقويم الخامات أن من أهم طرق استخلاص الذهب طريقة الفصل بالمغناطيس (Magnetic Separation) حيث يجذب المغناطيس المعادن القابلة للمغنطة التي غالبا ما تكون من المعادن الحديدية، والتي عناها البيروني بقوله: «وهو رمل ثقيل أسود يكون مع الذهب ولا يكاد الغسل ينقيه» تاركا الذهب وهو غير قابل للمغنطة (20). ولو أدرك مؤرخو العلم لجعلوا البيروني هو صاحب براءة اختراع الفصل بالمغناطيس التي لا غنى عنها في فصل الذهب من الشوائب. يقول البيروني: «وأظن ظنًا ليس بالمحقق أن في حبات الرمل جواهر شتى، إذا تأملت رأيت فيها الأسود والأحمر والأبيض والمشف البلوري»(21) من الواضح في هذه الفقرة أن البيروني يصف ما يسمى في أدبيات الجيولوجيا الاقتصادية بـ «الرمال السوداء» التي يشيع وجودها بالقرب من مصبات الأنهار، وما أكثرها في الهند! حيث تحتوي هذه الرمال على العديد من المعادن المختلفة الألوان مثل معادن المونازيت (Monazite) والزيركون (Zircon) والكوارتز (Quartz) والماجنتيت (Magnetite) وغيرها من المعادن(22). وتعدّ هذه الفقرة أول إشارة إلى الرمال السوداء في تاريخ علوم الجيولوجيا، أما قوله «وأظن ظنًا ليس بالمحقق» فمرده إلى دقة حبيبات تلك المعادن، بحيث يستحيل التأكد من ماهيتها بالعين المجردة.
الجيولوجيا الكونية (Planetary Geology)
من المعطيات العلمية الأساسية في الجيولوجيا الكونية معرفة طول محيط كوكب الأرض، وثم معرفة حجمه، وقد كانت هذه المعرفة من أبرز مآثر العرب العلمية التي كانت على أساس علمـي سليم غير مسبوق. يقول نيلينو (C. Nallino) في كتابـه «علم الفلك.. تاريخه عند العرب في القرون الوسطـى»: «أما قياس العرب فهو أول قياس حقيقي أجري كله مباشرة مع كل ما اقتضتـه تلك المساحـة من المدة الطويلة والصعوبـة والمشقـة واشتراك جماعـة من الفلكيين والمسّاحين في العمل فلا بد لنا من عداد ذلك القياس في أعمال العرب العلمية المجيدة المأثورة».
فهناك طريقـة نظريـة يسيرة بيّنهـا أبو الريحان البيرونـي (440 هـ) لإيجاد مقدار محيط الأرض، إن ذلك العالم الأجل جعل في آخر كتابـه في الإسطرلاب فصلًا في معرفـة مقدار استدارة الأرض وبعد وصف الطريق المدقق لذلك قال ما نصه: «وفي معرفة ذلك طريق قائم في الوهم صحيح بالبرهان والوصول إلى عمله صعب لصغر الإسطرلاب وقلة مقدار الشيء الذي يبنى عليه فيه، وهو أن تصعد جبلًا مشرفًا على بحر أو برية ملساء وترصد غروب الشمس فتجد فيه ما ذكرناه من الانحطاط ثم تعرف مقدار عمود ذلك الجبل وتضربه في الجيب المستوى لتمام الانحطاط الموجود وتقسم المجتمع على الجيب المنكوس لذلك الانحطاط نفسـه ثم تضرب ما خرج من القسمة في اثنين وعشرين أبدًا وتقسم المبلغ على سبعـة فيخرج مقدار إحاطـة الأرض بالمقدار الذي به قدرت عمود الجبل ولم يقع لنا بهذا الانحطاط وكميته في المواضع العالية تجربة، وإلى التجربة يُلتجأ في مثل هذه الأشياء وعلى الامتحان فيها يعوّل». وبعد أن يشرح نيلينو ما أورده البيرونـي بُاللغـة الرياضيـة المعاصرة استنتج ما أسماه «قاعدة البيرونـي». وهي تلك التسمية التي شُهرت في أدبيات تاريخ العلم لقياس محيط الأرض قائلا: «فإذا أشرنا بحرفي(نق) إلى نصف القطر المنسوبة الخطوط المساحية إليه وبحرف (ر) إلى نصف قطر الأرض وبحرف (ف) إلى ارتفاع الجبل وبحرف (ن) إلى الانحطاط (الانحطاط هنا بلغة البيروني تعني زاوية ميل الأفق على قمة الجبل)، ينتج من قواعد حساب المثلثات المستويـة:
ف جتا ن
ر = ـــــــــــ
(نق – جتا ن(
فإن ضربنا (ر) في (ط) أي في 22/7 كان الحاصل مقدار محيط الأرض». ومما يستحق الذكر أن البيروني أخرج تلك الطريقة المذكورة من القوة إلى الفعل كما جاء في كتابه «القانون المسعودي» وانتهى إلى إيجاد نصف قطر الأرض بفرق لا يزيد عن 15 كيلومتر (23).
المعادن (Minerals)
يعّد «الجماهر في معرفة الجواهر» الذي ألّفه البيروني في أخريات حياته، دون مغالاة أو مبالغة، أول كتاب علمي في علم المعادن (Mineralogy) في تاريخ العلم قد أُلّفّ على أساس من معطيات العلم الحديث، وعندما نقول إنه أول كتاب علمي على أساس من معطيات العلم الحديث؛ فإننا نتحدث عن آراء ونظريات وتجارب، رائدة في بابها، غير مسبوقة في طرازها. ولأن محتواها علميّ؛ فإن هذا المحتوى هو ما نجده الآن في مراجع علوم المعادن المختلفة التي ثبت صحتها فيما بعد عندما تقدم علم المعادن في القرنين الأخيرين. ولو جردنا الكتاب مما كتبه البيروني من طرائف وأقاصيص ونوادر وأشعار واستطرادات هنا وهناك حول هذا المعدن أو ذاك، لوجدنا أنفسنا حيال كتاب لا يقل حداثة عن أي كتاب أو مرجع حديث في علم المعادن الآن. وقد كان لكاتب هذه السطور إسهام متواضع في الكشف عن عدد من أوجه الريادة في علوم المعادن والتي غابت عن فطنة الباحثين عربا وغير عرب (24).
خاتمة
لقد آن لهذا العالم الموسوعي، العربي اللغة والتفكير، والمنشأ والهوى والثقافة، أن يحتل المكانة الجديرة به لدى الأجيال الناشئة بدلا من اجتزاء فقرة من هنا أو هناك، أو الاستشهاد بقول مستشرق أو آخر عن عبقريته وسبْقه في ميدان من ميادين العلم. وللأسف الشديد أن المكتبة العربية تكاد تخلو من مؤلفات البيروني على كثرتها وتنوعها من التحقيق العلمي المنشود والمشفوعة بدراسة تفصيلية تفصح عن هذه الفكرة الرائدة، أو تلك، أو هذا السبق العلمي، أو ذاك، وغير هذا من أوجه السبق والريادة في تاريخ العلم. وعلى سبيل المثال فإن كتابه المشهور «الجماهر في معرفة الجواهر» لازال على حاله بتحقيق المستشرق كرنكوي الذي نشرته دائرة المعارف بحيدر آباد بالدكن الهند سنة 1939، وهو عبارة عن التطبيق المجرد لأسس وقواعد التحقيق من المقابلة بين النسخ المختلفة والتنبيه على ما وقع في الكتاب من التصحيف والتحريف، وإثبات الساقط أو الزائد من الألفاظ… وغير ذلك مما تقضي به قواعد وأسس التحقيق المجردة، من دون شرح يزيل اللبس بين الألفاظ أو شرح جملة عصية على الفهم مما تحفل به كتب التراث بوجه عام، وكتب البيروني بوجه أخص، الأمر الذي جعل من «الجماهر» كتابًا مطبوعًا بدلًا من كونه مخطوطًا، أي أنه قد جرى استبدال خط اليد بخط المطبعة. وفي كلتا الحالين فمادة الكتاب عصية على الفهم، عصية على الإدراك، خلافا لمؤلفات التراث الأدبي الذي يتفنن المحققون في شروحهم وتفسيراتهم وتعليقاتهم. ونظرا لأهمية الكتاب في تاريخ العلم فيما يخص علم المعادن (Mineralogy) فقد نادينا منذ ما يزيد عن ثلاثين عامًا، بأن «الجماهر» في حاجة إلى إعادة تحقيقه علميًا وعلى أساس من المعطيات العلمية الحديثة (25).