التكنولوجيا الحيوية
كيف تغير حياتنا؟
أ.د. محمد الزغيبي – علم وظائف الأعضاء – جامعة الملك سعود – السعودية
تقوم التقنية الحيوية (التكنولوجيا الحيوية) بدور مهم وفعّال في حياتنا. حيث توفر فرصًا هائلة لاكتشاف المزيد من المعرفة التي تفيد البشرية، من خلال تطوير جودة الغذاء والدواء وتوفيرهما وتقليل الآثار البيئية السيئة وتحسين مستوى الصحة العامة. شجّعت الفرص التي تتيحها التقنية الحيوية العديد من الحكومات على مستوى العالم على الاستثمار في أبحاث العلوم الحيوية. وقد أدركت المملكة العربية السعودية أن التقنية الحيوية تُعد واحدة من التقنيات الاستراتيجية التي يجب تطويرها، وضمّنتها في خطتها الوطنية لتطوير العلوم والتكنولوجيا.
فما هو مفهوم التقنية الحيوية؟ وما هي مجالاتها والأمثلة التطبيقية لها في حياتنا اليومية؟
التقنية الحيوية هي استخدام الأنظمة البيولوجية الجزيئية والدقيقة الموجودة في الكائنات الحية، أو استخدام الكائنات الحية نفسها؛ لإحداث تقدم تكنولوجي، وتكييف تلك التقنيات للاستفادة منها في مختلف المجالات. تشمل هذه التطبيقات مجالات متعددة من الممارسة الزراعية إلى القطاع الطبي. كما تهدف إلى تطوير منتجات وطرق وكائنات جديدة لتحسين صحة الإنسان والمجتمع. حيث تسخر العمليات الخلوية والجزيئية الحيوية لتطوير التقنيات والمنتجات التي تساعد على تحسين حياة الإنسان. ويُستخدم في مجالات مختلفة، مثل: علم العقاقير، والعلاج الجيني، وهندسة الأنسجة، وما إلى ذلك. حيث يمكن القول بأن هذا المجال هو دراسة علمية تطبيقية تربط العلوم الحيوية بالجوانب التكنولوجية. استخدمت العمليات البيولوجية للكائنات الدقيقة منذ زمن طويل لصنع منتجات غذائية مفيدة، مثل: الخبز، والجبن، والحفاظ على منتجات الألبان، وغيرها. هناك مجالات عديدة للتقنية الحيوية؛ وتشمل التقنية الحيوية الطبية، والزراعية، والصناعية، والبيئية. ونسلط الضوء في هذا المقال على التقنية الحيوية الطبية، التي تستخدم الخلايا الحية والمواد الخلوية؛ لإيجاد العلاجات المناسبة للعديد من الأمراض والوقاية منها، عن طريق ما يُسمى بالهندسة الوراثية والعمليات الجزيئية الحيوية. كما يتضمن ذلك دراسة البكتيريا والخلايا النباتية والحيوانية، لفهم الطرق التي تعمل بها. والتركيز بشكل كبير على دراسة الحمض النووي (DNA)؛ للتعرف على كيفية التغير في التركيب الجيني للخلايا، لزيادة إنتاج بعض الخصائص الجينية التي قد يجدها العلماء مفيدة، مثل: هرمون الأنسولين، وتطوير العقاقير، وعلاجات مختلفة وعديدة في هذا المجال.
تقوم التقنية الحيوية باستخدام طريقتين مخبريتين:
• الأولى: الاستنساخ الجيني (Gene cloning)، وترتكز على أربعة مبادئ حيوية جزيئية (صورة 1)، وهي:
- عزل الحمض النووي (isolation) من الكائن المتبرع.
- تجزئة الحمض النووي (fragmentation) باستخدام نوكليازات التقييد.
- ربط جزء الحمض النووي (ligation) المطلوب في المتجه (vector).
- نقل الحمض النووي (transformation) المؤتلف (Recombinant DNA) إلى المضيف.
• الثانية: تفاعل البلمرة المتسلسل (Polymerase Chain Reaction) (صورة 2)، وتعتمد على ثلاث خطوات بسيطة مطلوبة لأي تفاعل لتخليق الحمض النووي، وهي:
- فك الحمض النووي (DNA).
- نسخ الحمض النووي (DNA).
- تمديد خيوط (DNA) إلى خيوط مفردة جديدة من البادئات.
(صورة 1 ) خطوات الاستنساخ الجيني (Gene cloning)
الأمثلة على التقنيات الحيوية في المجال الطبي:
إن من أبرز الأمثلة على نتائج التقنيات الحيوية الطبية هي اللقاحات والمضادات الحيوية المختلفة. فأما اللقاحات فهي عبارة عن مواد كيميائية تحفز جهاز المناعة في الجسم؛ لمحاربة مسببات الأمراض بشكل أفضل عندما تهاجم الجسم. ويتم ذلك عن طريق إدخال نسخ (ضعيفة) من العوامل المسببة للمرض (الميكروبات) في مجرى الدم، مما يسبب رد فعل الجسم كما لو كان يتعرض لهجوم من النسخة الفعلية من المرض. ومن ثم يكافح الجسم مسببات الأمراض الضعيفة، من خلال إنتاج مضادات حيوية، وتحتفظ بعض الخلايا (الخلايا البائية) ببعض تلك المضادات (تتذكر) للمرض وتخزن المعلومات، للدفاع عن الجسم في حال تعرض للمسببات الفعلية نفسها في المستقبل. حيث يتعرف عليها الجسم على الفور فيشكل دفاعًا سريعًا ضدها.
(صورة 2) تفاعل البلمرة المتسلسل (PCR)
أما في جانب المضادات الحيوية وإنتاجها، فقد تم قطع أشواط كبيرة في تطوير المضادات الحيوية التي تكافح مسببات الأمراض للإنسان. حيث يُزرع العديد من النباتات، وتتم هندستها وراثيًا لإنتاج الأجسام المضادة. وهذه الطريقة أكثر فعالية من حيث التكلفة من استخدام الخلايا، أو استخراج هذه الأجسام المضادة من الحيوانات، حيث يمكن للنباتات إنتاج الأجسام المضادة بكميات كبيرة. ومما يجدر ذكره أيضًا الدور الهام الذي تلعبه التقنية الحيوية في المجال الزراعي، وذلك من خلال تطوير نباتات معدلة وراثيًا؛ لزيادة غلة المحاصيل، أو إدخال خصائص لتلك النباتات التي توفر لها ميزة بحيث تنمو في المناطق التي تضع نوعًا من عامل الإجهاد على النبات، مثل الطقس والآفات. ففي بعض الحالات، يقوم العلماء بتحديد خاصية ما، وإيجاد الجين الذي يسببها، ثم وضع هذا الجين داخل نبات آخر بحيث يكتسب تلك الخاصية المرغوبة، مما يجعله أكثر ديمومة أو ينتج غلات أكبر مما كان عليه في السابق. ومن الأمثلة على ذلك انتقال جينات الفطريات (Bacillus thuringiensis) إلى المحاصيل. حيث إن الفطر ينتج بروتين (Bt)، وهو فعّال للغاية ضد الآفات مثل حفار الذرة الأوروبي. وهذه هي الخاصية التي يرغب العلماء في أن تمتلكها النباتات. لهذا السبب، حددوا الجين الذي يسبب بروتين (Bt) في الفطريات وتم نقله إلى الذرة بواسطة الهندسة الوراثية. فأصبح نبات الذرة يُنتج سُمّ البروتين بشكل طبيعي، مما يقلل من تكلفة الإنتاج من خلال التخلص من تكلفة نثر المبيدات على المحصول.
كما تُستخدم التقنية الحيوية لأغراض صناعية أيضًا، وتتضمن استخدام الخلايا مثل الكائنات الحية الدقيقة، أو مكونات الخلايا مثل الإنزيمات؛ لتوليد منتجات في قطاعات مفيدة صناعيًا، مثل الأغذية، والأعلاف، والمواد الكيميائية، والمنظفات، والورق، والمنسوجات، والوقود الحيوي، والغاز الحيوي. ويُسهم ذلك في خفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري من خلال استخدام المواد الخام المتجددة؛ لإنتاج مجموعة متنوعة من المواد الكيميائية، والوقود، والابتعاد عن الاقتصاد القائم على البتروكيماويات. ومن الأمثلة على دور التقنية الحيوية في الصناعة تطوير المحفزات الحيوية، مثل الإنزيمات لتجميع المواد الكيميائية. والإنزيمات عبارة عن بروتينات تُنتجها جميع الكائنات الحية. يمكن تصنيع الإنزيم المطلوب بكميات تجارية باستخدام التقنية الحيوية. وكذلك تخمير سكر المحصول إلى حامض، حيث يمكن استخدامه بعد ذلك كوسيط لإنتاج مواد وسيطة كيميائية أخرى لمختلف المنتجات.
كما تدخل التقنية الحيوية في علم البيئية والمحافظة عليها، حيث تُستخدم في معالجة النفايات ومنع التلوث، فيمكنها تنظيف العديد من النفايات بكفاءة أكبر مقارنة بالطرق التقليدية وتقليل اعتمادنا عليها. ويتضح ذلك في اعتماد بعض البكتيريا في غذائها على المكونات الكيميائية لمخلفات المنتجات. وبالتالي يقوم مهندسو البيئة بإدخال العناصر الغذائية لتحفيز نشاط البكتيريا الموجودة بالفعل في التربة في موقع النفايات، أو إضافة بكتيريا جديدة إلى التربة لتساعدها في هضم النفايات في الموقع مباشرة، وتحويلها إلى منتجات ثانوية غير ضارة. وبعد استهلاك النفايات، تموت البكتيريا أو تعود إلى مستوياتها الطبيعية في البيئة. وهناك حالات تكون فيها المنتجات الثانوية للكائنات الدقيقة المقاومة للتلوث مفيدة في حد ذاتها. وبهذا يتضح لنا أن التقنية الحيوية تتعامل باستخدام الخلايا الحية في المجالات الطبية، والصناعية، والبيئية، والصيدلانية، والزراعية. وعلاوة على ذلك، فهو مجال متعدد التخصصات يوفر لجيل اليوم فرصًا لاستكشاف آفاق جديدة في مجال العلوم والتكنولوجيا سواء الطبية منها أو غيرها. ولذلك عمدت الحكومة السعودية إلى إنشاء مراكز تميز بحثية في الجامعات السعودية، تدعم أبحاث التقنية الحيوية في شتى مجالاتها، وتوفر منحًا بحثية وأخرى دراسية في هذا المجال المتجدد.