الجينات واللغة:
الأسس الجينية في استخدام اللغة
أ. مروة صقر – طب أسنان – جامعة طنطا – مصر
استخدام اللغة المنطوقة والمكتوبة هو قدرة بشرية ومميزة للجنس البشري، ولكن قد يتساءل الإنسان ما هو الأساس البيولوجي لقدرتنا البشرية الفريدة على التحدث والقراءة والكتابة؟ وكيف نتميز بها عن باقي الفصائل والمخلوقات؟ كشف الفريق الدولي – بقيادة علماء من معهد ماكس بلانك لعلم اللغة النفسي (Max Planck Institute of Psychiatry) ومعهد دوندرز (Donders Institute) في مدينة نيميغن بهولندا – عن الروابط الجينية مع مناطق الدماغ المتعلقة باللغة، حيث قاموا بعمل تحليل على مستوى الجينوم لخمس مهارات قائمة على القراءة واللغة في عدة آلاف من الأشخاص، للوصول لأقرب النتائج عن الأسس الجينية المتعلقة بتعلم الإنسان اللغة والقراءة.
ما أهمية هذه الدراسة وما الذي يميزها؟
يقول المؤلف الأول (Else Eising) من معهد ماكس بلانك لعلم اللغة النفسي (MPI) في نيميغن: “لقد عرفنا منذ سنوات عديدة أن الفروق الفردية في المهارات ذات الصلة يجب أن تتأثر بالتغيرات في جينوماتنا، وهذه هي المرة الأولى التي تُجمّع فيها مجموعات بيانات من عشرات الآلاف من المشاركين معًا للبحث بشكل موثوق في الكثير من متغيرات الحمض النووي”. تمثل الدراسة الناتج الأول لاتحاد (GenLang)، وهو شبكة دولية من كبار الباحثين المهتمين بعلم وراثة الكلام واللغة. تمكن العلماء من جمع بيانات من 22 مجموعة مختلفة جُمعت من جميع أنحاء العالم. وعلى الرغم من أن معظم المشاركين كانوا من المتحدثين باللغة الإنجليزية، إلا أنه كان لدى البعض لغات أم أخرى (الهولندية والإسبانية والألمانية والفنلندية والفرنسية والهنغارية). كما تعد أحجام العينات الكبيرة – التي تصل إلى 34000 فرد لكل سِمَة – مناسبة للتحقيق في مساهمات عدة ملايين من متغيرات الحمض النووي الشائعة.
ما يميز هذه الدراسة أيضًا أن فريق العمل لم يقم بتكرار النتائج السابقة من دراسات أصغر بكثير، لريبهم في دقة بعض النتائج، فقد كان يُعتقد في يوم من الأيام أن تطور اللغة البشرية يتوقف على التغيرات الطارئة على جين واحد لاحتوائه على طفرات غير موجودة في الشمبانزي والرئيسيات الأخرى، كما أن اضطرابات هذا الجين (FOXP2) تسبب شكلًا نادرًا من ضعف الكلام واللغة، لكن هناك تحليل الآن يشير إلى أن هذا الجين لم يخضع لتغيرات في التاريخ البشري الحديث بعد كل هذا التطور، وأن الاكتشافات السابقة ربما كانت ببساطة إشارات غير دقيقة.
ما هي مهارات القراءة واللغة التي تناولتها الدراسة؟
قام الباحثون باختبار المشاركين على مجموعة من المهارات المختلفة المتعلقة بالقراءة واللغة، والتي تضمنت ثلاث من هذه المهارات: القراءة بصوت عالٍ للكلمات (Horse)، أو نطق الكلمات غير المنطوقة (Chove)، والتهجئة، وأخيرًا الوعي الصوتي أو القدرة على التمييز والتلاعب بأصوات الكلام في الكلمات، وتقييمها من خلال مطالبة الناس بحذف الأصوات، مثل نطق (Stop) بدون S، أو إظهار الاختلاف في (Paddington Bear – Baddington Pear). أما عن الاختبار الخامس فكان محوره التكرار غير الكلامي، حيث يُطلب من الأشخاص تكرار كلمات متفاوتة الأطوال والتعقيد مثل (loddernapish)، ومهمة الاستماع، والذاكرة اللفظية قصيرة المدى، والتعبير.
كان الحمض النووي متاحًا أيضًا لجميع المجموعات، مما مكّن فريق (GenLang) من إجراء ما يُسمى بدراسة الارتباط على مستوى الجينوم (GWAS). استخدم الفريق تحليلات الارتباط الجيني للتحقق مما إذا كانت متغيرات الحمض النووي المتضمَنة في المهارات الخمس متداخلة مع بعضها البعض، ومع سمات التصوير المعرفي والدماغي الأخرى. إذا تمكنا من الكشف عن الأسس البيولوجية للمهارات التي ينطوي عليها التحدث والقراءة، فقد نتعلم المزيد عن كيفية تطور اللغة في جنسنا البشري، فضلاً عن فهم سبب وجود فروق فردية في هذه المهارات بشكلٍ أفضل، حتى في المجتمعات التي يتلقى فيها معظم الناس تعليمًا مماثلاً عالي الجودة لمحو الأمية وتعلم اللغة.
النتائج وعلاقتها بجينات الجنس البشري
أظهرت نتائج دراسة (GenLang) أن السمات الخمس المتعلقة بالقراءة واللغة ترتبط ارتباطًا وثيقًا على المستوى الجيني، مما يشير إلى وجود قواعد بيولوجية مشتركة بين جميع أفراد التجربة. وعلى الرغم من وجود دليل على التداخل الجيني مع القدرة المعرفية العامة (المهارات اللفظية وغير اللفظية)، إلا أنه كانت الارتباطات مع معدل الذكاء غير اللفظي منخفضة. كما وجد الباحثون ارتباطًا جينيًا بالفروق الفردية في التشريح العصبي لمنطقة الدماغ المرتبطة باللغة (التلم الصدغي الأيسر العلوي (STS)). وتلعب منطقة المخ دورًا مهمًا -مع مناطق أخرى- في معالجة اللغة المنطوقة والمكتوبة، لكن هناك أيضًا ارتباط جيني بأجزاء من الحمض النووي تلعب دورًا تنظيميًا في دماغ الجنين.
هل الطبيعة وحدها كافية لتعليم هذه المهارات أم أن التنشئة لها رأيٌ آخر؟
وصل الباحثون لنتائج مبهرة لفهم الإسهامات الجينية الجزيئية في السمات البشرية المعقدة، مثل اللغة، لكن توصلوا إلى أن بيولوجية المهارات المتعلقة بالقراءة واللغة معقدة للغاية، ولتطوير هذه المهارات، يعد تعليم القراءة واللغة أمرًا ضروريًا يستدعي تداخل كلٍ من الطبيعة والتنشئة في تطوير اللغة. كما قد يسهم الحمض النووي القديم من أشباه البشر الأحفوريين في فرصة جديدة ومثيرة، لتحديد متى نشأت آليات إنتاج الكلام المشتقة وطريقة تطورها. وأخيرًا، نأمل في المستقبل أن يواصل العلماء هذه الجهود بمجموعات بيانات غنية بالمعلومات الجينية تغطي نطاقًا أوسع، لتوضيح تطور مهارات القراءة واللغة بشكل أسرع وأسهل في مجموعات كبيرة من الأفراد، لمزيد من التطور للجنس البشري كاملاً.