الدايود والترانزيستور
د. أسامة السلمان الهندسة الكهربائية – جامعة الملك سعود – السعودية
قبل حوالي ٩٠ سنة، كانت حياة الإنسان بدائية وبسيطة جدًا فمعظم الأعمال يدوية أو ميكانيكية؛ حيث كانت وسائل النقل محدودة بتقنيات بدائية وقليلة الكفاءة، وكانت وسائل الاتصال الرئيسة شاقة وبطيئة مثل البريد والتلغراف. وعلى الرغم من اختراع الهاتف الأرضي إلا أنه كان حكرًا على رجال الأعمال والسياسيين فقط. في ذلك الزمن كان المصدر الوحيد للضوء هو الشمس نهارًا، والنار أو القمر ليلاً. وبسبب ذلك كانت حياة الإنسان تتطلب جهودًا أكبر حتى في الأنشطة اليومية، مثل غسل الملابس والطبخ والتنظيف وغيرها.
لا يكاد يخطر على عقل أي بشر عاصر تلك الحقبة أنه خلال سنوات قليلة ستظهر ثورة تقنية رقمية غير مسبوقة، حيث ستضاء السماء والبيوت والملاعب والأسواق بالأنوار والأشعة الملونة، وستنتشر في الأفق موجات كهرومغناطيسية تخترق جدران البيوت والأجساد؛ لتنقل معلومات ورسائل غير مرئية نستطيع التقاطها بأجهزة أو مستقبلات خاصة مثل الراديو أو الجوال أو التلفاز. وأيضًا من خلال تلك الموجات تتم رؤية الأشخاص، وسماع أصواتهم، وقراءة كلماتهم بشكل مباشر، حتى على بُعد آلاف الكيلومترات وكأنهم يقطنون بجانبنا. وستصبح وسائل النقل أكثر سهولة ومتعة. وسيتمكن الأطباء من رؤية تفاصيل الأعضاء الداخلية للإنسان وتشخيصها دون الحاجة إلى أي شق جراحي في الجسم وغيرها الكثير من التقنيات المذهلة.


لو أخبرت شخصًا في ذاك الزمن بهذه التفاصيل لقال إن هذه من المعجزات العظيمة أو المستحيلة، فمن فضل الله سبحانه وتعالى وكرمه أن مَنَّ علينا بمعاصرة هذه التقنية التي سهلت حياة الإنسان بشكل كبير. جميع هذه التفاصيل والتطورات في التقنية الحديثة التي نعيشها في هذا العصر تعتمد بشكل أساسي على عنصر إلكتروني بسيط يُسمى الدايود أو الصمام الثنائي (Diode). أحد الصمامين لهذا الجهاز يُسمى الأنود (Anode)؛ حيث تأتي تلك التسمية من كلمة يونانية بمعنى “المسار الأعلى”، ويعتبر الأنود هو القطب الموجب للدايود. ويُسمى الصمام الآخر بالكاثود (Cathode) وتعني ” المسار الأسفل” بنفس اللغة الآنفة الذكر، ويعتبر الكاثود هو القطب السالب. يتألف هذا العنصر الإلكتروني من تركيبة بسيطة تُسمى الوصلة الثنائية (PN junction)، تتكون من طبقتين من المواد الشبه موصلة، إحدى الطبقات هي طبقة الأنود وتُسمى بشكل عام “النوع الموجب (p-type)” (غنية بالفجوات الموجبة الحرة)، والأخرى هي الكاثود وتُسمى “النوع السالب (n-type)” (غنية بالإلكترونات السالبة الحرة).
يبدأ تصنيع تلك الطبقات بتحضير مادة شبه موصلة بنقاوة عالية (عادة يكون لها بالمدار الخارجي ٤ إلكترونات حرة)، مثل السيليكون، أو الجرمانيوم، وبعد ذلك تتم إضافة مواد أخرى لها (تسمى الشوائب). عادة تُستخدم شوائب ثلاثية التكافؤ (لها ٣ إلكترونات حرة في المدار الخارجي) مثل عنصر البورون، أو الألومنيوم، أو الغاليوم؛ لتشكيل الطبقة الموجبة من الوصلة الثنائية، حيث ترتبط ذرة من السيليكون أو الجرمانيوم مع الشوائب المضافة مكونة جزيئًا يحتوي على سبع إلكترونات (سبع روابط) في غلاف التكافؤ. وبذلك يكون هذا الجزيء قابلًا لاكتساب إلكترون إضافي لتحقيق التوازن اللازم للذرات (٨ روابط). وبنفس المبدأ يتم استخدام شوائب خماسية التكافؤ مثل عنصر الفوسفور أو الأنتيمون أو الزرنيخ لتشكيل الطبقة السالبة من الوصلة الثنائية، حيث يتم منح إلكترون حر الحركة عند حصول أي ترابط بين ذرات المادة الشبه موصلة والشوائب خماسية التكافؤ. عند تلاصق تلك الطبقتين نحصل على ذلك العنصر السحري الذي غيّر مفهوم حياتنا الحالي.
عند التقاء المادتين من النوع الموجب والسالب فإن الفجوات الحرة في النوع الموجب والإلكترونات الحرة في النوع السالب تتدفق من التركيز العالي إلى التركيز المنخفض؛ حيث يُسمى السطح الفاصل بين الطبقتين بالملتقى (Junction). فعلى سبيل المثال ينتقل الإلكترون الحر من النوع السالب مخترقًا سطح الملتقى ليصل إلى النوع الموجب، حيث يرتبط مباشرة مع الجزيء الذي كان يحتوي على سبع روابط ليجعل منه شحنة سالبة مستقرة، وبنفس النهج تنتشر الفجوات الحرة الموجبة لتصل إلى النوع السالب وتشكل شحنة موجبة مستقرة. وبسبب انتشار الإلكترونات والفجوات الحرة، تنشأ طبقة رقيقة على جانبي الملتقى تُسمى “المنطقة الفارغة”، وسُميت بذلك لأنها مفرغة من النواقل الحرة، وتتكون من شحنات مستقرة ثابتة فقط. نظرا لوجود شحنات موجبة وسالبة على جانبي الملتقى، يتولد مجالٌ كهربائي داخل المنطقة الفارغة معاكسًا لحركة انتشار النواقل الحرة. ذلك المجال يتسبب في توليد فرق جهد كهربائي يُسمى بالحاجز الجهدي يمنع من انتشار النواقل الحرة.
عند توصيل بطارية أو مصدر جهد كهربائي مع أقطاب الوصلة الثنائية، حيث يكون الجهد عند قطب الأنود (النوع الموجب) أعلى من الجهد عند قطب الكاثود (النوع السالب)، فإن الحاجز الجهدي ينخفض، وبذلك تسمح الوصلة الثنائية أو الدايود بتدفق تيار كهربائي.
يُستخدم الدايود بشكل رئيس لتوجيه تدفق التيار الكهربائي في اتجاه واحد فقط (من الأنود إلى الكاثود)، ولا يُسمح بمرور التيار بالاتجاه المعاكس. لذلك يُستخدم بشكل واسع لتصحيح التيار أو الجهد المتردد الذي يصل إلى المقابس في المباني المختلفة وتحويله إلى تيار مستمر، حيث يحجب أو يعكس الجزء السالب من موجة التيار المتردد ويسمح بمرور الجزء الموجب. هناك العديد من التطبيقات المختلفة التي تتطلب تحويل التيار المتردد إلى تيار مستمر، مثل شواحن البطاريات ومحولات الطاقة والأجهزة الإلكترونية المختلفة.
مع تقدم العلم، توسعت وتعددت تطبيقات هذا العنصر السحري فأصبح يُستخدم كمصدر مشع للضوء (مصباح ثنائي باعث للضوء أو LED) في المنازل والسيارات والشاشات بشتى أشكالها، ويُستخدم أيضا كحساس لشدة الضوء، ومنظم للتيار أو الجهد الكهربائي. ومن التطبيقات الهامة للدايود هي الخلايا الشمسية؛ حيث يتم تحويل أشعة الشمس إلى طاقة كهربائية لاستهلاكها بشكل مباشر في الأجهزة الكهربائية، أو يتم تخزينها في بطاريات خارجية ومن ثم الاستفادة منها لاحقا.



بعد عدة سنوات من اختراع الدايود وتحديدًا عام 1947م تمكن ثلاثة علماء هم وليام شوكلي، وجون باردين، و والتر براتين ينتمون إلى أحد أشهر المعامل في العالم (Bell Laboratories) من اكتشاف فريد من نوعه، ويُصنَّف كأحد أهم الاختراعات في التاريخ وهو الترانسيستور (بالإنجليزية: Transistor). الترانزستور هو نبيطة أساسية في الدوائر الإلكترونية المتكاملة والمعالجات الدقيقة، حيث يتكون بشكل رئيس من الوصلات الثنائية )أو الدايود( المصنوعة عادة من مادة السيليكون والشوائب المضافة. بشكل عام يحتوي الترانسيستور على ثلاثة أطراف أو أقطاب. عند تطبيق تيار أو جهد كهربائي على أحد الأقطاب نستطيع التحكم بالتيار أو الجهد في الطرفين الآخرين. هناك نوعان رئيسان من الترانزستور وهي:
1- الترانسيستور ثنائي القطب (Bipolar Junction Transistor)
وهو أبسط أنواع الترانسيستور، ويتكون من ثلاث مناطق تُسمى الباعث والقاعدة والمجمع. وبشكل مختصر نستطيع فهم آلية عمل هذا النوع من خلال أسماء تلك المناطق؛ حيث تنبعث الإلكترونات أو الفجوات من الباعث وتمر بالقاعدة، ثم تصل وتتجمع في منطقة المجمع مكونة تيارًا كهربائيًا. يتم تصنيع هذا النوع من الترانسيستور بطريقتين وهي؛ ترتيب مواد من أشباه الموصلات بشكل طبقات من النوع السالب أو النوع الموجب حيث تكون:
• سالب – موجب – سالب (npn)
• موجب – سالب – موجب (pnp).


2- ترانسيستور تأثير المجال (Field Effect Transistor)
وتُسمى مناطقه الثلاث بالبوابة والمصدر والمصرف؛ حيث تتحكم البوابة بفتح أو إغلاق قناة مرور التيار الكهربائي.عند تطبيق جهد كهربائي كافٍ من خلال قطب البوابة وقطب المصرف، يتولد مجال كهربائي بين طرفي الطبقة العازلة، ويسبب تشكيل قناة تربط بين المصدر والمصرف، فتنجرف الإلكترونات أو الفجوات من المصدر إلى المصرف، وعند إغلاق الجهد الكهربائي من البوابة فإن القناة تختفي وتمنع مرور التيار الكهربائي. يصنف الترانسيستور من هذا النوع بناء على نوع القناة المتكونة بين القطبين؛ حيث يُسمى “قناة سالبة” إذا كانت القناة تتكون من إلكترونات سالبة حرة، ويُسمى “قناة موجبة” إذا كانت القناة تتكون من فجوات موجبة حرة.


يُستخدم الترانسيستور في نطاق واسع من التطبيقات؛ حيث يُستخدم في تضخيم وتكبير الموجات، أو كمفتاح في الدوائر الإلكترونية، أو لتخزين المعلومات، أو في الكاميرات، وغيرها العديد من التطبيقات. لا يكاد يخلو أي جهاز إلكتروني حديث في جميع المجالات الأمنية والطبية والغذائية والطاقة والصناعة وغيرها العديد من المجالات من هذا العنصر الإلكتروني الذي لا يتجاوز حجمه عدة نانومترات (النانومتر هو جزء من مليار جزء من المتر). في عام 1965م، تنبأ المهندس الأمريكي جوردون مور بأن عدد الترانزيستورات في الدوائر الإلكترونية سيتضاعف كل عامين، وهو ما يُعرف الآن باسم “قانون مور”. وقد تحقق هذا التنبؤ حتى اليوم. شهد الترانسيستور تطورًا كبيرًا على مدار السنوات، حيث تمكَّنت الشركات المصنعة للأجهزة الإلكترونية من تحسينه وتطويره، ليصبح أكثر كفاءة وسرعة وأقل استهلاكًا للطاقة من خلال تحسين تصميمه وتقليص حجمه. تبلغ أبعاد الترانسيستور في العصر الحالي تقريبا 5 نانومتر، وهذا الحجم مقارب لأبعاد الهيموغلوبين في خلايا الدم الحمراء وأبعاد الحمض النووي (DNA) في جسم الإنسان. وبسبب هذا الصغر المتناهي، يمكن استخدام مليارات من الترانسيستور في المعالجات والدوائر المتكاملة. على سبيل المثال تمكَّنت شركة أبل (Apple) وشركاؤها من تصميم وتصنيع 114 مليار ترانسيستور في أحدث معالجاتها. على الرغم من التطور الصناعي الهائل في علم أشباه الموصلات والترانسيستور إلا أن أداء المعالجات والدوائر الكهربائية اقترب من الوصول إلى الحد الأعلى، وأصبحت نهاية قانون مور وشيكة بسبب استحداث تقنيات مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية وإنترنت الأشياء وغيرها، التي تتطلب إلكترونيات أكثر تطورًا وقوة، فقد لا يتمكن الإنسان من تطويرها إلى حد أبعد بسبب أن حجم الترانسيستور الحالي أصبح مقاربًا لحجم ذرة أشباه الموصلات التي تبلغ أبعادها تقريبا 0.2 نانومتر بالإضافة إلى العوائق الأخرى. لذلك بدأت الشركات المصنعة والعلماء والباحثون في إيجاد طرق بديلة للاستمرار بتطوير أداء الترانسيستور. واحدة من الطرق المذهلة هي استخدام ترانسيستور ضوئي ينقل المعلومات بسرعة الضوء، حيث يعتمد في نقل المعلومات على جسيم الفوتون بدلا من الإلكترون.

وبشكل عام، يمثل الترانسيستور جزءًا حيويًا من الدوائر الإلكترونية والتكنولوجيا الحديثة، ويعتبر حاليًا أصغر وأكثر كفاءة من أي وقت مضى. ومع تحسين تصميم الترانسيستور والتطور المستمر في التكنولوجيا، فإنه سيستمر في لعب دورٍ حيوي في حياتنا اليومية وتطور الإنسانية.
المصادر العلمية:
- Couch, James F. “The Terms Anode and Cathode.” Science 59, no. 1520 (1924): 163-163.
- Sedra, A., and K. Smith. “Microelectronic Circuits. New York, 2004.” 419-421.
- Riordan, Michael, Lillian Hoddeson, and Conyers Herring. “The invention of the transistor.” Reviews of Modern Physics 71, no. 2 (1999): S336.
- Tian, Bozhi, Tzahi Cohen-Karni, Quan Qing, Xiaojie Duan, Ping Xie, and Charles M. Lieber. “Three-dimensional, flexible nanoscale field-effect transistors as localized bioprobes.” Science 329, no. 5993 (2010): 830-834.
- Thompson, Scott E., and Srivatsan Parthasarathy. “Moore’s law: the future of Si microelectronics.” Materials today 9, no. 6 (2006): 20-25.
- Meena, Sanju, Neetika Sharma, and Jyotika Jogi. “Sub‐5 nm 2D Semiconductor based Monolayer Field Effect Transistor: Status and Prospects.” physica status solidi (a) (2023).
- Yang, Xuanyu, Xiaowei Cheng, Hongyuan Song, Junhao Ma, Panpan Pan, Ahmed A. Elzatahry, Jiacan Su, and Yonghui Deng. “3D interconnected mesoporous alumina with loaded hemoglobin as a highly active electrochemical biosensor for H2O2.” Advanced Healthcare Materials 7, no. 11 (2018): 1800149.
- Bashir, R. “Invited Review: DNA-mediated artificial nanobiostructures: state of the art and future directions.” Superlattices and Microstructures 29, no. 1 (2001): 1-16.
- Bei, Qiaozhu, Wanru Huang, Yichang Wang, and Shuaiyan Xiong. “The effect of operation systems on consumer population in smartphones market.” Highlights in Business, Economics and Management 8 (2023): 348-354.
- Miller, David AB. “Are optical transistors the logical next step?.” Nature Photonics 4, no. 1 (2010): 3-5.